سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
إبراهيم عبدالله الروساء
مقدمة
لو انهار جسر في الأكوادور، لعلمه الذي يسكن في أدغال إفريقيا، وحينما تعلن كندا عن اكتشاف طبي جديد، فإن العالم بأسره سيكون على علم بهذا الاكتشاف في دقائق معدودة.
العالم اليوم تواصلي بامتياز، ويلعب الاتصال دورًا حيويًا في حياة البشر، فمن الذي لا يحمل اليوم جهازًا ذكيًا يستطلع الأحداث كل ساعة، ويتابع علاقاته الجديدة وصداقاته التي تتوسع بفضل الثورة الرقمية، التي ساعدت على إحداث نقلة جديدة في المعرفة والتواصل.
إذا كان هذا هو الواقع الاتصالي مع الأفراد، فكيف بالدول التي تسعى إلى توسيع اتصالاتها مع الدول الأخرى، وتمتين علاقاتها وتنمية مصادرها، وهو السبب الذي جعل قضية الاتصال أساسية في حياة الشعوب والدول على حد سواء، وبات من المتعين إعادة تشكيل العوالم الاتصالية، وهو ما حفلت به أوروبا وأميركا في مسألة العلاقات العامة وتطوير هذا المفهوم عبر إنشاء مئات الوكالات والمراكز. وهو أمر لم يتوقف عند هذا فحسب، بل أسست مراكز حكومية تُعنى بموضوع العلاقات العامة، وتحسين الصورة في الداخل والخارج مع التركيز على العالم الخارجي، وهو تطور انسحب على الوطن العربي، وكان النموذج الأبرز في جمهورية مصر العربية.
وفي السعودية حدث أمر مهم، الشهر الماضي 2018، في موضوع الاتصال، وهو إنشاء مركز للاتصال الحكومي، يعنى بتنسيق الجهود بين الجهات والمؤسسات الحكومية لإحداث تناغم في العمل الاتصالي المشترك. ولكن يبقى التساؤل المطروح في السعودية: هل الحاجة إلى مركز تواصل حكومي، أم مركز تواصل دولي يتحدث بلغتنا، وينتصر لقضايانا، ويبرز منجزاتنا، ويخبر الآخرين عن ثقافتنا وفكرنا وموضعنا السياسي والاقتصادي والديني في العالم؟
الاتصال الدولي في العالم.. نظرة عن كثب
بعد الحرب العالمية الثانية، اضطرت المملكة المتحدة إلى تغيير نهجها التواصلي مع العالم الخارجي، الذي كان ينظر إليها بتوجس وخوف، بوصفها دولة استعمارية همُّها التوسع واستغلال خيرات الدول التي تهيمن عليها، وأدركت أن الوقت قد حان لصنع صورة ذهنية مغايرة تتخذ من قيم المعرفة والثقافة والفنون أساسًا للسياسة الاتصالية الجديدة التي تخطط لها، فضلاً عن لصق تصور ذهني مغاير يهدف إلى تعريف العالم الخارجي بحياة الشعب البريطاني وثقافته وفكره، وتغييب النظرة السابقة عن المملكة التي لا تغيب عنها الشمس، تلك النظرة التي تشي بمبدأ القوة والنفوذ والهيمنة. هذه النظرة التي صنعتها بريطانيا منذ عقود، لم تعد تعجب السياسي والاقتصادي والتاجر البريطاني اليوم، فالزمن الاتصالي تغيَّر، وما كان معروفًا بالأمس، أصبح شاذًا اليوم، ومبدأ القوة الذي كان يتصف بالخشونة تحوَّل إلى قوة ناعمة، وهو موقف يتوافق مع الرؤية الاقتصادية والتجارية والعلاقات الدولية الجديدة لبريطانيا، فالصورة الجديدة تكشف عن طبيعة حياة الشعوب البريطانية وزيادة التبادل الفكري والارتباط الثقافي والمعرفي.
يأتي ذلك وسط تغييرات شاملة وواسعة لمفهوم العلاقات العامة الدولية والنظرة الاتصالية للدول مع عوالمها الخارجية. وفي ظل نشاط العلاقات العامة وبداية بزوغ نجمها كوسيلة من وسائل التواصل والتغيير بالقوة الناعمة، أنشأت بريطانيا جهازًا يساوي شركات ووكالات العلاقات العامة التي بدأت في الانتشار في الداخل البريطاني، لكنه جهاز حكومي، وهو ما يعرف بـ”الجهاز المركزي للاستعلامات” المُنشأ عام 1946، وكان الهدف الأبرز من إنشائه، هو إعادة تنظيم عمل العلاقات العامة بشكل مؤثر وفاعل وبصورة أوسع، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية.
الغريب في الموضوع، أن إنشاء الجهاز جاء مع كثرة مراكز ووكالات العلاقات العامة المشتغلة والمؤسَسة في بريطانيا، بالإضافة إلى مكاتب الخدمات الإعلامية المساندة، فمثلاً: يوجد في العاصمة لندن وحدَها، أكثر من ٥٠٠ وكالة أو شركة علاقات عامة، وبالرغم من ذلك تأسس المركز للإشراف على إدارات العلاقات العامة في الوزارات والهيئات والمصالح الحكومية، إذ يقدم الدعم لها ويسهل مهامها وينسق العمل المشترك فيما بينها، ويقدم خدمات فنية ولوجستية، بالإضافة إلى إشرافه على الإعلام الخارجي بوصفه الوجه الإعلامي الدبلوماسي للحكومة البريطانية، وهو ما يؤكد عزمها قدمًا على تفعيل دور العلاقات العامة، ليس في الداخل فحسب، بل في الاتصال الخارجي. وتأكيدًا لنية الحكومة البريطانية في تغيير شكل وصفة التواصل الخارجي، تمَّ عقد صفقة تعاون مشترك بين المركز وهيئة الإذاعة البريطانية، ولا يعزب عن النظر هيمنة وقوة تأثير الهيئة الإعلامية ذات الصيت الواسع، فضلاً عن التعاون الآخر مع المجلس البريطاني المُنشأ عام 1934.
المركز لا يضطلع بعمل العلاقات العامة فحسب، بل موجه وصانع للمحتوى، فهو جهاز يتولى إنتاج عددٍ كبيرٍ من المطبوعات التعريفية والتثقيفية التي تركز على مفهوم التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي مستهدفًا عدة لغات، كل الهدف منها إبراز صورة بريطانيا كدولة تجارية ذات ثقافة عظيمة وتقاليد ديمقراطية راسخة، وهو اتجاه يختلف عن تبني الفكرة الاستعمارية القديمة، التي سيطرت منذ عقود على الذهنية البريطانية بوصفها الدولة القوية والمهيمنة التي لا تغيب عنها الشمس.
ومع أنه يأخذ الاتجاه التواصلي الجديد، إلا أن المملكة المتحدة لا تلغي فكرة أنها الدولة الأقوى، بل تؤكد ذلك، ولكن بطريقة أكثر هدوءًا وتأثيرًا باستخدام الأدوات الناعمة، إنها تريد نشر اقتصاداتها وثقافتها، ولكن بطريقة عصرية تضمن تسويقها كدولة ديموقراطية ومناخ ملائم للاستثمار التجاري والتبادل الاقتصادي. كما يهدف إلى تنشيط الحركة السياحية ودعمها من خلال هذا المنشط الذي يحتاج إلى منطق الجاذبية والإقناع، لا القوة والخشونة في الخطاب الاتصالي.
النموذج الأميركي في الاتصال الحكومي
إن النموذج الاتصالي البريطاني، ألهم الولايات المتحدة الأميركية إلى تبني الفكرة ذاتها مع اختلاف الهدف، وهو حق سيادي، فلكل دولة “صورة ذهنية” تريد الترويج لها وتسويقها بما يحقق أهداف وقيم الإدارة الأميركية. جاء ذلك بعد ١٩ عامًا من إنشاء الجهاز المركزي للاستعلامات البريطاني، إذ أسست الحكومة الأميركية مركزًا مشابهًا لمهام المركز البريطاني تحت مسمى “جهاز العلاقات العامة الدولية” لحكومة الولايات المتحدة الأميركية والمنشأة عام 1953، بهدف إقناع شعوب العالم بالفكر الأميركي الجديد، وأن الوسط الأميركي حالم ويحقق لهم الآمال في الحرية والاستقرار، فضلاً عن مهمة الجهاز في تدعيم أواصر التواصل والانفتاح، وتفسير السياسة الخارجية، والتصدي للدعاية المعادية، وتقديم صورة دقيقة عن الثقافة الأميركية والحياة العامة في أميركا، إلى جانب وجود أهداف محددة ترسم لأي برنامج للعلاقات العامة، مثل مقاومة الدعايات المغرضة، وإيجاد تفهم كامل وودي للسياسة الأميركية نحو الدول النامية. ويستخدم برنامج العلاقات العامة، مجموعة أنشطة ووسائل، وأشهرها نموذج شبكة راديو “صوت أميركاVoice Of America “.
ويعمل في جهاز العلاقات العامة الدولية، حوالي عشرة آلاف شخص، فيما تقدم الحكومة الأميركية، كل ما يحتاج إليه هذا الجهاز من دعم مالي وخدمي ولوجستي، ويسهل إجراءات عمله خارج حدود أميركا، ويقدم المعدات اللازمة لإنشاء وسائل إعلام مختلفة، مقروءة ومسموعة ومرئية، فضلاً عن تدعيم شبكات التواصل مع بعض الدول، وإقامة أنشطة العلاقات العامة المختلفة من المعارض الدولية، والمناسبات المختلفة، والأيام الثقافية.
وبما أنَّ اللغة هي جسر التواصل الإنساني، وسلاح اتصالي فعّال، لم يكتفِ المركز بما سبق، بل يشرف على المكتبات وقاعات القراءة، ويملك أكثر من مليوني مجلد وكتاب، غالبها بلغات متعددة تركز في مجملها على تكريس النظرة الأميركية للسلام ورفع شعار الحرية والديمقراطية، وتعالج موضوعات علمية وفنية وتعليمية وإدارية واقتصادية، بالإضافة إلى الروايات والمعارف العامة، إلى جانب إنشاء مراكز تعليم اللغة الإنجليزية.
وطبقًا لأهداف الجهاز في تفسير الموقف السياسي الخارجي، والتصدي للدعاية المعادية، وتقديم صورة دقيقة؛ فإن الجهاز يقوم بإعداد البيانات الصحفية وترجمتها بعدة لغات، وبعثها إلى الصحف المحلية ومحطات التلفزة والإذاعة، وطباعة المجلات، وإنشاء محطات التلفزة ومحطات إذاعية في الدول المستهدفة عن طريق مراكز الخدمات الإعلامية. وتتناول هذه البيانات الصحفية، مقتطفات من خطب وتصريحات المسؤولين الأميركيين، خاصة تلك التي تتبنى لهجة عالمية منها، بالإضافة إلى فرق السلام والجمعيات التعاونية والتطوعية والكشفية، بهدف استخدام الفن والثقافة كإحدى الوسائل الاتصالية المكونة لمنتجات جهاز العلاقات العامة الدولية.
التواصل الحكومي الدولي العربي .. مصر نموذجًا
التجربة الغربية في صناعة العلاقات العامة والاتصال الدولي، تستحق الاهتمام، وبفضلها ارتقى العمل الاتصالي إلى مراحل أعلى وأرقى، وتطورت ممارسة العلاقات العامة المحلية والدولية. وهذا التطور الذي يرافقه انفتاح فكري وثقافي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، أثَّر في الوضع الاتصالي عربيًا، وهنا يبرز دور التجربة العربية في هذا الخصوص، وأبرز نموذج عربي في مجال الاتصال الدولي هو “الهيئة العامة للاستعلامات” في جمهورية مصر العربية المُنشأة عام ١٩٤٥، وتأتي بعد إنشاء المركز الأميركي بمدة لا تتجاوز السنتين.
وتضطلع التجربة المصرية بعدة مهام، من أبرزها تقديم صورة مصر إلى الرأي العام العالمي، ونقل الحقائق منها إلى وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم، عبر مكاتب الإعلام الملحقة بالسفارات المصرية في العديد من العواصم والمدن الكبرى، وتوفير مصدر موثوق للمعلومات الدقيقة والصحيحة والحديثة عن مصر في مختلف المجالات: كالتاريخ، والحقائق الأساسية، والنظام السياسي، والسياسة الخارجية، والثقافة، والمجتمع، والفنون، والاقتصاد، والسياحة وغيرها، وذلك عبر موقع الهيئة على شبكة الإنترنت باللغتين العربية والإنجليزية، لتكون متاحة لكل من يحتاج إليها في كل مكان من العالم. كما يتم إصدار مطبوعات عن هذه الموضوعات باللغات المختلفة.
وتوفر الهيئة، مركز معلومات يتابع الإعلام الدولي، ويقدم المعلومة الصحيحة والدقيقة عن صورة مصر في الإعلام العالمي للمهتمين والمعنيين بذلك في أجهزة الدولة ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى خدمات محلية تهم الشارع المصري، اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا وصحيًا وتعليميًا وسكانيًا، فضلاً عن توفير التسهيلات للصحفيين والمراسلين الأجانب في مصر.
مركز التواصل الحكومي في السعودية
طالما تناولنا التجربة الغربية في الاتصال الدولي، واستشهدت بالتجربة البريطانية بحكم الأسبقية، والتجربة الأميركية بحكم التأثير وقوة الحضور، فإنه من المنطقي الاستشهاد بنموذج عربي، وكان – كالمعتاد – من بوابة الشرق العظيمة، جمهورية مصر العربية. ونأتي الآن على النموذج السعودي، وبما أنه النموذج الاتصالي المؤسسي الوحيد، الذي يجمع نشاط العلاقات العامة في الجهات والهيئات والدوائر الحكومية، فأجد نفسي مضطرًا للاستشهاد به، وهذا لا يعني أنه غير مهم أو حيوي، بل على العكس من ذلك تمامًا، رغم أن سياق حديثنا عن الاتصال الدولي في كل النماذج الثلاثة السابقة، فيما يعد مركز الاتصال الحكومي التابع لوزارة الثقافة والإعلام في السعودية، نموذجًا محليًا صرفًا، إلا أن ذلك بيت القصيد ولب المقال.
في نهاية يناير الفارط، دعتني مشكورة وزارة الثقافة والإعلام، لحضور تدشين مركز التواصل الحكومي، الذي يهدف إلى تنسيق العمل الإعلامي الحكومي، وتوليف العمل الاتصالي بين الجهات الحكومية بما يحدث تناغمًا في أداء تلك الأجهزة إعلاميًا. فمن المتفق عليه، وكما تقول القاعدة الإدارية، أن حضور التنظيم يعني غياب العشوائية وزيادة الجودة والإنتاجية على حساب البعثرة وضعف المخرجات، وهذا ما استبشرت به، إثر حضوري حفل إطلاق منصة الاتصال الحكومي بمركز الملك فهد الثقافي بالرياض، ويهدف بالدرجة الأولى إلى إيجاد تناغم وتنسيق اتصالي بين الجهات الحكومية.
الفكرة بحد ذاتها ليست جديدة، لكنها مهمة بالنسبة لنا، لتنسيق الواقع الإعلامي والاتصالي للجهات الحكومية التي تحتاج “حقًا” إلى إعلام واتصال يحقق أهدافها بدون تعارض أو تقاطع يضر بالرسالة الاتصالية.
وعلى الرغم من أهمية المركز، وضرورة قيامه بمهامه الموكلة إليه، فإنه لا يستغني عن تعاون الجهات المعنية، وإيمان المسؤولين أنفسهم بأهمية هذا المركز. حتى يحقق المركز أهدافه، يحتاج إلى قناعة المسؤولين في الجهات الحكومية بأهمية المركز وفاعليته، وبأنه يصب في مصلحة الجهة المستهدفة أولاً.
إن رؤية المملكة العربية السعودية 2030 التي خطط لها وهندسها، ولي العهد السعودي، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، تنهض بحزمة إصلاحات وتغييرات وتطويرات في مختلف الصُعد، وهذا التغيير يتطلب حزمًا من المُغير وتضحية من جانب الجماهير، مقابل تحقيق أهداف معينة، وأبرز هذه الأهداف، هي: تهيئة الجماهير للتغييرات التي ستحدث، وتفسير هذه التغييرات، ومساعدة الجماهير على فهمها، والتكيف معها، والعمل على تخفيف التوتر والقلق الناتج عن الاحتكاك بين الاتجاهات التقليدية السائدة في المجتمع، والاتجاهات العالمية الحديثة.
إن إقناع الجماهير بالتشريعات والإصلاحات الجديدة التي تمليها احتياجات المجتمع المتغيرة، تحتاج إلى تهيئة الجماهير وإعلام المواطنين بالإنجازات والمشروعات الناجحة التي تحققها الحكومة، وتوضيح آثار هذه المشروعات على الخطة الشاملة.
وهنا يبرز جانب أهمية التعرف على آراء الجماهير واتجاهاتها، إزاء السياسات والبرامج المختلفة التي تصدر عن الحكومة، ونقل صورة صادقة عن هذه الاتجاهات إلى المسؤولين، وتقديم المعلومات الوافية لرجال الإعلام عن خطط الحكومة وسياستها؛ حتى يتمكنوا من القيام بدورهم في توجيه الرأي العام، ومواجهة الدعاية المضادة، وتبديد الشكوك، والقضاء على حملات الهمس والشائعات التي يبثها أعداء النظام، بهدف التشكيك في قدرته أو صدقه في تنفيذ برامجه، وتحصين الجماهير ضد هذه الحملات المعادية، إلى جانب العمل على إزالة أسباب الصراع الداخلي بين أبناء الدولة، ودعم الوحدة الوطنية، وتأكيد الشعور بالانتماء القومي عند الجميع.
وحتى ينهض المركز بمهامه، بأقصى حد، أضع بين يدي المسؤولين مجموعة من الأفكار، التي من شأنها دعم عمل هذا المركز؛ للوصول إلى أفضل نموذج اتصال داخلي حكومي، يقودنا مستقبلاً إلى صناعة نموذج اتصال دولي ناجح، ويتأتى ذلك في الآتي:
الاتصال في السعودية.. ماذا يحتاج؟
بعد استعراض أهمية مركز الاتصال الحكومي، لنلقي النظر كرة أخرى للموضوع، لكن من زاوية أوسع، ولنقرأ الحاجة الحقيقية لنا في الداخل والخارج، إذ يبرز السؤال الملحّ: هل تحتاج المملكة العربية السعودية إلى تشييد نموذج اتصالي محلي، أم تحتاج إلى تكوين نموذج اتصالي دولي؟
من وجهة نظري، أن المملكة بوضعها الاقتصادي والسياسي والديني، بحاجة للاثنين معًا، يشتركان في خلق هوية تُصنع من قطبين أساسين كلٌّ منهما يكمل الآخر ويعضده ويشد من أزره. لكن: لماذا تحتاج المملكة إلى المركزين معًا، بالرغم من تحقق الأول وعدم تحقق الثاني؟! للإجابة عن هذا السؤال، هناك عدة أسباب تدعونا لفعل ذلك، ومن أبرزها:
إن من نافلة القول بأن مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، أحدثت ثورة في عوالم الاتصال والتواصل والمعلومات، ومست بقوة منظومات القيم الاجتماعية والثقافية، وتدخلت على نطاق واسع في تغيير البنى والمؤسسات السياسية، وحتى في التلاعب بموازين القوى السائدة. فقد أجمع خبراء الاتصالات على أن دخول أدوات الاتصال الجديدة إلى مجتمع ما، يؤدي حتمًا إلى تعديلات وتأثيرات في منظومة القيم الاجتماعية؛ مما ينعكس على النظام السياسي الداخلي. ومن الطبيعي جدًا أن يخلق هذا الواقع الإلكتروني الجديد، مجتمعات سلبية، أو إيجابية، منتجة أو كسولة، سلمية أو إرهابية شأنها شأن أي مجتمع بشري واقعي؛ ما دفع بعض الجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية لأن تجعل من شبكات التواصل، جسرًا تواصليًا لها وعنوانًا لهويتها الإلكترونية، مثل “خلافة بوك”، وهو موقع للتواصل الاجتماعي أطلقه أنصار تنظيم الدولة الإسلامية، لكنه أصبح خارج الخدمة بعد يوم واحد من إطلاقه، لتكون عنوانًا دالاً على كينونتها تنشر عبرها دعايتها ونسقها الفكري.
إن المطلوب إذن، استخدام شبكات التواصل الاجتماعية في إحداث نقلة نوعية في التواصل الدولي السعودي، وابتكار مجتمعات شبكية تخدم رؤية المملكة وصورتها الذهنية لدى الجماهير الخارجية، وذلك عبر مواقع إلكترونية في الدول المستهدفة، أو حسابات ناطقة بلغات الشعوب المستهدفة. ولننظر إلى تجربة السويد واليابان بالعربي في شبكة “تويتر”، حيث إنهما شاهدان قريبان منا، وحديثا تجربة، لكن استطاعا في وقت وجيز كسب ثقة المتابعين العرب بفضل الحضور والمشاركة المبنية على رؤية واضحة نحو التواصل الدولي وتصحيح كثير من المفاهيم المنتشرة في العقل الجمعي عن ذلكم البلدين.
إن بعض الدول النامية في سعي حثيث ومستمر للحاق بركب الدول المتقدمة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإدارية، إلا أنها تواجه بعض المشكلات التي تختلف باختلاف ظروف كل منها، فبعض هذه الدول تواجه نقصًا في الموارد الاقتصادية، والبعض الآخر يواجه عجزًا في الكفاءات البشرية المدربة تدريبًا متقدمًا. كما أن هناك دولاً تعاني قصورًا في توفير مكونات التكنولوجيا الحديثة، هذا بالإضافة إلى تلك الدول التي تواجه هذه الأعباء مجتمعة.
هذا السياق يقودنا لاكتشاف التجربة اليابانية في التواصل الحكومي المحلي والتواصل الحكومي الدولي، وكيف استطاعت التفوق في كلا النشاطين. لقد نمت مهنة العلاقات العامة في اليابان بالرغم من الأزمات الكبيرة التي مرت بهذه الدولة الصغيرة جغرافيًا، والكبيرة صناعيًا وتقنيًا. وثمة أسباب عديدة أسهمت في نهضة العلاقات العامة اليابانية، داخليًا وخارجيًا، أبرزها النهضة الاقتصادية والصناعية، وتزايد تأثير الرأي العام، والإمكانات الهائلة في وسائل الاتصال، وارتفاع نسبة المتعلمين إلى حد كبير، وتزايد حركة التجارة بين دول العالم.
كل ما سبق ذكره في التجربة اليابانية، متوفر في المملكة، بل وتزيد بأنها مركز اقتصادي مؤثر، ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم فهي عضو في مجموعة العشرين وتتربع على احتياط بترولي ضخم، وتتمتع بثقل سياسي لدورها العالمي في كافة المعادلات السياسية والاستراتيجية، إذ إن العمل معها هو أحد مفاتيح الحلول في المنطقة والعالم، ومركز ديني بوصفها قلب العالمين الإسلامي والعربي، ومصدر قوة المسلمين والعرب ومهوى قلوب أكثر من مليار ونصف مسلم باحتضانها مكة المكرمة والمدينة المنورة.
لقد بات من المتعين في المعادلة الاتصالية اليوم، وجود جهاز أو هيئة تعمل على استراتيجية العلاقات العامة الدولية، وتعالج الصورة المشوهة عن المملكة، ومكافحة الدعاية السلبية برسم الصورة والهوية الحقيقية عن بلد السلام، وتوظيف كل وسائل الاتصال الممكنة بأقصى طاقاتها لترسيخ صور العدالة والاعتدال، وسعي المملكة الدائم لترسيخ قيم السلام في كافة أرجاء الأرض، ودعم جهودها في إحلال السلام، والحرب على الإرهاب والتطرف، وجعل المملكة الشريك الطبيعي لكل من يسعى لاجتثاث الإرهاب. لذا، لقد حان الوقت لتكرار نموذج مركز الاتصال الحكومي ليكون مركزًا اتصاليًا دوليًا يعبر عن المملكة بوابة للسلام، ومعبر الاعتدال.
مستشار إعلامي *
@Alrwsa
المراجع
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر