ولجأت العديد من الدول في صدارتها الولايات المتحدة الأميركية ومجلس الأمن والاتحاد الأوربي إلى فَرض العقوبات الاقتصادية بغرض تحقيق عدد من الأهداف الأمنية والسياسية أيضا بما في ذلك مكافحة الإرهاب، وتهريب المخدرات، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحل الصراعات.

وتعد العقوبات الاقتصادية أكثر أساليب الردع انتشارا وتأثيرا في العلاقات الدولية المعاصرة، حيث تمثل علاجا صامتا وقاتلا في الوقت نفسه بوسائل أقل عنفا، كما أثبتت التجربة أنها المُعادل الاقتصادي لما يسمى في الحروب بالقصف الشامل، وهي من الأساليب التي انتهجتها كل من المنظمات الدولية والدول أثناء الحرب الباردة وازداد استعمالها أكثر مع نهاية تلك الحرب، حيث فرضتها الأمم المتحدة مرتين فقط، ضد روديسيا السابقة عام 1966، وجنوب إفريقيا عام 1977، ليتصاعد استخدامها كاستراتيجية متكررة ابتداء من 1990 من خلال فرضها من قبل الأمم المتحدة أكثر من 12 مرة خلال الفترة بين عامي 1990 و2002، فضلا عن أن الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة فرضت العقوبات الاقتصادية سواء الانفرادية والثنائية والإقليمية.

من الجلي أن العقوبات الاقتصادية إجراء يهدف إلى التأثير على إرادة دولة لِحثها على احترام قواعد القانون الدولي، وأن العقوبات لا تستهدف حفظ وحماية القانون فقط، لكن حفظ وحماية السلام الذي لا يتفق بالضرورة في كل الأحوال مع القانون، لذا فإن العقوبة الاقتصادية هي وسيلة ضغط إيجابية أو سلبية، تهدف إلى تغيير السلوك السياسي للدولة المعاقبة، وهذه العقوبة يمكن أن تتدرج من التهديد البسيط إلى مقاطعة كلية أو شاملة للعلاقات الاقتصادية بين المعاقِب والمستهدَف.

وتَيقنت الأمم المتحدة أن الشعوب صارت ضحايا هذه الانتهاكات وليست الأنظمة السياسية، بل إن قادة هذه الدول وفي حالات عديدة انتفعوا بتأليب الشعوب المكلومة بنار العقوبات على “الآخر” الذي فرض هذه العقوبات، ومن ثم تصدح أبواق النظم الاستبدادية بالخطابات والدعايات التحريضية المجندة للاصطفاف حول القيادة التي أوقعت شعبها في فخ العقوبات الدولية الشديدة.

كان الدرس العراقي بعد حرب الخليج 1990-1991 مريرا، فكانت التداعيات السلبية الكارثية على الشعب العراقي مدعاة لأن تقوم الأمم المتحدة باستلهام الدروس والعبر، فابتدعت المنظمة الأممية الآلية الجديدة للعقوبات الاقتصادية التي عرفت بالعقوبات الذكية، بغرض تجنب انتهاك الحقوق الأساسية لعامة السكان، والحد قدر المستطاع من المعضلات الأخلاقية التي تثيرها مثل هذه التدابير الجزائية داخل منظومة الأمم المتحدة أو خارجها، وحتى لا تتسبب هذه العقوبات في معاناة الفئات الضعيفة، وتولد أضرارا جسيمة طويلة الأجل علي القدرة الإنتاجية للبلد المستهدف، وآثارا وخيمة علي البلدان المجاورة، وكل ما سلف أشار إليه الأمين العام الأسبق لمنظمة الأمم المتحدة بطرس غالي في ملحق لخطة السلام في 1995.

خُبّرَت دول عديدة بالآثار السلبية علي السكان المدنيين جَراء فرض العقوبات الاقتصادية علي هذه الدول مثل روديسيا السابقة والعراق و يوغوسلافيا السابقة وهايتي، وبات جليا أن فرض العقوبات الاقتصادية والشاملة منها على وجه الخصوص ليست البديل اللاعنفي للقوة المسلحة مثل الحرب، حيث تُفضي إلى الموت والمعاناة، على الرغم من أن جميع العقوبات تعفي الأنظمة الغذائية والأدوية خلافا للحرب، بيد أن جميع الضحايا هم على جانب واحد، لذلك فقد اعتبرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر العقوبات الاقتصادية الشاملة تدابير متناقضة، فهي تستخدم كمحاولة لتعزيز السلام وحقوق الإنسان وفي الوقت نفسه تقوّض هذه الحقوق.

ورد مصطلح “الذكاء” لتوصف العقوبات به على أساس أنه يميز بين “المُعتدين على السلام والسكان الأبرياء”، فلا يؤخذ السكان كرهائن بل المعتدون–هم فقط- المستهدفون، وبالنسبة للكثيرين، فعبارة “العقوبات الذكية” تعني استخدام عقوبات انتقائية تمييزية في مقابل العقوبات التجارية الشاملة التي تعتبر ضمنا “غَبية “، وقد جاءت استعارة العقوبات الذكية من الأهداف نفسها التي استهدفتها “الأسلحة الذكية” أي تصويب الأهداف بدقة من دون أن تؤثر على أشخاص أو أهداف ليست مقصودة بالعقوبات أصلا، لذلك فالعقوبات الذكية مثل “القنابل الذكية” التي تهدف إلى تركيز أثرها على القادة والنخب السياسية وشرائح المجتمع التي يعتقد أنها مسؤولة عن السلوك المنبوذ.

بَات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يمثل كابوسا مزعجا للجماعة الدولية، وصار عبئا للشركاء والأصدقاء والأعداء سويا دون استثناء، وصار المسلسل التركي السمج في شرق البحر المتوسط يقض مضاجع الدول الجيران في بحر إيجة والبحر المتوسط، ولم يجد السلطان التركي دولة واحدة في العالم تؤيد سياساته الخارجية التي دشنتها دبلوماسية البوارج الحربية في الأعوام الأخيرة، ولم تساند فكره المنعزل حول التفسير التركي الشاذ لقانون البحار دولة واحدة، فما طبقته تركيا في البحر الأسود تراجعت عنه في البحر المتوسط وبحر إيجة أيضا، في نهج منعزل غير مسبوق.

سبق أن وافق الاتحاد الأوربي على طلب قبرص فرض عقوبات على بعض الأشخاص والشركات التركية على خلفية دورهم في عمليات التنقيب التي تجريها أنقرة في المياه الاقتصادية الخالصة لقبرص، بيد أن هذه العقوبات الذكية لم تؤت ثمارها في ضوء عدم انصياع أنقرة للمناشدات التي تطالبها بوقف أعمال التنقيب المنافية لقانون البحار، وأنذر الاتحاد الأوروبي، في اجتماعه الأخير الجمعة، تركيا أن تَكُف عن مغامراتها العدائية في شرق البحر المتوسط، وإلا سيشدد الاتحاد العقوبات الاقتصادية الذكية في قمة الاتحاد المرتقبة في مارس 2020.

المُثير للدهشة أن الرئيس التركي وجَوقته وضعوا أصابعهم في آذانهم ، ولم تَفُت الأرقام والحقائق المُستجدة للاقتصاد التركي في عام 2020 في عضدهم حتى يتوانوا عن تبني ذات النهج المُقامر بمصير الشعب التركي المكلوم بهم، حيث تشهد تركيا حاليا عجزا حادا في الحساب الجاري، وفقا لمجموعة من المراقبين المتخصصين، وفقدت الليرة التركية، وهي العملة الأسوأ أداءً إلى حد بعيد ما يقرب من 30 في المئة من قيمتها هذا العام، فَدُمِغ عام 2020 بالعام المضطرب في تركيا، كما خلقت إقالة محافظ البنك المركزي مؤخرا بموجب مرسوم رئاسي حالة من القلق كشف عنها العجز الخطير في الحساب الجاري، ويشير البعض إلي أن البنوك التركية المملوكة للدولة باعت ما يقرب من 100 مليار دولار من الاحتياطيات العام الحالي لدعم العملة المحلية، كما ضَربت جائحة كوفيد -19 الاقتصاد التركي الذي انكمش بنسبة 3.4 في المئة هذا العام، وفقا لاستطلاع أجرته “رويترز”.

وفي غضون ذلك، تُظهر أحدث الأرقام الرسمية أن دخل السياحة في تركيا خلال الوباء انخفض بأكثر من 70 في المئة، وهو انخفاض كان له تأثير سلبي على الحساب الجاري.

صفوة القول، تهدف العقوبات الاقتصادية الذكية الأوربية ضد تركيا لإصلاح السلوك العدواني التركي وحماية مصالح الدول الأخرى والحفاظ علي السلم والأمن الدوليين، والسعي لتغيير السلوك التركي المستهدف، لكن يظل السؤال الأهم لأي مدى ستتناسب هذه العقوبات مع السلوك العدائي التركي في شرق البحر المتوسط والعراق وسوريا والصومال وغيرها من الدول والأقاليم، وإلى أي مدي يمكن للرئيس التركي أن يحتكم لمنطق الأمور، ويعيد حساباته، ويستلهم العبر من الطغاة العتاة الذين انحرفوا عن جادة الصواب، وألحقوا بدولهم وشعوبهم الردى والوبال والهلاك.