سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ديانا مريع
المقدس هو ما لا يمكن التفكير فيه ويمنع التفكير فيه، وهو الذي لا تستطيع تخطئته والتشكيك فيه، ولا يراد لك معرفته، وليس في متناول مقدرتك العقلانية المنطقية؛ لأنه مقدس. وهو الذي لا تستطيع رتق شقه ورأب صدعه وإيجاد النقص فيه؛ لأن تقديسك له يعني أنك لا ترى عيوبه أصلاً. وهو الذي يوقف لديك ملكة التفكير العلمي النقدي العقلاني تجاهه، فلا ترى مغالطاته المنطقية؛ لأنه الحقيقة المطلقة اللامتناهية، وهو الذي يقلقهاتجاه مقدسات الآخرين فترى مغالطاتهم وتشكك في أساطيرهم وكأن لك عقلية تجريبية موضوعية لا تتوافق بسهولة مع الخرافة والوهم والعوالم المتخيلة، والمشكلة أنك لا تعلم أنك مثلهم لم تخرج فكريًا من مناخ القرون الوسطى، وأن نشيدكم جميعًا عن مقدساتكم التي لا يكون مركزها الإنسان، وتغرّب الإنسان عن إنسانيته في هذا العصر يشبه نشيد البجع المحتضر.. هذا المقدس الذي قد يسلب حريتك ويجعلك تخون ضميرك الإنساني، هو يقينك الدوغمائي واستسلامك الداخلي وعاطفتك المفرطة التي دفنتك في كهف أفلاطون، وضللتك بأوهام بيكون الأربعة، ومنعتك من البحث في تناقضاتك الذاتية وتطوير نموذج فكري يلبي طموحاتك كفرد حر ذي إرادة مستقلة..
المقدس لا يمس؛ لأنه غاية في حد ذاته لدى من يقدسه ولو كان خرافة تتعارض مع معايير العقل والواقع التجريبي. كما أن الخرافة الموروثة من المقدس نفسه، تعلم الفرد على التعصب ومناطحة الآخر وتسفيه أفكار المستنيرين الباحثة عن تحريره من سجن هذه الخرافات التي تبوأت الأولوية لديه على الحقائق المجردة وعلى الواقع والعقل، فهو يقرأ الأساطير والقصص التي أنتجتها العقول البدائية قبل عشرات القرون بعقلية أرثوذكسية راديكالية تطبقها بشكل حرفي وتقصي الآخرين وتحتقر سؤالهم وشكوكهم وعقولهم دفاعًا عنها.. خرافته المقدسة هنا بمثابة السياج الذي يقطع البشر المنبوذين في “الغيتوات” عن الاتصال بالعالم الخارجي وعن الاتصال مع الآخر بحياته الواسعة وثقافته الحرة المتنوعة وبمناخه الذهني المفتوح..
ولعل جزءًا من مفهوم المقدس تجده في الفكرة المثالية، والمثالية في
الأفكار والتشريعات عبارة عن أوهام، فالفكرة المثالية لا يمكن تطبيقها
لأن الواقع لا مثالي. كما أن الأفكار المثالية لا تنتجها إلا عقلية بدائية، وستجد علاقة بين البدائية والمثالية التي توهم الإنسان بأنه الأفضل، ولا
يليق به إلا تطبيق الفكرة الأمثل التي هي في الحقيقة فكرة غير واقعية
ومستحيلة التطبيق؛ لذلك المجتمعات البدائية الساذجة هي البيئة الأمثل
لازدهار الأفكار المثالية..
المقدس من موضوعات النظرية النقدية في عصر ما بعد الحداثة، وحرية
التعبير في هذه المرحلة لدى المثقفين في الغرب، وريث أوروبا الأنوار
ونظريات الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي، تتضمن حرية نقاش المقدس ونقد التراثات اللاهوتية المقدسة وحرية ازدراء المعتقد المقدس، خاصة إذا كان شموليًا يكرس التطور العلمي المحض وحياة الفرد من أجل بقائه حيًا، ولا يترك للفرد حرية التصرف دونه. ففي هذه المرحلة، مرحلة ما بعد الحداثة، ومشروعها الثقافي، معتقدات الفرد وأفكاره التي يتشارك معه فيها الملايين، ليست مقدسة، لأنها ليست هو، ليست أناه، وليست ذاته. فمن ينتقد معتقداتك وأفكارك “هذه”، ليس كمن يصفع وجهك “أنت”، فهو حر في تصرفه الأول، وليس حرًا في تصرفه الثاني، وهذا هو الفرق، وهذا هو جوهر حرية التعبير وحدودها.. في عصر ما بعد الحداثة، معتقداتك وأفكارك ليست حقائق إلهية، المقدس فقط حريتك الفردية وضميرك الإنساني..
كاتبة سعودية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر