سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عساف المسعود
يتشابه الفضاء الرقمي المتمثل في تطبيقاته من منصات تواصل اجتماعي وألعاب تفاعلية مع الفضاء العام في أجزاء واسعة من حيث التركيبة والنسق – الفضاء العام – الذي يمكن وصفه بأنه تلك المساحة المعنوية للتفاعل بين الأفراد، الذي ينتج أهم منتج بشري وهو “الثقافة”؛ أي أنه وفقًا لهذا التشابه، فإن الفضاء الرقمي يمكنه أيضًا أن ينتج ثقافة موازية إلا أنها أكثر تعقيدًا لارتباطها بالتكنولوجيا والتصاقها بمفهوم العولمة.
وعند قراءة الثقافة الرقمية، وتحديدًا النشأة، لا بدَّ أن ننطلق من الفضاء العام السابق للفضاء الرقمي، كون الفضاء العام هو من إنتاج الفضاء الرقمي، وعند تتبع ذلك سنصل إلى حقيقة هي أن الفضاء العام الذي أنتج الجزء الأكبر من الفضاء الرقمي هو نتاج تفاعلات وحراك الفضاء العام في الغرب.
وعلى هذه القاعدة نناقش فضاء رقميًا مثل: توتير، وفيسبوك، وإنستغرام، وسناب شات، وحتى يوتيوب، كنماذج تعبر عن التطور الثقافي للفضاء العام في الغرب، والمدعوم تاريخيًا برغبة ملحة في “تقليص كل شيء” مما انعكس على القفزات الحضارية في الفكر والتكنولوجيا، حيث أثمر النقاش المستمر في الغرب تقليص بعدي المكان والزمان، ليس من حيث أصلهما، إنما في الفروقات الناتجة عنها، فأنتج الغرب الطائرة والهاتف لتتقلص معها المدة الزمنية في السفر والتنقل والاتصال، كذلك الفضاءات الرقمية التي قلَّصت هذين البعدين مما أسهم في تسريع التواصل الإنساني والحضاري وفي حالات… تقليص المعرفة.
ما هو حقيقة وليس رأيًا أن من يقود الثقافة الرقمية هو الفضاء العام الغربي المتمثل في الولايات المتحدة وغرب أوروبا، وهنا فرق بين ما أنتجه الغرب في المجالات العلمية والصناعات، ومجال الفضاء الرقمي، فالأولى تعبر عما هو مادي، أمَّا الثاني فيعبر عمَّا هو ثقافي.
من الجيد في هذا السياق التذكير أن مفردة الغرب أو الغربي لا تأتي في سياق الشر أو الأعداء، إنما تعني المسار الغربي في التفكير الحضاري الذي يتمثل اختصارًا في مفهومين أو نظامين هما: الرأسمالية، والليبرالية الجديدة، حيث يسيطر هذان المفهومان على الفضاء العام الغربي والنفوذ العالمي؛ إذ تسود الرأسمالية في الأسواق العالمية منطلقة من مبدأ حرية السوق والتنافسية، وهذا يشابه ما يحدث في الفضاء الرقمي من تنافسية محمومة بين المنصات الرقمية ووسائل التواصل في جذب المستخدم أو المستهلك؛ مما خلق مجتمعات استهلاكية للفضاء الرقمي، فأغلب مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي مستهلكون لما يعرض عليهم من ثقافة ونقاش، يشابه ذلك الأسواق المالية التي تطورت داخل الفكر الرأسمالي، فالأسواق تتداول أموالاً مقابل تداول المنصات الرقمية لثقافة ونقاش.
يتضح التصور أكثر مع فكرتي التسويق والإعلان اللتين تطورتا بشكل كبير داخل النظام الرأسمالي، أي أن التنافسية بين المنصات الرقمية أو الشركات دفعت كل منصة لتطويع هذين المفهومين لجني أرباح أكبر، حتى إنها طوعت آليات نفسية باستخدام الذكاء الاصطناعي لمزيد من الأرباح في هذا الفضاء الرقمي، إلا أن ما يميز بين ما هو عام ورقمي، هو الجانب الاقتصادي. فالمنصات الرقمية ساهمت بشكل كبير في دعم فكرة الاقتصاد التشاركي، فمثل هذه المنصات تشارك الأرباح مع مستخدميها من الأفراد نظير تقديمه محتوى ونقاشًا، بشكل مختلف عن الاقتصاد الرأسمالي الذي يشارك الأرباح مع الأفراد نظير أموال وأسهم وسندات وكل ما هو مادي.
وهذا يدعمه الفضاء العام الغربي في نقاشه، من خلال فكرة “الليبرالية الجديدة”، أو ما سمي بـ”النيوليبرالية” ذات الانحياز الاشتراكي، التي تقول إنها تسعى لتقليص التفاوت في توزيع الثروات بين الطبقات التي اتسعت في النظام الرأسمالي من خلال تعزيز الاقتصاد التشاركي.
إلا أن “النيوليبرالية” لم تأتِ بهذا الشيء فقط، إنها تحاول استبدال مفهوم “الصالح العام” أو “المجتمع” بمصطلح “المسؤولية الفردية” بتعزيز الحرية الفردية وحقوق الإنسان، إلا أن المفارقة أنها تسعى في الوقت ذاته إلى الحصول على شرعية اجتماعية من المجتمع الذي تسعى لاستبداله.
تتركز “النيوليبرالية” في الولايات المتحدة وغرب أوروبا وتجد دعمًا من الأحزاب السياسية اليسارية، حيث تفرض كثيرًا من الأمور على المحافظين واليمينيين، وبهذا التحالف استطاعت القوى اليسارية استبعاد الرئيس “ترمب” من الفضاء الرقمي، كما تستبعد كثيرًا من الأفكار والنقاشات، مثلما فعل “تويتر” مؤخرًا عندما أغلق حساب السفارة الصينية في الولايات المتحدة.
لم تنضج “النيوليبرالية” لليوم، فهي تحاول بنقاش مستمر أن تخرج من معضلة ما هو أخلاقي وغير أخلاقي؛ إذ إن تطبيق مفهوم أخلاقي مثل “الأهلية” يكاد يكون معدومًا في الفضاء الرقمي؛ مما قد يتسبب في ضرر كبير على سلوك وأخلاق لمن هم دون سن الرشد.
يتجاوز الفضاء الرقمي كذلك فكرة “الأهلية” بتخليه عن تحديد قابلية الفرد أو المستخدم بأن يكون صاحب حق أو التزامات، مما جعل الفضاء الرقمي فضاءً خصبًا لتطور وتداول الأفكار الإرهابية والمتطرفة وغير الأخلاقية. أمَّا الجانب المظلم من الفضاء الرقمي، فهو ما يدور في روسيا حيث تناقش الحكومة بجدية انخراط أطفالها في بعض محتوى ومنصات الفضاء الرقمي من ألعاب دفعتهم للانتحار وارتكاب الجرائم.
إن الفكرة الصينية في حجب جزء كبير من الفضاء الرقمي ليس حلاً يناسب “النيوليبرالية” والنظام الرأسمالي، إنما الفكرة لا بدَّ أن تنطلق من الرأسمالية نفسها، التي تتمثل فيما ذكره “تييري بريتون” المفوض الأوروبي للسوق الداخلية خلال مناظرة جمعته مع الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك “مارك زوكربيرغ” حيث قال له: “في أوروبا لدينا قيم واضحة وقوية، إذا كنت تفهم جيدًا مجموعة قيمنا التي نبني عليها قارتنا، عامًا بعد عام، فأنت تفهم كيف يجب أن تتصرف”، بالإضافة إلى تزايد قلق مسؤولي الاتحاد الأوروبي حول حماية بيانات المستخدمين الأوروبيين، بعد أن كشفت صحيفة “الغارديان” عن برنامج التجسس الأميركي المسمى “بريزم”، والذي استخدمته وكالة الأمن القومي الأميركية للتجسس على عدد كبير من الدول، ومن بينها دول صديقة وحليفة.
إن الحل الآخر الذي سيخلق توازنًا بين الفضاء العام والفضاء الرقمي هو فرض ضرائب على مثل هذه المنصات تحسب على عدد المشتركين وأرباح الإعلانات، وأن تدخل الحكومات من خلال الضريبة لهذا الفضاء الرقمي الذي بدأ في التمدد وتجاوز ما هو ثقافي إلى ما هو اقتصادي بدخول العملات الرقمية.
كاتب وباحث أكاديمي سعودي*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر