الفقر وشبح المجاعات.. هل يعزِّزان الإرهاب؟ | مركز سمت للدراسات

الفقر وشبح المجاعات.. هل يعزِّزان الإرهاب؟

التاريخ والوقت : الإثنين, 11 يوليو 2022

عمار علي حسن

 

على مدار عقودٍ من الزمن وهناك رؤى وتصورات، بعضها يحيل إلى دراسات أو استطلاعات ميدانية، تربط بين الفقر والتطرف، وتسحب جزءاً من الأخير، لينتقل من تشدد الفكر إلى ممارسة العنف السافر، وبذا تصنع علاقة ما بين الفقر والإرهاب.

بالطبع فإن هذا التصور كان، ولا يزال، ابن الفكر اليساري، بأنواعه المتدرجة من الماركسية ـ اللينينية إلى الاشتراكية الاعتدالية، وبعض الأيديولوجيات القومية التي عرفها العالم العربي، مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، وكان جوهر كل هذا يقوم على أن الاحتياج المادي يخلص إلى ثلاثة تصرفاتٍ تتكامل:

1 ـ يؤدي اختلال توزيع الثروة والموارد إلى غضب وحنق على الدولة والمجتمع، ينزع بأصحابه إلى الاحتجاج، وهذا يجد متنفساً له في  الرفض الذي تتبناه الجماعات والتنظيمات المتطرفة، سواء على مستوى الأفكار، أو مستوى الممارسات الواقعية، نظراً لأن هذه التنظيمات تطرح نفسها في كثيرٍ من الدول باعتبارها تشكل المعارضة القوية والحية والواعدة.

2 ـ يصنع الإفقار المنظم، عمداً كان أو غير ذلك، فرصة لدى قادة التنظيمات والمتطرفة لاستهداف الفقراء والمهمشين من الشباب، الذين يبحثون عن أي فرصة لكسب ما يقتاتون به، أو يقيم أودهم، ويبقيهم على قيد الحياة. وأحياناً نجد في أدبيات هذه التنظيمات أو تلميحاتها ما يشير إلى السير على خطى بعض المبشرين الذين يستغلون الفقر لنشر المسيحية في مجتمعاتٍ معزولة تعيش في عوزٍ شديد، وشيء من الإبهام.

3 ـ  يؤدي الإرهاب نفسه إلى الإفقار، وهذا يتم إما بشكلٍ مفرط وجارح كهروب الاستثمارات من البلاد التي تشهد إرهاباً متواصلاً، أو عدم تمكن الدولة من تنمية المناطق التي تستهدفها التنظيمات المسلحة، بل يحدث العكس تماما حين يهاجم الإرهابيون المنشآت الاقتصادية الموجودة بالفعل، في مسعاهم لاستنزاف قدرة الدولة، تحت لافتة ما يسميه الإرهابيون “الجهاد الاقتصادي”، وإما يحدث هذا بشكل أقل إفراطاً جراء استحلال هذه التنظيمات لأموال المواطنين لجمع ما يمكنها من تأمين مصادر تمويل لأنشطتها.

لكن هذه الرؤية اليسارية لاقت انتقاداتٍ دائمة من قبل أولئك الذين يستندون إلى دراساتٍ ميدانية مضادة، أو إلى تحليلٍ عميق لأفكار فقراء المتطرفين وممارساتهم، حيث يعزوها إلى أربعة أمورٍ أخرى، هي:

1 ـ البحث عن حماية أو ملاذ، إذ أن بعض المهمشين أو المستبعدين اجتماعياً أو المهملين، يبحثون عن سند أو عزوة لهم، ويجدونها في جماعاتٍ منظمة متماسكة، يدها ليست مغلولة، بل مبسوطة ببعض المال أو القدرة على إيذاء الخصوم. وهناك أدلة كثيرة على أن ما دفع بعض الشباب، خصوصاً في الريف، إلى الانتماء إلى هذه الجماعات هو أن هؤلاء ينحدرون من عائلاتٍ صغيرة محدودة وفقيرة، تمارس عليها العائلات الأخرى قدراً من الاستعلاء أو الإزدراء.

الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات القَبَلية، حيث يجد بعض أبناء القبائل صغيرة العدد، وضحلة العمر أو التاريخ، ورقيقة الحال، أنفسهم في حاجة إلى الإنضمام لأبنية اجتماعية مختلفة، أقوى منزلة، وأعلى جبهة، ولديها قدرة على تجاوز القبيلة التقليدية في كثيرٍ من الأحيان، وممارسة نفوذ مواز، يسعى إلى التغلب.

2 ـ اختصام المجتمع والدولة لأسباب قيمية، تتكئ بالطبع على التصور الديني الذي يتبناه المتطرفون، أو تنبع منه. فهؤلاء يرون أن القيم السائدة في المجتمع لا تعبر عنهم، أو بالأحرى لا تعكس الأيديولوجية التي يظنون أنها تنطق بلسان الإسلام، والتي يجب على جميع المسلمين من حولهم أن يتمسكوا، بل ويحتفوا بها، وتعلو على ما عداها، أيا كان منهله، سواء قيم تقليدية متوارثة أو أخرى عصرية نتيجة التفاعل مع واقع متجدد أو الاحتكاك بثقافاتٍ ومجتمعات مغايرة.

3 ـ ينزع التصور الاقتصادي الذي تتبناه الجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية عموماً، المتطرف منها والمعتدل، إلى الرأسمالية، ويعتقد منظرو هذه التنظيمات وأتباعها أن هذا هو المسلك الحياتي الذي يعبر عنها في عالم الأصالة والوكالة، والحلال والحرام، والبيع والشراء، والتملك والاستئجار، والمزارعة والمضاربة.. الخ.

ويميل هؤلاء أكثر إلى أن الحياة مجبولة على التدرج والتفاوت، شرط أن يكون للفقراء والمساكين في عنق الأغنياء زكاة، وهي فريضة، وصدقات، وهي واجبة. من هنا فإن من الصعب على هذه التنظيمات أن تتبنى في إخلاص حتى الأفكار الإسلامية التي تتحدث عن “العدل الاجتماعي” باعتباره من جواهر الدين، التي يجب أن تقام وتعلو.

وقد ظهر هذا جلياً، على سبيل المثال لا الحصر، في تهميش المسار الذي قطعه أبو ذر الغفاري، والانشغال بالعدل السياسي في سلوك عمر بن الخطاب أكثر من العدل الاجتماعي، ورفض كل ما قيل وكتب عن “اشتراكية الإسلام” وفي مقدمتها كتاب مصطفى السباعي، بل إن أكبر منظر لدى التنظيمات المتطرفة وهو سيد قطب فترت همته حيال كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” ثم أتى من متبعي أفكاره من أهملوا هذا الكتاب بقسوة، وزعموا أن قطب قد قال في آخر حياته إن ما يريد له العيش من مؤلفاته؛ هما “معالم في الطريق” و”في ظلال القرآن”.

4 ـ من الخطأ، بل الخطل، أن نرجع كل سلوك اجتماعي إلى أسباب مادية، أو بمعنى أكثر تحديدا إلى “الصراع الطبقي”، فكثير من التصرفات ترتبط بمسائل معنوية ورمزية. ويستدل هؤلاء في طرحهم المضاد على أن بعض قادة التنظيمات المتطرفة والإرهابية كانوا من أبناء العائلات الموسرة، والمثل الصارخ الذي طالما ظل يُضرب في هذا الاتجاه هو أسامة بن لادن، رجل الأعمال الذي سخر ثروته في خدمة فكرته، وكذلك نائبه في قيادة تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، وهو من عائلة مصرية تنتمي إلى الشريحة العليا للطبقة الوسطى. وعلى المنوال ذاته، ولو بدرجة أقل، يأتي وضع العناصر الفاعلة في بعض التنظيمات، ومنهم الذين كانوا يدرسون في كليات الطب والهندسة والعلوم، ويعدهم التعليم بحراك اجتماعي يأخذهم إلى الأمام دوماً.

لكن أيا كان الخلاف الفكري أو الفقهي حول حجية الفقر في إنتاج التشدد، ودفعه إلى الإرهاب، فإنه لا يمكن استبعاده من الأسباب المتعلقة بهذا السلوك، إن لم يكن بإنتاجه، فعلى الأقل بتغذيته أو تحفيزه، وحرث الأرض أمامه، من خلال طريقين، الأول هو نصب فخاخ لصيد بعض شباب الفقراء، وضمهم إلى التنظيمات المتطرفة والإرهابية، والثاني هو توظيف الفقر في إزكاء النزعات الاحتجاجية ضد الدولة، التي تصارعها هذه التنظيمات على الشرعية السياسية والمشروعية القانونية. وقد جاءت العولمة، وفي ركابها ثورة الاتصالات الرهيبة، لتدفع هذا التوجه إلى الأمام.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هذه الجماعات يمكنها أن تستغل ما يترتب على الانهيار الاقتصادي للدول، إثر فقر مدقع ومجاعة مفرطة، في التسلل إلى أماكن المستبعدين اجتماعياً على نحو قاسٍ ولا أمل في تجنبه، ثم السيطرة عليها، بعد أن تخف قبضة الدولة المركزية فيها، أو تتراجع شرعيتها الأخلاقية والسياسية لدى أهلها، بعد أن تعجز الحكومة عن إنقاذ الناس من مجاعة مهلكة. فوقتها يمكن لهذه الجماعات أن تقدم نفسها بديلاً للسلطة المركزية، لا سيما إن وجد قادة المتطرفين من يمدهم بالمال من الخارج ليستغلهم في تحقيق أهدافه.

وهذا التصور لم يقف عند حد اليسار، بل بدا الجميع مقتنعين به، وهي مسألة ترجمتها استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب، وورد بها قرار الجمعية العامة، وخطة عمل قدمها الأمين العام لمنع التطرف العنيف (A/70/674)  وضعت -من ضمن الأسباب التي تؤدي إلى التطرف- كلاً من قلة الفرص الاجتماعية والاقتصادية، والتهميش والتمييز؛ جنباً إلى جنب مع سوء الإدارة؛ وانتهاكات حقوق الإنسان، وسيادة القانون؛ ونشوب النزاعات طويلة الأمد، ونشر الفكر المتشدد في السجون.

وهنا يقول آدم الحريكة؛ مدير إدارة الاقتصاد الكلي باللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، إن نحو أربعين في المائة من سكان القارة السمراء يعانون من الفقر، الناجم في جانب منه عن عدم المساواة في توزيع الثروة والموارد.

 لقد بات من المؤكد أن التنظيمات المتطرفة متعددة المشارب والاتجاهات؛ مثل “بوكو حرام” التي تنتشر في نيجيريا والنيجر وتشاد، و”القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، و”جماعة المرابطون” و”حركة الشباب الصومالية” وجماعة “نصرة الإٍسلام والمسلمين” في مالي، و”أهل السنة والجماعة” في موزمبيق، و”ولاية غرب إفريقيا” و”ولاية غرب إفريقيا” التابعتين لتنظيم داعش، إلى جانب “جيش الرب” المسيحي الموجود في أوغندا، تستفيد من انتشار الفقر، إما بجعل السكان خزاناً بشرياً لهم، أو استغلال حاجة الناس إلى متطلبات حياة بسيطة في تجنيدهم بعد توفيرها، أو على الأقل خلق بيئة حاضنة للتطرف والإرهاب أو محفزة عليه.

وإذا نظرنا إلى الأماكن التي تنشط فيها “بوكو حرام”، على سبيل المثال، سنجد أنها هي المناطق التي تعاني من فقر شديد وتهميش، والأمر نفسه ينطبق على الأقاليم التي تتمدد فيها الجماعات المتطرفة في دول الصحراء والساحل، أو في الحزام الإسلامي بوسط آسيا وجنوبها، وحتى في شمال سوريا، وفق تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان، حيث تدفع الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، جراء الغلاء، وتدني فرص العمل أو انعدامها، وغياب التنمية، كثيراً من الشباب إلى الانضمام إلى بعض التيارات الإرهابية، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” سابقاً، بغية الاستفادة من المرتبات والحوافز الشهرية التي تتيحها هذه التنظيمات، لا سيما بعد أن تبنت هذه الجماعة المتطرفة مظالم الناس الاقتصادية ضمن تصوراتها أو برامجها.

لقد تعددت، من قبل، أسباب ضعف قبضة الدول على بعض مناطقها أو أقاليمها، لا سيما الطرفية منها، واليوم يمكن أن يتعزز سبب جديد مع شبح المجاعة التي تهدد العالم، إثر تداعيات الحرب الروسية الأطلسية التي تدور على أرض أوكرانيا.

فالبلدان المشتبكان مباشرة في هذه الحرب يشكِّلان المصدر الأكبر للحبوب والزيوت، وكثيرٍ من الأغذية لأغلب دول العالم، وفي قلبها دول عربية وإسلامية، تنتظر تنظيمات متطرفة فيها، إخفاق الحكومات في توفير القوت للشعوب، فتعمل الجماعات السياسية الإسلامية على إسقاط السلطات، وتحل مكانها، أو على الأقل تصير رقماً في المجتمع.

إن من يحلِّل الخطاب السياسي لهذه الجماعات اليوم يجده مفعماً بشماتةٍ جارحة في سلطات كثير من الدول المسلمة لأنها ستعجز عن تلبية احتياجات الناس، وأن الفقر المدقع الذي ينتظرهم والمجاعة التي ستجتاحهم، لا محالة، ستجرف معها هذه الحكومات.

بل إن هذا الخطاب لا يقتصر على الشماتة والتشفي، إنما يمتد إلى توعدها بالسقوط على أيدي جماعات “الإسلام السياسي” التي لا تزال تشكِّل في كثيرٍ من الدول بديلاً مطروحاً إثر ضعف القوى المدنية.

 

المصدر: كيو بوست

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر