سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
احتفل العالم في الحادي عشر من نوفمبر 2018 بمرور مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي اندلعت شرارتها في عام 1914م لتنتهي بعد أربعة أعوام. وعلى الرغم من أنها لم تكن آخر الحروب العالمية، فإن العديد من تبعاتها لا يزال قائمًا لليوم، وفي مقدمتها سقوط الدولة العثمانية إلى غير رجعة عام 1922م؛ إذ اعتبرت هزيمة الدولة العثمانية التي حاربت إلى جانبدول المحور، ألمانيا والنمسا وبلغاريا، المسمار الأخير في نعش الرجل المريض، لتدخل مرحلة جديدة انتهت بزوال إمبراطورية استمرت لقرون، لينحسر نفوذها إلى الأراضي التركية المعروفة اليوم بالجمهورية التركية.
وإذا كانت هذه الحرب التي مضى قرن على انقضائها بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للسلاطين الأتراك، فإن ثمة أسبابًا كثيرة متشعبة ومتراكمة ساهمت في ذلك، تتعلق بطبيعة الحكام أنفسهم.
والمتأمل في تاريخ العثمانيين الأوائل، والعثمانيين الجدد المتمثلين في أردوغان وحزبه، وأنصاره من الساعين لاستعادة مرجعية تاريخية تتمثل في إحياء الإمبراطورية العثمانية من جديد، يلاحظ ثمة تشابهًا كبيرًا تظهر ملامحه في النقاط التالية:
توسيع دائرة الانتقام
ما بين أردوغان وأسلافه، يمكننا التساؤل: هل يعيد التاريخ نفسه؟ فعلى الرغم من مضي أكثر من عامين على محاولة الانقلاب الفاشلة، فإن تبعاتها لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، من خلال حملة التطهير المستمرة ضد آلاف المنشقين والمعارضين، شملت اعتقال عشرات الآلاف من المعلمين والمحامين والطلاب والقضاة وغيرهم من المسؤولين، حتى باتت سجون ومرافق تركيا البالغ عددها 384 تعاني اكتظاظًا بالفعل، إذ تضم 224974 سجينًا حتى الـ20 من مارس الماضي وفقًا لوزارة العدل، وهو فائض بما يقرب من 7% عن قدرتها الاستيعابية الرسمية([1]).
والقارئ للتاريخ العثماني يمكنه أن يلحظ ذات التشابه بين أردوغان وأسلافه بوضوح من خلال العديد من الحوادث الانتقامية، ومنها على سبيل المثال: مجازر الأرمن التي قام بها السلطان عبدالحميد الثاني، إذ ادعت الدولة العثمانية بأن روسيا قامت بإثارة الأرمن الروس المقيمين قرب الحدود الروسية العثمانية، واتهمت الأرمن بمحاولة اغتيال السلطان عام 1905م، ليتم مواجهة الأرمن بسلسلة من المجازر، بالإضافة إلى عمليات التهجير الممنهجة بين عامي 1915-1917 حيث تمَّ تهجير نحو 600 ألف أرمني لتبعدهم عن الحدود الروسية وتقطع عليهم الدعم الروسي، وتمَّ التهجير والترحيل القسري بطرق بدائية جدًا فمات من هؤلاء عدد كبير، في ظل ظروف قاسية لتؤدي إلى وفاة عشرات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ([2]).
انعدام التوازن في العلاقة مع العرب
على الرغم من العلاقة الكبيرة الممتدة بين العرب والأتراك بحكم الهيمنة التركية على الأقطار العربية لقرون طويلة ممتدة، فإن وقائع التاريخ لا تكذب، فكانت دائمًا نظرة الأتراك للعرب نظرة متعالية، ومعاملتهم لهم تتخذ سلوك المحتل في أغلب الأحوال، فقد انتهج الأتراك طيلة فترة حكمهم للأقطار العربية سياسة تغيير الولاة، مع الحرص على جمع المال في المقام الأول، وتجاهل السياسات الإصلاحية في الولايات التي كانوا يحكمونها، وبالتالي عزل العالم العربي عن المؤثرات الحضارية حتى أضحى متخلفًا عن ركب الأمم. والأمثلة أكثر من أن تُحصى، فعندما غزا العثمانيون بقيادة سليم، مصر، بمبررات الدفاع عن الدين الإسلامي وحماية الشريعة، مستندين على رسالة أرسلها شيوخ وقضاة الشام تطلب إنقاذهم من ظلم المماليك وتعطيل الشريعة، فبحسب ما يقول المؤرخ المصري محمد ابن إياس في كتابه (بدائع الزهور في وقائع الدهور)، “لم يقاسِ أهل مصر شدة مثل هذه”، ووصل الأمر إلى وصفه أنه وقع فيها مثل ما وقع من جند هولاكو في بغداد. وفي موضع آخر من الكتاب أنه “وقع في القاهرة المصيبة العظمى التي لم يسمع بمثلها فيما تقدم”، و”من حين فتح عمرو بن العاص مصر لم يقع لأهلها شدة أعظم من هذه الشدة قط”([3]).
كما أجمع المؤرخون على أن حكم الولاة العثمانيين تسبب في أطول فترة اضمحلال في العصر الإسلامي على مدى 300 عام، وفقدت مصر موردًا اقتصاديًا هائلًا، واقتصرت صلاتها التجارية على حوض البحر المتوسط والسودان وبلاد الحبشة والحجاز واليمن، وكان العثمانيون ينظرون إلى المصريين بنظرة تعالٍ واحتقار، وقصروا الوظائف الإدارية على نفس عنصرهم التركي وعنصر المماليك الشركسي، فانحط المستوى الاجتماعي للشعب المصري، وشاع الاعتقاد بالسحر والخرافات، وراجت أسواق المشعوذين والدجالين، وقلّ ظهور العلماء وانحطت اللغة العربية نتيجة استخدام اللغة التركية كلغة رسمية للبلاد([4]).
زيادة على ذلك، مارس العثمانيون التهميش الاجتماعي، فحرّم السلطان العثماني سليم الأول على الأتراك الزواج من المصريات أو من أرامل المماليك، ولكنهم مع بداية القرن 18 ومع ضعف الدولة العثمانية بدؤوا في مخالفة تلك القواعد([5]).
وانطلاقًا من هذا الموروث تطل علينا العثمانية الجديدة أو الأردوغانية بذات الأدوات، وهو ما جسدته في هجوم عفرين، أو كما أطلقت عليه السلطات التركية عملية “غصن الزيتون”، فبخلاف الأسباب المعلنة تظهر أسباب أخرى في مقدمتها المطامع الاقتصادية التي طالما حركت العثمانيين الأوائل والجدد، تتمثل في منع إقامة دولة كرديّة قابلة للحياة على الحدود التركية الجنوبية. ولما كانت وحدات “حماية الشعب الكردية” قادرة على بناء دولة حيويّة وإعطائها منفذًا إلى البحر الأبيض المتوسط، فإن هذا معناه أن هذا المنفذ قد يُلغي اعتماد كردستان العراق على خطوط الأنابيب التي تمرّ في تركيا، مما يعرّض اقتصاد أنقرة للخطر(.([6]
بالإضافة إلى إدراك أردوغان أن الوجود العسكري على الأرض هو الضامن الوحيد للفوز بنفوذ مؤثر في مستقبل سوريا؛ لذا فالتدخل العسكري من شأنه تعزيز المزيد من الحُضُور التُركي في مناطق سوريَّة أخرى، مثل إدلب التي تحتضن قوى المعارضة المُسلحة المُرتبطة بِتُركيا، ويقطنها مليونا شخص جاء بعضهم نازحًا من مدن أخرى([7]).
هوس المعارك والبطولات الزائفة
دأبت الدولة العثمانية منذ بدايتها على انتهاج سياسة المعارك والحروب، حتى في حال استقرارها وضعف الخطر المحدق بها، لأهداف توسعية واستعمارية، ومكاسب سياسية، فشهد القرن التاسع عشر – وحدَه – نشوب أربع حروب واشتعال صراعات بين روسيا القيصرية وتركيا العثمانية الإمبراطورية، وكان الطرفان يتبادلان نتائج النصر والهزيمة بينهما، بحسب نوعية التحالفات التي كان هذا الطرف أو ذلك يبرمها ويفعلها([8]).
قد تكون الظروف اليوم مختلفة عن الأمس للدخول في حروب عسكرية مباشرة، إلا أن افتعال المعارك والدخول في صراعات متعددة، مع أطراف مختلفة بعضهم حلفاء اليوم أو الغد، ما تزال سمة ظاهرة في التعامل التركي الأردوغاني، ويتجلى ذلك – على سبيل المثال – في علاقة تركيا بإسرائيل، فعلى الرغم من الخطاب الانفعالي وبعض التوترات في العلاقة، فإن الحقائق على الأرض تظهر عكس ذلك، فدائمًا ما كان أردوغان الحليف الأقوى سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا، لإسرائيل في المنطقة.
فالعلاقات التركية الإسرائيلية التي انطلقت عام 1949م، لم تتأثر بتولي حكومة العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا عام 2002، على الرغم من الخطاب العاطفي الذي يحمله الحزب ورموزه تجاه القضية الفلسطينية، بينما يعمل الحزب على تعزيز الاتفاقات السابقة مع إسرائيل، غير آبهٍ بتناقض خطابه الذي يظهر حماسه للقضية الفلسطينية، ويبطن تعزيزًا للتجارة والعلاقات العسكرية مع الكيان الصهيوني، ولم يقتصر تعاون أردوغان مع الاحتلال الإسرائيلي على الاتفاقيات السابقة لينقل العلاقة مع تل أبيب إلى مرحلة “الاستراتيجية”، فحتى مسرحية أردوغان بانسحابه من قمة دافوس في عام 2009، والتراشق اللفظي بين أردوغان ونتنياهو في 2017 على خلفية وصف أردوغان إسرائيل بدولة إرهابية تقتل الأطفال،لم يؤثر يومًا على الاتفاقيات العسكرية بين البلدين، والتي تجعل من إسرائيل المورد الأول للأسلحة بالنسبة لتركيا([9]).
استنتاجات
على الرغم من مساعي تركيا الأردوغانية إلى الظهور بالمظهر المتوازن ما بين مكتسبات الدولة الأتاتوركية الحديثة، والإرث الحضاري المتمثل في الإمبراطورية العثمانية، فإن ملامح هذه التوليفة يطغى عليها الإرث القديم وفق التالي:
1- يجمع العثمانيون القدماء والجدد الرغبة في الانتقام، واتباع سياسة الانتقام الممنهج.
2- تظهر الوقائع أن تهميش العرب، والأطماع الإمبريالية مكون رئيس في العقلية العثمانية عند العثمانيين القدماء والجدد.
3- كثيرًا ما كان افتعال المعارك والحروب أداة من أدوات الأتراك للوصول للمكاسب السياسية.
وحدة الدراسات التركية*
المراجع
[1]اكتظاظ “مخيف” في سجون تركيا.. وأردوغان يخطط لبناء مزيد من المعتقلات، إرم نيوز.
[2]10 معلومات لا تعرفها عن مذابح الأرمن على يد الأتراك، إسراء أحمد فؤاد، اليوم السابع. http://bitly.com/2ShElU2.
[3]مذابح العثمانيين في مصر.. قتلوا 10 آلاف من عوام المصريين في يوم واحد وعرّوا الناس في الشوارع.. أطعموا الغلال لخيولهم وسرقوا الدجاج والأغنام من الفلاحين وفرضوا الإتاوات فجاع الناس، عبدالرحمن مقلد، اليوم السابع.
[4]”الفساد العثماني” يحكم على مصر بـ”300 سنة تدهورًا”، ماهر حسن، المصري اليوم
[6]حماية حدود تركيا هدف مهمّ لعمليّة عفرين… ماذا عن الهدفين الأهم؟ جورج عيسى، النهار اللبنانية
[7]عملية عفرين.. شعارات براقة تخفي أطماعًا تركية، سكاي نيوز عربية
[8]العثمنة الجديدة: القطيعة في التاريخ الموازي بين العرب والأتراك، سيار الجميل، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2015م، (ص/93).
[9]نظام أردوغان وإسرائيل.. علاقة متينة خلف ستار المتاجرة بقضية فلسطين، العين الإخبارية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر