كما نعلم الآن، نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل تشات جي بي تي ودال-إي، أبدعت في عمل الأشياء. وهذه المتعة في الغالب غير مؤذية، كتوليد كلمات لأغنية زائفة للمغنية بيونسيه أو إنتاج لوحة فنية مقلدة لمادونا وطفل يأكل البيتزا على غرار أعمال الفنان رافائيل. لكن هذه القدرة على “توهم” الحقائق تولد في بعض الأحيان معلومات مضللة وحالات تزييف عميقة.
من الناحية المثالية، نحن نفضل أن تصنع الآلات أشياء يمكننا الاعتماد عليها، وليس فقط مقبولة ظاهريا، وأن توسع نطاق بعد النظر الإنساني. هل يمكننا استخدام نماذج التعلم الآلي لتوليد أفكار جديدة فعلا في المجالات الصعبة بما فيها الرياضيات والعلوم وإثراء الإبداع البشري؟ لقد بدأت الأمور تسير نحو ذلك الاتجاه.
لكن أولا، يجب أن نعرف الإبداع. طرحت مارجريت بودن، أستاذة الأبحاث في جامعة ساسيكس، ثلاثة تصنيفات مفيدة للإبداع: التوفيقي، والاستكشافي، والتحويلي. تشير بودن إلى أن الإبداع يمكن أن يكون مزجا غير محتمل لمجموعات من الأفكار المألوفة (كما في الصور الشعرية) أو استكشاف مساحات مفاهيمية جديدة (كما في موسيقى الجاز) -وهي أكثر الأشكال الشائعة. وتعد الآلات جيدة جدا في تنفيذ المهام التي تتطلب التعرف على الأنماط وفي عمليات الاستنساخ، بحسب ما أظهرته نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية.
لكن أكثر أنواع الإبداع تحييرا، وربما أكثرها قيمة، هو الإبداع التحويلي: وهو توليد الأفكار أو المفاهيم، التي لم تكن متخيلة من قبل. كتبت بودن في مقال نشر 1998: “التبرير النهائي لصفة الإبداع للذكاء الاصطناعي يتمثل في كونه برنامجا يولد أفكارا جديدة تحيرنا في البداية، أو حتى تنفرنا، لكنها قادرة على إقناعنا بأنها ذات قيمة حقيقية”.
منذ ذلك الحين، فشل إبداع الآلة في اختبار بودن. لكن في جلسة نقاش استضافها معهد لندن للعلوم الرياضية أخيرا، أكد باحثون بدء نماذج التعلم الآلي في إعادة تشكيل الرياضيات من خلال توليد تخمينات جديدة مهمة، ثبتت صحتها فيما بعد في مجالات مثل نظرية العقد. قال أحد المشاركين في النقاش: “لقد وصلنا بالمجال إلى نقطة تحول رائعة: تم إثبات الاحتمالات، لكن لم يتم استكشافها بعد بالكامل”.
قد توفر الرياضيات أرضية جيدة، ولا سيما لاختبار قدرة الآلة التحويلية على الإبداع. وتعد “تشات جي بي تي” آلة ارتباط لغوية رائعة، فهي تتنبأ بما يحتمل أن تكون الكلمات التالية في أي جملة باستخدام الإحصاء. لكن يمكن تدريب أنواع أخرى من نماذج التعلم الآلي لتوليد مخرجات أكثر واقعية وقابلة للإثبات. وكما أشار أحد المشاركين في النقاش: “لا توجد مصادفات في الرياضيات البحتة. إما أن تكون صحيحة وإما غير صحيحة”.
ووفقا لأليكس ديفيز، الرئيس المؤسس لمبادرة الذكاء الاصطناعي للرياضيات في شركة ديب مايند، المملوكة لشركة ألفابت، يمكن لنماذج التعلم الآلي أن تساعد في تخطي ثلاثة حواجز تعوق الإبداع: الملل، والعار، والتصور. يمكن للذكاء الاصطناعي تأدية المهام المملة والمتكررة. كما أنها لا تخجل من إنتاج المخرجات، التي تبدو غبية، لكنها ملهمة في بعض الأحيان، والتي قد يكون في الإفصاح عنها حرج كبير جدا للبشر.
لكن أكثر الجوانب إثارة للاهتمام هو التصور. فما تعدنا به أدوات التعلم الآلي هو أنها تستطيع البحث في المشكلات الرياضية بأبعاد لا يفهمها البشر تماما. يقول ديفيز إن الخبراء في الوقت الحالي يعملون مع أنظمة التعلم الآلي لتوجيه حدسها نحو التوصل إلى النتائج الإبداعية، لكنه يتوقع لها مزيدا من التقدم. قال لي: “أعتقد أننا سنرى في النهاية أن التعلم الآلي له تأثير تحولي في الرياضيات”.
كل هذا يبدو نظريا للغاية. فقد بدأت شركة ديب مايند باستخدام نماذج التعلم الآلي للتنبؤ بالبنى ثلاثية الأبعاد لأكثر من 200 مليون بروتين. قال ديميس هاسابيس، الشريك المؤسس لشركة ديب مايند: “إن الأمر يشبه إلى حد ما إطلاق العنان للاستكشاف العلمي بالسرعة الرقمية”. لكن ما الذي يعنيه ذلك عمليا اليوم؟ يستخدم الباحثون هذه النماذج للمساعدة في إنشاء بروتينات جديدة تماما، وخلق فرضيات لمواد جديدة تستخدم في البطاريات. كما أنهم يستخدمونها لتصميم الأدوية المضادة للفيروسات.
في الوقت الحالي، لا تزال الشركات في هذا القطاع تعد في الغالب “آلات للتحسين المالي”، فهي تستخدم نماذج التعلم الآلي لتبسيط العمليات وتعظيم الأرباح، كما يقول مارتن ريفز، المؤلف المشارك لكتاب ذي إماجينيشن ماشين “آلة الخيال”. لكنه يشير إلى أنه سيتعين عليها أن تصبح “آلات للخيال” بشكل أكبر، حيث يمكنها استخدام نماذج التعلم الآلي لتعزيز الإبداع وتطوير منتجات وخدمات جديدة. قال: “الشركات تتخيل أشياء لم توجد بعد، أكثر مما يتخيله الشعراء أو أصحاب الرؤى. نحن بحاجة إلى هذا الخيال أكثر من أي وقت مضى للتعامل مع قضايا مثل تغير المناخ”.
اشتهر عن الفنان بابلو بيكاسو، الذي يعد مثالا رئيسيا للإبداع البشري، قوله: “أجهزة الحاسوب غير مجدية، لأنها لا تستطيع سوى أن تعطيك الإجابات”. لكن الحياة ستصبح أكثر إثارة عندما تساعدنا في صياغة الأسئلة الأصلية.