هكذا يفعل العثمانيون الجدد وأتباعهم في القراءة التاريخية للحركات الوطنية المصرية المناهضة للحكم العثماني، فهم يسارعون بإدانتها ووصمها بالخيانة والعمالة للاستعمار بل وربما بـ”التآمر على الإسلام والمسلمين”.
وهي وقاحة ليست بالغريبة على العثماني الجديد ومن يشايعونه..
المحتل والمتوطن:
القارئ المدقق في التاريخ يستطيع بجهد بسيط أن يميز بين “المحتل” من ناحية و”المتوطن” من ناحية أخرى..
فالأول إذا ضم بلدا إلى دولته نظر له باعتباره مجرد مصدر للثروات وموقع للهجوم والدفاع عن الدولة، وتعامل مع أهل هذا البلد باعتبارهم مجرد طاقة بشرية خادمة له ومسخرة لأمره..
أما الآخر فهو يحرص على خلق مزج حضاري وإنساني مع من وفد عليهم، حتى أنه يذوب بينهم ويصبح وإياهم نسيجا واحدا..
في العصور القديمة نجد مثالا قويا لهذه التفرقة، فاليونانيون بعد فتح الإسكندر المقدوني لمصر سارعوا بالتمصُر وادمجوا ثقافتهم مع الثقافة المصرية ليخلقوا الثقافة “الهللينستية”، حتى أن الدارس للتاريخ المصري القديم ينظر لهم، البطالمة، باعتبارهم “أسرة حاكمة مصرية” أو حتى “أسرة أجنبية متمصرة”، صحيح أن أسرة البطالمة قد انتجت حكاما أساءوا السيرة وتعرضوا لثورات المصريين، ولكنها بقيت “ثورة ضد حاكم ظالم” وليست “ثورة ضد محتل أجنبي”.
أما الرومان ومن بعدهم البيزنطيون، فقد تعاملوا مع مصر كمجرد “ممول للإمبراطورية بالضرائب” وكـ”مخزن غلال عملاق”، وعاملوا المصريين بالصلف والجفاء والتعالي، حتى أن العصر الروماني يعد من أسوأ وأسود عصور مصر في التاريخ القديم، وما زال المصري ينظر لتلك الفترة باعتبارها فترة احتلال.. وبالمناسبة، فإن تلك السياسة العنصرية الرومانية قد أنتجت “حركة وطنية مصرية” أنتجت “الحضارة القبطية” بما فيها من لغة ومذهب ديني وأعمال فكرية وفنية.
من قراءة تاريخ تلك الفترة يمكننا أن نميز من خلال سلوك الوافد علينا بين كونه محتلا او متوطنا سواء بالنسبة لمصر أو لغيرها.
الفتح العربي والاحتلال العثماني:
هنا يحاول بعض أتباع العثمانلي الجديد أن يقوموا بمناورة فاشلة لـ”زنق” من يصف الحكم العثماني بـ”الاحتلال” فيقولوا “إذن فعلى هذا الأساس أنتم تصفون الحكم العربي لمصر بالاحتلال”.. طبعا هي مناورة رخيصة فضلا عن كونها فاشلة، فكأنما هم يحاولون بها أن يستفزوا من ينظرون من زاوية “إسلامية” لفتح العرب لمصر بحيث يضعون الناقدون للحكم العثماني بين المطرقة والسندان..
ولكن الرد “التاريخي” هنا بسيط: فشتان بين سلوك العرب في مصر وسلوك العثمانيين، فالعرب حرصوا على الامتزاج بالمصريين والتزاوج منهم والتعايش معهم حتى أنه لم تمض عقود قليلة على فتح مصر إلا وقد تمصر عربها حتى أنك تقرأ في كتب المؤرخين اللاحقين وصفهم بـ”المصريين”، بعكس العثماني الذي بقي على عجرفته وتعاليه ونظرته للمصري باعتباره “فلاح خير سيز”.
وبينما كان يمكن للمصري في العصر العربي أن يصل لأعلى المناصب من وزارة وقضاء ونظارة دواوين، كان العثمانيون يتعنتون في مجرد ترقية مصري لرتبة مرتفعة نسبيا في الجيش حتى أن الأمر قد تطلب قيام أحمد عرابي بانتفاضة لتحقيق ذلك، وعندما غزا سليم الأول العثماني مصر واحتلها بجنده، سارع بعزل القضاة المصريين وتعيين “قاضي عسكر أفندي” تركي وصفه المؤرخ ابن إياس بأنه “أجهل من حمار”..
إضافة لذلك، فإن المصريين لم يقاوموا العرب عندما دخل جيشهم مصر، بل ربما كان بعضهم عونا لهم بمباركة البطريرك بنيامين بطريرك الكنيسة القبطية، في حين واجهت الغزو العثماني مقاومة شرسة من أهل مصر اضطرت الغازي لارتكاب مذابح مروعة بحق أهل القاهر لتوطيد حكمه..
فلا مجال إذن للمقارنة بين الحالتين العربية والعثمانية..
رد الفعل المصري:
في كتابه “الهويات القاتلة” يقول الكاتب اللبناني أمين معلوف ما معناه أن الهوية تُستَفَز عندما تتعرض للهجوم أو الضغط او التهديد..
وخلال العصر الإسلامي لم يكن من تهديد للهوية المصرية، فكما تمصر العرب كذلك تعرّب المصريون واتخذوا الأسماء العربية إلى جانب تلك القبطية بل وصارت الصلوات المسيحية واليهودية تقام بالعربية في الكنائس والمعابد، وامتزج العنصران القبطي والعربي فكوّنا “المصري”.. وأصدق ما يدل على ذلك هو علم الفلكلور الذي يُظهِر تمازجا بين الموروثات الشعبية العربية وتلك المصرية القديمة.. فلم يكن من سبب باعث لقيام “حركة وطنية مصرية مناهضة للحكم العربي”.
أما في عصر الاحتلال العثماني فقد كانت السياسة العثمانية في مصر تمثل كل الازدراء والتحقير والتهميش للمصريين وحضارتهم وثقافتهم، فكان من الطبيعي أن يتكوّن شعور مصري بالاغتراب عن العثمانيين..
وجاءت الحملة الفرنسية والاحتلال الفرنسي لمصر لتسحق البقية الباقية من فكرة “العثمانيون طغاة ولكنهم يحموننا من الغزاة”، وتُرِكَ المصريون يواجهون الاحتلال بأنفسهم، ويتعرضون للقمع والقتل والتدمير، فحسمت تلك المرحلة الأمر وصار على المصري أن يعلو صوته بالاستقلال ولو بشكل جزئي من خلال دعم وترشيح حاكم متمصر مثل محمد علي باشا تمهيدا لتصاعد الصوت المطالِب بخلع النير العثماني عن أعناق المصريين..
ختاما:
إذن فالحركة الوطنية المصرية المناهضة للاحتلال العثماني لم تكن نتيجة دسيسة خارجية أو خيانة أو عمالة كما يروج العثمانيون الجدد وأتباعهم وعلى رأسهم رجل مدلس كعلي الصلابي، الذي اتهم محمد علي صراحة بالخيانة لأنه شجع الروح الوطنية عند المصريين، وإنما هي رد فعل طبيعي على سلوك عنصري مستمر وممنهج منذ ابتليت مصر بحكم العثمانيين..
ونفس الحكم ينسحب على الحركات الوطنية العربية المماثلة.. والتي لها حديث تالٍ