لكن هدم الأسوار النفسية لوحده ليس كافيا لتجاوز منظومة الأفكار والأحاسيس الطائفية التي ترسخت تدريجيا بعد 2003، فصحيح أن هذه المنظومة تعيش تراجعها الأشد منذ ذلك التاريخ، لكن من دون تفكيك طرق التفكير الطائفي والأحاسيس التي تنشأ عنه وتعتاش عليه، ستبقى الطائفية احتمالا مختبئا يمكن أن تعود الحياة له بقوة في حال توافرت الظروف المَرَضية الملائمة لانبعاثه من جديد.
بخلاف المذهبية بوصفها أحد أشكال التنوع المشروع التي تقوم على حس الانتماء لمذهب ديني والاعتزاز به والتمسك بقيمه، فإن الطائفية سلوك تمييزي يقوم على أساس التفوق على الآخرين الذين ينتمون إلى مذاهب أخرى واعتبارهم أبعد عن الحقيقة وبالتالي أقل إنسانية. المذهبية هي علاقة بالذات فيما الطائفية هي علاقة بالآخر، علاقة مقارنة بين أعلى وأدنى. لا تتعارض المذهبية مع المساواة فيما تنقض الطائفية المساواة وتفرغها من محتواها. تتحول المذهبية إلى طائفية في حالات الصراع السياسي الذي يوظف الدين ومن خلاله يتحول الأفراد المختلفون إلى مجموعة واحدة متجانسة على أساس انتمائهم المذهبي وتلغى الفوارق المهمة التي تصنع تنوعهم واختلافهم. على هذا النحو تفكك الطائفية، عند هيمنتها في السلوك العام، المجتمعات المتنوعة وتحول تنوعها وتعايشها إلى صراع وعداء وارتياب.
حيز المذهبية المعتاد والطبيعي هو المجتمع من خلال العوائل والأفراد والمؤسسات غير الرسمية التي تتشكل طوعا في المجتمع كي يمارس المؤمنون حسهم المشروع بالانتماء الديني، فيما حيز الطائفية هو السياسة، بما تعنيه من أحزاب ودولة وسياسات. المرجعية الدينية في النجف مثلا هي مؤسسة مذهبية تستمد شرعيتها من الحق الطبيعي والقانوني في حرية التعبير، والإيمان الديني هو أحد أشكال حرية التعبير عن الذات، كما هو حال المؤسسات غير الرسمية الدينية السنية والمسيحية في البلد، فكلها تمثل حق المؤمنين في التعبير عن معتقداتهم، شرط ألا تتضمن هذه المعتقدات شيطنة الآخرين والتحريض ضدهم.
الأخطر في الطائفية هو أنها تُغيِّب الحاضر لصالح العودة إلى التاريخ بوصفه الموضع الصحيح الذي بدأت فيه الأشياء لفهم الحاضر، إذ يصبح الحاضر، في العقل الطائفي إعادة تمثيل دائم للماضي. من هنا، تحطم الطائفية الإنجاز المؤسساتي الأهم في العصر الحديث: المواطنة المتساوية في ظل الدولة الوطنية، إذ يفقد الأفراد، في ظل هيمنة الطائفية، حسهم بالمساواة ويصبحون أبناء طوائف متصارعة، لا مواطني بلد متساويين.
في عراق ما بعد 2003 حصل كل هذا، فبدلا من التعلم من الدروس القاسية لتجربة الحكم الشمولي لنظام صدام حسين حيث هيمنة الحزب الواحد على كل شيء، لبناء نظام ديموقراطي جديد لا يُظلم فيه الناس بسبب أفكارهم أو انتماءاتهم، عمدت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي الى تصنيف الناس، على نحو جائر ومزيف، على أسس طائفية بين غالبية شيعية مظلومة وأقلية سنية ظالمة يدير العلاقة بينهما صراع غير معلن. وهكذا تدريجيا، وبالتعاون الأحزاب القومية الكردية، وبموافقة ضمنية أميركية حمقاء، رُسخت ترتيبات جديدة للحكم والدولة، على أساس هذا الصراع المفترض، لتتحول أدوات العدالة الانتقالية مثل اجتثاث البعث من سعي مؤسساتي لمحاسبة الذين ارتكبوا جرائم وإنصاف الضحايا، إلى وسائل انتقام يتم عبرها إقصاء السنة، وفيما بعد، العلمانيين والمعارضين الشيعة للنهج الطائفي. كما أصبحت طقوس الإيمان المذهبي المشروعة أدوات سياسية في صراع طائفي، ليتم توظيف الشعائر الحسينية، من مسيرات ومناسبات حزن، إلى إعلانات عن هيمنة عددية شيعية ودعايات انتخابية أيديولوجية لصالح أحزاب متنفذة.
وعند بروز تنظيم القاعدة في بعض المناطق ذات الأغلبية السنية، استثمرت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي هذا الأمر لشيطنة كل السنة وتصويرهم على أنهم متطرفون وكارهون للشيعة. إحدى أقوى الوسائل التي وظفت حينها لترسيخ الكراهية الطائفية هي فكرة “الحاضنة” الكارثية التي شاعت بين الكثير من “المحللين” والمسؤولين، سواء السياسيين أو الأمنيين، فضلا عن جمهور واسع من الناس انساق مع هذه الفكرة الخطيرة التي كان الغرض الأساسي منها شيطنة كامل الجمهور السني بوصفه إرهابيا، أو متواطئا إما بالفعل أو بالمشاعر، مع الإرهاب. من خلال هذه الفكرة التمييزية ألغيت تدريجيا المسافة المهمة والفاصلة بين أقلية سنية متطرفة لجأت إلى الإرهاب وأغلبية سنية خائفة وصامتة، ليُلقى اللوم على انتشار الإرهاب في بعض المناطق ذات الأغلبية السنية على سكان هذه المناطق، ولتتخلى الدولة وقواها الأمنية والعسكرية عن مسؤوليتها القانونية والأخلاقية في تخليص هذه المناطق من هيمنة الإرهاب القاعدي والداعشي عبر إلقاء هذه المسؤولية على السكان المدنيين!
“الحاضنة” فكرة طائفية بامتياز واستهدفت السنة حصرا، فعندما سقطت محافظات في الوسط والجنوب بيد قوى ميليشياوية شيعية لتخرج هذه المحافظات عن سيطرة الدولة، لم تستخدم فكرة “الحاضنة” بحق سكان هذه المحافظات من الشيعة، ولم يلمهم أحد على سقوط محافظاتهم بيد هذه القوى، كما لم تطالبهم الدولة بتحرير مناطقهم بأنفسهم. الجواب الصحيح كان ذهاب الجيش العراقي إلى هذه المناطق لانتزاعها من قبضة الميليشيات كما حصل عام 2008 في عهد حكومة نوري المالكي الأولى. لكن لسوء الحظ استخدمت هذه الحكومة، خصوصا في ولايتها الثانية بين 2010 و2014 فكرة “الحاضنة” بشدة ضد السكان السنة الذين خضعت مناطقهم لسيطرة داعش.
الطائفية صناعة سياسية متعمدة، والرد الأول عليها هو تفكيك الأفكار والمشاعر التي تقوم عليها، على درب تشكيل فكرة وطنية شاملة تضم الجميع، كي لا تستيقظ وحوش الطائفية النائمة في مستقبل هذا البلد مرة أخرى.