سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
لم يقتصر الاهتمام بمصير العالم الإسلامي وشؤونه وقضاياه على تلك الطفرة التي تحققت مع تصدّر تيارات الإسلام السياسي للمشهد في أعقاب ما عرف بـ”الربيع العربي”؛ إذ يرجع الاهتمام بتلك الإشكالية إلى فترات سابقة، وهو ما ارتبط بقضية هوية الدول المشكلة للعالم الإسلامي في مطلع القرن، والتفاعل مع الجانب الآخر من العالم الغربي، حيث تصاعد الجدل الخاص حول هوية العالم الإسلامي، الأمر الذي صاحبه الكثير من الجهود الفكرية التي راحت تؤصل لتلك الإشكالية.
وفي القلب من ذلك الجدل، جاء إسهام “جمال حمدان”، وهو واحد من أشهر المفكرين العرب، الذين انعكست تخصصاتهم الأساسية على اجتهاداتهم حينما ارتقوا إلى المستوى الفكري في تناول الظواهر المرتبطة بمصير الأمة.
بجانب عبقرية جمال حمدان، تنبع أهميته في المسار الفكري للعالم العربي من تخصصه في علم الجغرافيا الذي ينبع من عمق البيئة الطبيعية للعالمين العربي والإسلامي؛ فهو صاحب المؤلف الشهير (وصف مصر: دراسة في عبقرية المكان) الذي يتناول فيه الأبعاد المختلفة المتصلة بموقع مصر وانعكاس تلك الأبعاد على الشخصية المصرية تاريخيًا.
لم يتوقف إسهام حمدان على دراسة الحالة المصرية، بقدر ما اتسع ليشمل العالم الإسلامي وقضاياه بشكل عام، وتأثر ذلك الواقع بالطبيعة الجغرافية بكافة مستوياتها للعالم الإسلامي.
في هذا السياق، يأتي كتاب (العالم الإسلامي المعاصر)، كواحد من أهم مؤلفات جمال حمدان، الذي يرسم عبره خريطة دقيقة للجغرافية الإسلامية.
يلقي الكتاب الضوء على عدد من الحقائق التي تؤكد التكامل بين الدين والقومية، وهو ما يتصل بتوجهات الجماعات المتطرفة خلال مساعيها لتنفيذ مخططات السيطرة على العالم الإسلامي بواسطة منظومة فكرية تضع إطارًا عامًا لما يعرف بـ”الإسلام السياسي”، حيث تقوم تلك المنظومة على حتمية “المشروع الإسلامي” الذي تتبناه تلك الجماعات من منظور متطرف، يعلي من التناقض بين الدين والقومية.
تعددت الوسائل التي اعتمدت عليها تلك الجماعات المتطرفة، فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا…إلخ، وهو ما أثبته الواقع العام لممارسات تلك الحركات أثناء تصدّر تلك الجماعات المشهد في السنوات الأخيرة؛ فما بين توظيف الاحتياجات الاقتصادية والترهيب الفكري القائم على تكفير المعارضين، دخلت إشكالية الدين والقومية في إطار مساومة استهدفت التمكين.
يرصد جمال حمدان في هذا الكتاب، الجغرافيا السياسية للعالم الإسلامي، مع تحليل أبعاد وتأثيرات تلك الجغرافيا، حيث يذهب إلى أن التعمق في تلك الجغرافيا لا ينفصل عن دراسة الإسلام نفسه، وهو ما ينظر إلى الحضارة الإسلامية في سياق تفاعل حضاري إنساني متصل بالحضارة الإنسانية جمعاء.
وأمام دعاوى الفصل بين الدين والقومية وإنكار الأخيرة، يرى المؤلف أنه لا تناقض بين الاثنين، بل إنهما يدخلان في علاقة تكاملية قائمة على التوازن فيما بينهما. فالتناقض الحقيقي مع الإسلام يأتي من جانب الجماعات التي زعمت وصايتها على الإسلام وتوهمت احتكارها الحديث باسم الإسلام، وفي هذا يقول حمدان: “الحقيقة أن من يتناقض مع الإسلام هم هؤلاء الجماعات الإسلامية، التي تزعم وجود هذا التناقض، إذ إنهم لا يفطنون إلى نتائج دعاويهم، حيث إن تنافرهم مع القومية ينتهي بهم إلى الضياع الذي عاشته الشيوعية، عندما اقتصرت بنفسها على فئة دون غيرها، واعتبرت أن فكرتها تتجاوز حدود قومية الوطن”.
يؤصل جمال حمدان، دور التيار المتأسلم، باعتباره دخيلاً على الحضارة الإسلامية، بل إنه يتنافر مع المسار الإيجابي لصيرورة التاريخ الإسلامي؛ حيث تأتي مكونات ذلك التيار في إطار مخطط تاريخي استهدف القضاء على تمدد التاريخ الإسلامي والنيل منه. وهنا يمكن الإشارة إلى التزامن بين نشأة تلك التنظيمات مع توغل القوى الاستعمارية منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفي هذا يقول جمال حمدان: “كان من أول وأبرز المشروعات التحالفية بعد الحرب العالمية الثانية، خلال أوائل الخمسينيات إنشاء حلف إسلامي يتلخص هدفه في مواجهة الشيوعية ليدافع عن الإسلام، ضد خطر الإلحاد”.
فقد تمت صياغة الحدود الجغرافية للعالم الإسلامي في أجواء ما بعد الحرب، وهو ما انعكس على الخريطة السياسية التي تفاعلت مع وجود الشيوعية على امتداد حدود الدول الإسلامية، ولا سيَّما في باكستان وأفغانستان المجاورتين لإيران وتركيا، وهما الدولتان الرئيستان في العالم الإسلامي، مما انعكس على العلاقات الدولية خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
ولم ينفصل ذلك عن المؤامرة التي تمت صياغتها بإحكام ضد العالم الإسلامي، حيث يرى المؤلف أن هذا انبعث خلال عالم ما بعد الحرب،فبالموقع الجغرافي، تتضح الخريطة السياسية، ويبدو أن أطول حدود مشتركة مباشرة للاتحاد السوفيتي هي مع دول إسلامية، ابتداءً – على الأقل – من باكستان وأفغانستان عبر إيران حتى تركيا، هذا، إضافة إلى أن جسم العالم الإسلامي السياسي في مجموعه يعد ظهيرًاضخمًا للكتلة الشيوعية.
أمَّا من الناحية الأيديولوجية – كما يرى المؤلف – فقد كان التبرير أو الترويج يدور حول وحدة الأديان السماوية ضد الإلحادية اللادينية، وأن العالم الإسلامي يمكن وينبغي أن يجمع قواه مع العالم المسيحي الحر في جبهة ضد العالم الشيوعي، وفي هذا السبيل شهدت تلك الفترة حركات فكرية ومؤتمرات دعائية ولقاءات لاهوتية عديدة بدرجة لافتة للنظر، تضرب على نغمة التقارب بين الإسلام والمسيحية وعلى وحدة الرسالات السماوية.
ويبحث المؤلف في جوهر تلك الإشكالية، فيجدها متجذرة بالدرجة الأولى في استراتيجيات الغرب خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فيما يعرف بـ”استراتيجية الإحاطة والتطويق” الشهيرة، التي تهدف إلى حصار الكتلة الشرقية عامة، والاتحاد السوفيتي خاصة، بسلسلة متصلة الحلقات من الأحلاف السياسية والعسكرية التي تبدأ من النرويج حتى اليابان، والحلف بهذا ليس حلفًا دينيًا، رغم الاسم، بل سياسي عسكري عدواني في جوهره، وأمَّا الشعار الديني فهو غطاء لا يخفى تسخيره للأغراض السياسية.
يخلص حمدان في كتابه المهم إلى أن الذين يرددون أنه لا قومية في الدين، تحالفوا مع أعداء هذا الدين لتحقيق مكاسب سياسية، ضد الشيوعية، متذرعين بأن هذا كله كان حفاظًا على الدين، وهو أمر غير صحيح، وإنما فعلوا ليتمكنوا من تثبيت أوضاعهم السياسية داخل أوطانهم، التي هي قوميتهم الأساسية.
أخيرًا، فقد غاص الكتاب في عمق المعركة الفكرية الخاصة بهوية العالم الإسلامي، حيث تبنى الخيار الإقليمي حفاظًا على القومية بعيدًا عن ألاعيب “الإسلام السياسي” ومناوراته.
معلومات الكتاب
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر