شهدت نهاية عام 2022 بدء فصل جديد في العلاقات الصينية العربية، حين شكلت الصين وفدا دبلوماسيا بقيادة الرئيس شي جينبينغ لحضور القمة الصينية- العربية الأولى والقمة الصينية الخليجية وللقيام بزيارة رسمية للسعودية. كان هذا الوفد الأرفع مستوى والأكبر نطاقا الذي ترسله الصين إلى العالم العربي منذ عام 1949.
وإذا وضعنا جانبا التزام الصين لمدة ثلاث سنوات بمكافحة جائحة “كوفيد-19” لحماية الشعب الصيني بأفضل طريقة ممكنة، فإن هذا هو الوقت الأمثل لقيام القوى الناشئة ذات الإمكانات والقدرات الاقتصادية، بتحمل مسؤولية أكبر تقوم على التفاهم والاحترام المتبادلين بينما تمرّ بمرحلة تحول اجتماعي واقتصادي عميق.
وفي هذا الصدد، ومع الحفاظ على احترام سيادة الطرف الآخر والأوضاع الوطنية، فإن من رأي الكاتبة أن القوى الناشئة التي كانت تتمتع بعلاقات ثنائية بناءة وإيجابية ينبغي أن تذهب أبعد وأعمق من أجل تحديد وقيادة رؤية جديدة في مجالي الأمن والتطوير. وتشير “النظرة الشاملة للأمن القومي” للصين إلى وجوب تقدم التنمية والأمن تقدما متوازيا، لذلك فهي تطرح الأفكار التي تقول أن على الدول ذات السيادة أن تتمتع باستقلالية في بناء بيئة داخلية وخارجية ملائمة. وفي هذا المجال، من المهم من الآن فصاعدا تحقيق مستوى عال أو غير محدود من الأمن، بغض النظر عن البيئة الداخلية أو الخارجية المواتية.
ولكن، وإلى أن يتمكن المجتمع الدولي من فهم أفضل لرؤية الصين الجديدة للأمن ومبادرة الأمن العالمي، اللتان اقترحهما الرئيس شي، فإن هناك حاجة مستمرة للتوضيح والتأكيد بأن الصين لن تقوم بجعل نهجها لتحقيق مستوى عال من الأمن، نهجا امنيا صرفا بأي حال من الأحوال. ففي السياق الصيني، لا تتوفر الشروط اللازمة لأنشاء نهج أمني شامل (أو أمننة) على نحو طبيعي. وتُعرّف الأمننة بأنها قيام جهة فاعلة في الدولة بتحديد تهديد ما وتقرير اتخاذ تدابير استثنائية لمواجهته في حال تم اتخاذ القرار ببدء عملية الأمننة.
على الصعيد المحلي، قامت الصين بتحديث قدراتها على مدى عقود طويلة من التنمية الاقتصادية الناجحة، ما أدى إلى تمكينها من تحقيق الأمن الفعال. أما على الصعيد الخارجي، فقد حافظت على سياسة عدم التدخل، وامتنعت بالتالي عن أمننة مناهجها الخارجية. ومع ذلك، فقد عرف عن الصين امتلاكها لتلك السيناريوهات الاستثنائية للطوارئ مثل التفشي الأولي لفيروس “كوفيد 19” في ووهان في عام 2019، حيث احتاجت الصين إلى اعتماد تدابير أمنية عالية ومتكاملة مؤقتة لاحتواء انتشار الفيروس وحماية شعبها. وتعتبر الصين حماية أمن شعبها أمرا أساسيا للأمن القومي والأمن السياسي.
في الواقع، ترى الكاتبة أن الطريقة الوحيدة لتتمكن الصين من تحقيق أمنها القومي والسياسي هي من خلال تحقيق الأمن على المستوى العام، وتحاول توجيه مجموعات الجمهور المختلفة نحو فهم سياسات الصين الداخلية والخارجية من منظور أمني بما يتعلق بجميع أنواع الإعدادات المهنية. وأظهرت القمة الصينية -العربية أن هناك فهما مشتركا للأمن بين الدول العربية والصين، حيث أظهر الجانبان في إعلان الرياض للقمة الصينية العريية الأولى تقديرا عاليا لمبادرة الأمن العالمي التي اقترحها الرئيس شي، بالإضافة لاعترافهما بوجود حاجة لتحقيق الأمن المشترك في سياق العولمة ولاتخاذ التدابير الأمنية المناسبة لتحقيق مثل هذه الحالة الأمنية.
وتدرك الدول العربية، في مواجهة مشكلة العجز الأمني المنتشرة في المنطقة، أن تطوير اقتصاد مستدام هو شرط أساسي لحماية الأمن المادي والاقتصادي والاجتماعي لشعوبها من خلال القدرات الذاتية للدولة، وهي تنظر إلى الصين كمثال حي على الاستفادة من التنمية الاقتصادية من أجل الأمن.
وفي هذا الصدد، ستستفيد الدول العربية من العمل المستمر مع الصين على أجندات أبعد من القضايا الأمنية التقليدية وغير التقليدية التي سبق للصين والدول العربية إنشاء آليات ناضجة لها. فما تحتاج إليه هذه الدول الإقليمية في السياق العربي اليوم، بينما تنسحب الولايات المتحدة وتحالفها من المنطقة، هو القدرة على حوكمة الأمن بدلا من إدارته.
تدرك الدول العربية، في مواجهة مشكلة العجز الأمني المنتشرة في المنطقة، أن تطوير اقتصاد مستدام هو شرط أساسي لحماية الأمن المادي والاقتصادي والاجتماعي لشعوبها من خلال القدرات الذاتية للدولة، وهي تنظر إلى الصين كمثال حي على الاستفادة من التنمية الاقتصادية من أجل الأمن
فقد شكلت القمة الصينية العربية الأولى علامة فارقة بالفعل في مختلف النواحي، ولكون الأمن أمرا أساسيا لتنمية أي دولة ومنطقة، فقد كان من الواجب اعتباره أولوية على جدول الأعمال المشترك للجانبين. أظهر المثال الصيني كيف يمكن للأمن الداخلي والخارجي أن يتحقق بدون تطبيع الأمننة.
ومع التقدم المستمر في مبادرة الأمن العالمي والتطوير المستمر لمبادرة الحزام والطريق التي توفر الإمكانات الاقتصادية للعالم العربي الذي ما زال يعاني من العجز الأمني، تستعد الدول العربية لإنشاء مساراتها الخاصة للوصول إلى الأمن ومن ثم الأمن المشترك والتفاهم وإعلان أن حوكمة الأمان الخاص يجب أن تكون دائما قضية محلية.