سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
محمد الدخاخني
عندما وصل حزب العدالة والتّنمية إلى السّلطة في تركيا، عام 2002، كان أوّل ما فعله زعيمه، رجب طيّب أردوغان، هو أنْ أحاط نفسه ببيروقراطيّين مُتعلّمين تعليماً جيّداً.
كانت هذه الممارسة أساسيّة لنجاح حزب العدالة والتّنمية في الانتخابات الّلاحقة؛ إذ وثَقَ العديد من مواطني تركيا في قدرة أردوغان على تجنيد الأسماء الواعدة في حكومته، وساعدت السّياسات المقتدرة في كلٍّ من الاقتصاد والدّبلوماسيّة في بناء دولةٍ قويّة، بل ديمقراطيّة نموذجيّة للعالم الإسلاميّ، كما حاجج باحثون ذات مرّة.
كان هذا الحُكم القائم على الجدارة هو الّذي وسمَ الأعوام الأولى لحزب العدالة والتّنمية، ربما خَشي بعض الأتراك العلمانيّين وزراء مثل: علي باباجان، أو أحمد داود أوغلو، أو عبد الله غول، بسبب ماضيهم الإسلاميّ، لكن بالنّسبة إلى معظم الأتراك، ما كان مهمّاً هو إنجازاتهم.
تخرّج باباجان، الذي كان كبير المفاوضين في عمليّة الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ ووزيراً للخارجيّة ونائباً لرئيس الوزراء، على رأس دفعته من جامعة الشّرق الأوسط التّقنيّة المرموقة في تركيا، ثم حصل على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة “نورثوسترن” في الولايات المتّحدة، وقبل قبوله دعوة العمل في حكومة أردوغان، كان باباجان مستشاراً ماليّاً في شيكاغو.
وحصل داود أوغلو، الذي كان وزيراً للخارجيّة ورئيساً للوزراء، على درجة الدّكتوراه في العلوم السّياسية من جامعة “بوغازيتشي”، وقبل انضمامه إلى حزب العدالة والّتنمية، درّس في ماليزيا وترأّس قسماً للعلوم السّياسيّة في تركيا.
وغول، الذي شغل مناصب وزير الدّولة ووزير الخارجيّة ونائب رئيس الوزراء ورئيس الوزراء ورئيس الجمهوريّة، هو دكتور في الاقتصاد، وعمل في البنك الإسلاميّ للتّنمية قبل أن ينضمّ إلى سلف حزب العدالة والتّنمية، حزب الرّفاه، ويخدم بوصفه عضواً في البرلمان.
ملأت أسماء ذات مكانة مماثلة مقاعد في ثلاثة مجالس وزراء قبل أن يصبح أردوغان رئيساً، عام 2014، هذه الأسماء بالتّأكيد لا تخلو من العيوب، ونتذكّر صمتها خلال احتجاجات حديقة غيزي، المظاهرات الجماهيريّة المناهضة للحكومة التي اجتاحت البلاد، بين أيار (مايو) وآب (أغسطس) 2013، وأدّت إلى توجيه الاتّهامات إلى العديد من النّقاد، بمن فيهم عثمان قولة، الّذي ما يزال احتجازه غير القانونيّ مستمرّاً حتّى الآن.
لكن في الأعوام الأخيرة، كان هناك تغيير سريع في السّلوك، حيث لم تتم التّعيينات بناءً على الجدارة، بل بحسب الولاء لرئيس البلاد والخضوع لحزبه السّياسيّ الحاكم.
تمّ تعيين حمزة يرلي كايا، بطل المصارعة الأولمبيّ لمرّتين، في مجلس إدارة ثالث أكبر بنك عامّ في تركيا، وتمّ انتخاب أبو بكر شاهين، رئيس المجلس الأعلى للإذاعة والتّلفزيون، لعضويّة مجلس إدارة بنك عامّ بارز آخر، وتمّ تعيين مصطفى سنكار، رئيس حديقة حيوان أنقرة، نائباً لرئيس مركز النّشر التّابع لمجلس البحوث العلميّة والتّكنولوجيّة، وإركان كانديمير، وهو عضو سابق في مجلس إدارة فرع الشّباب التّابع لحزب العدالة والتّنمية، أصبح نائباً لوزير الصّحّة.
ما المشترك بين كلّ هؤلاء؟ علاقاتهم بحزب العدالة والتّنمية وثناؤهم العلنيّ على زعيمه، أردوغان.
السّلطة والسّرقة الأدبيّة
يُعدّ ميليه بولو أحدث المنضمّين إلى هذه القائمة؛ ففي 2 كانون الثّاني (يناير) 2021، عيّن أردوغان بولو رئيساً جديداً لإحدى المؤسّسات الأكاديميّة الرّائدة في البلاد، جامعة بوغازيتشي، وبالنّسبة إلى مؤسّسةٍ اعتمدت منذ فترةٍ طويلةٍ على تقليد انتخاب رئيسها، فقد تمّ اعتبار التّعيين غير ديمقراطيّ، ممّا أدّى إلى احتجاجاتٍ شعبيّةٍ تستمرّ حتّى الآن.
يشير المنتقدون، كما ينبغي، إلى تعامل أردوغان القاسي مع الاحتجاجات، لكن ثمّة مشكلة أخرى تتعلّق بفقدان التّعقّليّة في الحُكم والإهدار المطلق لفنّ الحُكم.
على الورق، قد يكون بولو مُعيَّناً مقبولاً، أو “كايوم”، كما يشار إلى هذه التّعيينات عادةً بالّلغة التّركية، وكان بولو أثناء حصوله على درجتي الماجستير والدّكتوراه في إدارة الأعمال من بوغازيتشي قد جرّب حظّه في السّياسة.
في البداية؛ عمل عضواً مؤسّساً لفرع حزب العدالة والتّنمية في منطقة ساريير، ثمّ ترشّح لمنصب الرّئاسة مرّتين، وفشل في المرّتين؛ لأنّه لم يتمكّن من تأمين أصوات الحزب اللّازمة لوضعه على قائمة الاقتراع.
انتقل بولو بعد ذلك إلى المجال المهنيّ وشَغِل مناصب إداريّة واستشاريّة في كلٍّ من الشّركات العامّة والخاصّة، ووظّفَ تعليمه في الهندسة الصّناعية والإدارة، كما تولّى مهمّات تدريسيّة بدوامٍ جزئيٍّ في العديد من الجامعات، بما في ذلك بوغازيتشي، وتسلّق السّلّم الأكاديميّ من خلال الحصول على وظيفةٍ بعقدٍ دائم، وشَغِل منصب رئيس قسم في جامعة شهير إسطنبول، الّتي أغلقت بعد الانقلاب الفاشل، عام 2016، وتلىا ذلك تعيين أردوغان له في رئاسة جامعتي إستينيا وهاليتش.
مقارنةً برؤساء بوغازيتشي السّابقين، قد لا تبدو الإنجازات الأكاديميّة لبولو مثيرةً للإعجاب، لكنّنا لسنا هنا للحكم على كفاءته بناءً على سيرته الذّاتيّة؛ فأخطاؤه السّابقة، بالأحرى، هي ما تجعلنا نجده إشكاليّاً.
بعد أيّامٍ قليلةٍ من تعيينه، واجه بولو مزاعم سرقةٍ أدبيّةٍ في أطروحته، إضافة إلى مقالاتٍ نُشِرت في الطّريق إلى حصوله على عقد التّعيين الدّائم، والسّرقة الأدبيّة هي خطّ أحمر لا ينبغي لأيّ أكاديميٍّ ذي مصداقيّة، ناهيك عن رئيس جامعة، تجاوزه، إنّها أخطر خطيئة في الأوساط الأكاديميّة، والّتي لا تُظهِر فقط عجز الأكاديميّ عن إنتاج عملٍ علميّ، بل تكشف أيضاً مساراً فاسداً يؤدّي إلى ذلك.
يبدو أنّه تمّ نسخ فقرات كاملة ولصقها دون أخذ معايير الاقتباس في الاعتبار بشكلٍ مناسب، ممّا يشير إلى أنّ بولو ليس مخلصاً للعلم، كما ينبغي أن يكون أيّ أكاديميّ، لكن يتوق إلى السّلطة والمكانة السّياسيّتين، ونفى بولو الاتهّام، معتبراً إيّاه مخالفة صغيرة رُفِعَت ضدّه كجزءٍ من حملة تشهير أكبر، ومن أجل حفظ مقعده، اختار أن يفقد ماء وجهه.
لم يتقدّم بولو باستقالته بعد، وبالنّظر إلى حبّه احتلال منصب مرموق، فمن المحتمل ألّا يفعل ذلك، كان من الممكن أن يختار أردوغان استبدال بولو، وأن يكون لديه أرضيّة أخلاقيّة أعلى من خلال السّماح لأعضاء هيئة التّدريس في بوغازيتشي بانتخاب رئيسهم الخاصّ، أو كان من الممكن أن يختار الاستماع إلى الأسماء الّتي عمل معها سابقاً، مثل باباجان، الّذي مدّد الدعوة لاستقالة بولو، لكنّ هذا سيكون طلباً متعجرفاً للغاية من سلطانٍ يحبّ عرشه ويخشى بشدّةٍ فقدانه.
دروس من آخر أيّام الإمبراطوريّة العثمانيّة
بالنّسبة إلى رئيسٍ يتّخذ الإمبراطوريّة العثمانيّة نقطةً مرجعيّةً له، يحتاج أردوغان إلى أن يتعلّم التّاريخ بشكلٍ أفضل، فلو احتفظ ببعض مستشاريه القدامى، على سبيل المثال، داود أوغلو (مهندس الرّومانسيّة النّيوعثمانيّة في تركيا)، بدلاً من أن يفقدهم في مناصب أكاديميّة في الخارج، أو يضعهم في السّجون بعد محاولة الانقلاب، أو يشاهدهم وهم يشكّلون أحزابهم السّياسيّة الخاصّة، لكان بإمكانهم إخباره بأنّ ما أسقط العثمانيّين كان في الأساس نوعاً من الحُكم لا يختلف كثيراً عن ذلك الّذي يتّبعه اليوم.
تمّ اعتبار العثمانيّين المتأخّرين ذات يوم رجل أوروبا المريض، ولم يصف هذا التّشبيه الخسارة السّريعة للأراضي العثمانيّة، بدءاً من أواخر القرن السّابع عشر فحسب، بل وصف أيضاً إمبراطوريّةً تفتقر إلى الحُكم الرّاسخ.
قام السّلاطين المتتابعون في أواخر العهد العثمانيّ بتعيين رجال دولة كان ولاؤهم غير قابل للشّكّ، لكنّ قدرتهم على الحُكم بالكاد كانت مقبولة، خُذ حالة محمود الثّاني (1808-1839)؛ الذي أدّى خوفه من فقدان العرش إلى ممارسة المحسوبيّة على نطاقٍ واسع.
وشكّك مصطفى رشيد باشا، رجل الدولة البارز في ذلك الوقت ومهندس الحداثة العثمانيّة (التّنظيمات)، في خيارات السّلطان في تعيين رجال الدّولة للتّعامل مع الشّؤون الدّاخليّة والدّوليّة العثمانيّة، وخَشِي أن تنعكس تصرّفات السّلطان بشكلٍ سيءٍ على الحُكم وتؤدّي إلى خسارة القوّة والهيبة، وهو ما حدث بالفعل.
مثالٌ آخر هو عبد الحميد الثّاني، الخان السّامي (1876-1909)، الّذي يتخذه أردوغان مثلاً أعلى، شأنه شأن محمود الثّاني، أحاط عبد الحميد الثّاني نفسه برجال دولةٍ مخلصين يفتقرون إلى الفطنة السّياسيّة، وقد عُرف عن السّلطان تعيينه نسل علماء الدّين في المناصب الحاكمة العُليا في الإمبراطوريّة، والأسماء المختارة بناءً على الرّوابط العائليّة والقرابة، لا الاستحقاق، حكمت العديد من المقاطعات العثمانيّة.
استمرّت هذه الممارسة حتّى ثورة 1908، عندما ثار الأتراك الشّباب ضدّ السّلطان وأسّسوا ما سيصبح مَلكيّةً دستوريّة، لكنّهم تُركوا مع حكّام غير أكفّاء في مناصب الحكم الرّئيسة.
إنّ أسلوب تعامل أردوغان الحاليّ مع السّياسة، والّذي يُشبه أسلوب السّلاطين العثمانيّين في آخر أيّام الإمبراطوريّة، مقدّر له أن يؤدّي إلى زواله وموت الدّولة التي يحكمها.
يعتقد أردوغان أنّه يستطيع الاحتفاظ بالعرش من خلال إحاطة نفسه بالمتملّقين المتذلّلين، وبتوزيع المقاعد على من يتعهّدون بالولاء له، يؤكّد لهم أنّ المكافآت تنتظر من يظلّون مطيعين، لكن ما الخير الذي يمكن أن يأتي من بلدٍ يدير مصارعون كبار مصارفه، ورؤساء حدائق حيوانات كبار وكالاته العلميّة، ورجال لا يفهمون الأخلاق العلميّة جامعاته العُليا؟
قد يكون بولو، الحاصل على دكتوراه في الإدارة، مديراً جيّداً، وتُعدّ عضويّته في حزب العدالة والتّنمية علامةً على ولائه لأردوغان، بالرّغم من أنّنا يجب أن نضع في اعتبارنا أنّ العديد من أولئك الّذين تعهّدوا بالولاء لعبد الحميد الثّاني قد بدّلوا الولاء بمجرّد خلعه.
لكن هذه المؤهّلات وحدها لا تكفي لدورٍ قياديٍّ في جامعة بوغازيتشي، إنّ رئاسته للجامعة ليست وصمة عار بحقّ نفسه فحسب، بل هي أيضاً علامة تحذيريّة للطّريقة الّتي تتّجه بها تركيا، فإذا كان أردوغان صادقاً بشأن حبّه للعثمانيّين، فعليه أن يُدرك أنّ الولاء بدون جدارة سيؤدّي إلى زوال الإمبراطوريّة.
المصدر: حفريات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر