سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
محمد خليفة
للبحر الأسود، أهمية اقتصادية وعسكرية وأمنية للدول المطلة عليه، إضافة إلى تحكمه في خطوط الملاحة الدولية، وله مكانة خاصة في الاستراتيجيات العالمية والإقليمية؛ حيث إنه يشكل الممر الرئيسي للتجارة بين قارتي آسيا وأوروبا، ولهذه الأسباب أصبح يستقطب تنافس القوى الكبرى لما له من أهمية استراتيجية تطال الأمور العسكرية والأمنية. لهذا فإن البحر الأسود له بعد جيوسياسي يفوق بعده الجغرافي.
إن الخلافات بين الدول على مسارات البحار ستصبح أهم أسباب النزاع، وسوف تؤدي إلى اختلال هذا التوازن بما يخلق مزيداً من الصراعات الاقتصادية والسياسية. ولعل أحد أهم الأسباب التي دفعت روسيا إلى شن الحرب على أوكرانيا هو الحفاظ على الممر الحيوي لها إلى العالم عبر البحر الأسود، الذي يعد الشريان الوحيد الذي يربط بين أراضيها وبين وسط العالم وغربه، وعلى الرغم من أن لروسيا مقاطعة على بحر البلطيق هي كالينينغراد، لكن تفصلها، عن أرضها، كل من بولندا وليتوانيا، وبالتالي، فإن للبحر الأسود أهمية استراتيجية لها، ووقوعه في قبضة أي دولة معادية أو حتى صديقة، على اعتبار أن المصالح تتغير دائماً في عالم السياسة، سيؤدي إلى عرقلة حركة سفنها وتجارتها وأسطولها في هذا البحر، ولذلك فهي مصممة على كسب حربها مع أوكرانيا مهما بلغت التضحيات أو طال أمد الحرب. وفي المقابل، فإن دول الغرب تناصر أوكرانيا، وتقدم لها الدعم المادي والمعنوي في سبيل كسر إرادة روسيا على أقل تقدير، ومنعها من تحقيق أهدافها في الحرب ودفعها إلى القبول بتسوية سياسية وفق تصورات الغرب.
وفي ظل استمرار الحرب فقد انعقد في رومانيا مؤخراً، «مؤتمر الأمن في البحر الأسود» بمشاركة كل من أوكرانيا ومولدوفا، إضافة إلى وفود من عشرين دولة في العالم، على مستوى وزراء الخارجية. وكان السبب الرئيسي لعقد المؤتمر إيجاد حلول لتأمين هذا البحر مع دول المنطقة والشركاء الدوليين. وتتشارك كل من روسيا وأوكرانيا وبلغاريا ورومانيا وتركيا وجورجيا هذا البحر الذي كان في مطلع القرن الثامن عشر بحيرة عثمانية خالصة، قبل أن تنبعث قوة روسيا لتعيد تشكيل المنطقة، ولتجعل من البحر بحيرة روسية، بعد أن سيطرت على شبه جزيرة القرم، وعلى جورجيا وأوكرانيا.
وإبان الحقبة السوفييتية توسعت السيطرة لتشمل رومانيا وبلغاريا، بينما ظلت تركيا تطل على هذا البحر من جهة الجنوب. وخلال المؤتمر، قال وزير خارجية أوكرانيا: «إنه حان الوقت لتحويل البحر الأسود إلى منطقة خاضعة لنفوذ الحلف الأطلسي، والعمل على نزع السلاح فيها». وقد رد الناطق باسم الكرملين، على تلك الدعوة، وقال: «إن الحديث عن تحويل البحر الأسود إلى بحيرة أطلسية بعيد عن الواقع، ولن يحدث أبداً».
مما لا شك فيه، فإن للغرب استراتيجية واضحة تجاه منطقة البحر الأسود، ومن خلفها منطقة آسيا الوسطى، وتتمثل تلك الاستراتيجية في توسيع نطاق الاتحاد الأوروبي وضم أوكرانيا وجورجيا، ومن ثم يتم فتح الباب أمام جمهوريات آسيا الوسطى، التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وهذه الدول قد تتشجع وتطلب الانضمام لحلف الناتو، وبذلك تخلق أوروبا فضاء خلفياً لها يمتد حتى أقصى آسيا الوسطى الغنية بثروات باطنية مثل النفط والغاز، إضافة إلى الغلال والحبوب والمعادن، ويكون ذلك الفضاء محمياً بالقوة الجماعية الأطلسية، وفي المقابل تصبح روسيا دولة مطوقة بستار حديدي من الدول المناوئة لها والرافضة للتعامل معها.
إن الحرب الدائرة في أوكرانيا الآن هي التي سترسم المستقبل، وهي التي ستحدد إن كان البحر الأسود سيكون بحيرة روسية أو أطلسية. لكن ذلك الحشد الدولي الكبير رسالة إلى روسيا بأن هناك دولاً كثيرة تؤيد الرؤية الأمريكية والغربية بخصوص أوكرانيا والبحر الأسود. لكن، في نهاية الأمر كما علمتنا عبر التاريخ، القوة هي التي ترسم المشهد الدولي، فأية تصورات حول البحر الأسود سواء أكانت محلية أو دولية، ستبقى حبراً على ورق ما لم يحسم أحد الطرفين الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا.
إن هذه الأحداث ربما تفصح عن طبيعة المعضلات الجيوسياسية المستجدة، وهي توضح أن المشكلات القائمة يصعب حلها دون مقاربة متكاملة تلحظ الخلفيات السياسية والاقتصادية.
المصدر: صحيفة الخليج الإماراتية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر