سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ماتيو روسو
في الوقت الذي تدفع الاختراعات التكنولوجية المُربكة، إلى جانب التحديات الاجتماعية والسياسية، العالم وتُشكِّله، يواجه الإدراكُ البشري صعوباتٍ كبيرة في مواكبة هذه التطورات الجذرية وغير المسبوقة.
ذلك أن الديمقراطيات والتكنولوجيات تقود عملية التغيير، وتؤثر على بعضها البعض في نموذج مميز سيؤثر في نهاية المطاف على كل جانب من جوانب حياة البشر. وفي خضم عملية إعادة تفكير شاملة في النماذج الليبرالية، تواجه الديمقراطيات عملية تكيّف، تحكمها استراتيجيات اتصال مشوهة، وغير منظمة. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن العولمة المفرطة، بدلًا من أن تؤدي إلى الانهيار المتوقع لهويات الدولة القومية، فقد عززت الحركات الرجعية، التي يتمثل هدفها النهائي في تحصين الهويات القائمة على “نحن” مقابل “الآخر”.
نتيجة لذلك، تتكشَّف ظاهرةٌ أُطلق عليها اسم “العولمحلية” (glocalization)، إلى جانب فكرة “الحماية من خلال الإقصاء”. وتدمج هذه الاتجاهات في السرد السائد داخل المجتمعات الديمقراطية الغربية، التي تواجه أزمة قيم. في هذه المجتمعات، تُقدِّم الجهات الفاعلة الانتهازية نفسها على أنها “مدافعة عن الديمقراطية” ضد مؤسسة سياسيات فاسدة. عملية نزع الشرعية عن المنافسين تستقطب الرأي العام بقوة وتقوّض جوهر الديمقراطية، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع قيم مثل التسامح. في الوقت نفسه، يمزق هؤلاء الانتهازيون النسيج الاجتماعي للأمم.
إضافة إلى ذلك، ففي داخل الفضاء الإنترنتي غير المنظم المفرط في الديمقراطية، والذي يفتقر إلى حدودٍ واضحة، تسعى القوى غير الليبرالية إلى تعطيل الإجماع من خلال تبني وجهات نظرها ونظرياتها الخاصة، والوصول إلى أشخاص ربما لم تكن تستطيع الوصول إليهم في أوقاتٍ سابقة. ومن ثم، يتحول التواصل إلى استراتيجية للإقناع من خلال المعتقدات والآراء المستقطبة، ما يدخلنا في دائرة مفرغة.
في هذا الصدد، يرى يورجن هابرماس -أحد أهم الفلاسفة الألمان في النصف الثاني من القرن العشرين والمعروف باسم مؤسس النظرية الاجتماعية النقدية- أن هياكل التواصل المتبادلة متأصلة في المجتمعات الديمقراطية. هذه الأنماط التواصلية الواضحة تسمح لنا بفهم بعضنا البعض والالتزام بمجموعة محددة من القيم والمبادئ. كما أن هذه القيم ليست غير قابلة للتغيير، بل مناسبة لثقافات وسياقات اجتماعية-سياسية محددة.
والواقع أننا كأفراد نتفق على قواعد تم تعريفها على أنها “قاعدة صلبة من القناعات الأساسية المشتركة، والحقائق الثقافية البديهية، والتوقعات المتبادلة”. وبغض النظر عن المعتقدات الدينية والشخصية، نحن قادرون على حل النزاعات من خلال “أخذ منظور الآخر” في الاعتبار. وفي هذا الصدد، يمكن للمتحدث والمستمع أن ينشئا اتصالًا مثمرًا، يقود في نهاية المطاف إلى فهم وجهات النظر المتبادلة.
سوء التواصل يولّد العنف
من ناحيةٍ أخرى، يتغذى الإرهاب على الاتصالات المشوهة. لذلك، فإن الإرهاب مفارقة: بُعد بلاغي للأفعال التواصلية والرمزية التي تُركز على الافتقار التام إلى التواصل المتبادل. وعليه، يمكن تعريف الإرهاب بأنه أفعال غير لفظية إنجازية أو “عملية إيصال رسالة من خلال استخدام أفعال رمزية في شكل عنف لإحداث تغيير من جانب السلوك السياسي للمتلقي”. ومن أجل تفسير سبب نجاح الإرهاب في سياقاتٍ محددة أكثر من غيرها، ينبغي النظر في أثره التواصلي في سياقٍ محدد.
بصفته مدافعًا عن مبادئ التنوير، يعتقد هابرماس أن أفكارًا مثل الحرية العالمية والتسامح هي شروط مسبقة للديمقراطيات المستقبلية، وأنه من المهم حل النزاعات بين الدول من خلال آليات “سيادة القانون”. ويحدد أسباب تدهور عمليات الاتصال في العولمة التي تفاقم الاختلال المتنامي في التوازن بين البلدان الغنية والفقيرة. الدين نفسه لا ينتج العنف تلقائيًا، بل العنف ينتج عن عدم المساواة الاجتماعية وانعدام التضامن.
ومن هذا المنطلق، ينشأ العنف من عدم القدرة على إيجاد أرضيةٍ مشتركة عند التفاوض بشأن العلاقة “البينذاتية” أو الذاتية المشتركة. لذلك، وبغض النظر عن الأطروحات حول “صدام الحضارات” بين ما كان يسمى ذات يوم بالمسيحية والإسلام، أو المسألة المُحيّرة بين الدين والعلمانية، فإن نظرية هابرماس ترى أن الإرهاب الحديث نتاج فشل متوطن وواسع النطاق في التواصل.
في الوقت الحاضر، يغوص الأفراد في بُعد سائل سرّعته تفاعلات لا يمكن التنبؤ بها، يتبع روادها هياكل دلالية جديدة. وبصفتنا “كائنات معلوماتية“، لا يمكننا التمييز بين العالم الافتراضي والواقعي، ونتيجة لذلك، قد لا نفهم الانقسام المُعقد بين العالم الخيالي والحقيقي. الرسالة التي يُطلب من البشر فك رموزها معقدة للغاية، وغالبًا ما تفضي إلى الفشل في فهم المحتوى المُضمن. فبعد أن تُرك الناس يعانون من الارتباك والتنافر المعرفيين، فإنهم يتمسكون بتفسيراتٍ سطحية تؤكد تحيزاتهم المسبقة، بدلًا من أن تدحضها. علاوة على ذلك، فإن الأنظمة الديمقراطية غير قادرة على ضمان وفلترة مدى قابلية الرسائل الإعلامية للفهم، ناهيك عن مدى مصداقيتها وصحتها، وبالتالي تُعرِّض المواطنين لقدرٍ هائل جدًا من التنافر المعرفي لدرجة قد تولّد العنف.
العنف كرد فعل مناعي ذاتي
عند دراسة هجمات 11 سبتمبر، لاحظ فيلسوف ما بعد البنيوية جاك دريدا أن أولئك الذين وصفناهم بـ “الإرهابيين” ليسوا “آخرين”، بل هم انعكاسٌ لفشل مجتمعنا. وفي إشارةٍ إلى أسامة بن لادن وشركائه، قال إنه “يجب ألا ننسى أنهم غالبًا ما تم تجنيدهم وتدريبهم وحتى تسليحهم من قبل عالم غربي اخترع هو نفسه، خلال تاريخه القديم والحديث جدًا، مصطلح الإرهاب وأساليبه وسياساته”.
ورغم أن هذا ينطوي على “مغالطة“، فإن الفرضية تخدم نظرية دريدا القائلة بأن الإرهاب هو شكل من أشكال العنف العشوائي المستمد من عمليات التدمير الذاتي، وشبه الانتحارية، والمناعة الذاتية.
الذئاب المنفردة والمقاتلون الإرهابيون الأجانب، فضلًا على الحركات المناهضة للديمقراطية واليمين المتطرف، كلها أعراض صارخة لمرض المناعة الذاتية المتوطن في مجتمعٍ يتمرد أعضاؤه ضده. وفي هذا الإطار، يستخدم عالم النفس المعرفي فتالي م. مقدم استعارة “الدَرَج إلى الإرهاب” (staircase to terrorism) لشرح التطرف.
يُقسِّم مقدم عملية التطرف إلى ستة طوابق: الأول هو البحث عن الخيارات، والثاني الغضب من الجناة المتصورين للمظالم، والثالث الانخراط الأخلاقي الذي يبرر الإرهاب، والرابع الانضمام إلى جماعة إرهابية. أما الطابقان الخامس والسادس فيُجرِّد المدنيين الأعداء من إنسانيتهم. إذ يشعر الإرهابيون بالهجر والعزلة لأنهم لا يتماهون مع مجتمعهم، ومن ثم يصبحون مستقطبين بسبب صعوبة التغلب على التنافر المعرفي، والتكيف مع النماذج الاجتماعية والثقافية والسياسية.
الخلاصة
سوء التواصل، إلى جانب تعقيد الرموز السيميائية، قد يولّد عنفًا كامنًا داخل المجتمع. وهنا، يؤكد النهج اللغوي/ السيميائي على الدور الذي يلعبه عدم تحديد الهوية الذاتية كأحد الأسباب الأساسية التي تؤدِّي إلى ما يسمى بـ”اللا معيارية” الفردية.
صاغ هذا المصطلح لأول مرة عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم في وصف حالة عدم الاستقرار الفردي الناجم عن انهيار المعايير والقيم أو عدم وجود هدف أو مُثل عليا. ويمكن أن تؤدي عدم قدرة الأفراد النفسية في التعامل مع المعايير التي وضعها المجتمع إما إلى رد فعل عنيف لمقاومته، أو محاولة الانتحار، بسبب عدم وجود قيم عامة ومشتركة. يرتبط الانتحار اللا معياري (الذي ينبع من ظروفٍ مفاجئة) بالمواقف التي يتوقف فيها المجتمع عن ممارسة وظيفته التنظيمية على العواطف، حيث يرى الأفراد الساخطون والمحبطون أنفسهم قادرين أخيرًا على فرض “إرادتهم على السلطة”.
نتيجة عدم قدرة الأحزاب والمؤسسات على تسوية الخلافات والصراعات المعاصرة التي تنشأ بين الأفراد، قد يعتنق معظم مرتكبي العنف الإرهابي أيديولوجيات متطرفة، مثل معاداة المساواة أو السلطوية، أو الأصولية الدينية. يُشكّل الفكر الأيديولوجي الذي يقف وراء أفعالهم الأساس لتفسيراتهم البديلة لبعض النماذج المتعلقة ببُعد “ما بعد الحقيقة” (post-truth).
الجدير بالذكر أن مصطلح “ما بعد الحقيقة” يشير إلى موقفٍ يصبح فيه الناس أقل تأثرًا بالمعلومات الواقعية من عواطفهم أو معتقداتهم التي يعتنقونها بالفعل. وحيثما يصبح الاتصال الإعلامي إما عديم المعنى أو مفيدًا في السعي وراء المصالح الاقتصادية أو الدعائية، فإن التفسيرات البديلة التي تقدمها الجهات الفاعلة الانتهازية سوف تحتكر اهتمام الجمهور.
في الوقت الحاضر، العنف قوة نائمة تنتشر في كل ركن من أركان الشبكة العنكبوتية، حيث تقوم المجموعات الخارجية التي شعرت بأنها مستبعدة من السرد الإعلامي العادي ببناء أهمية بديلة. ونظرًا للصعوبة المتأصلة في تشكيل أرضية مشتركة والتفاهم المتبادل، واللا مبالاة بمعاناة “الآخرين”، فإن عنف المتشددين والمتطرفين يجعل تحقيق تواصلٍ حقيقي أمرًا مستحيلًا.
المصدر: كيو بوست
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر