ويرى الباحث، فرانك سنودن، من جامعة ييل، أنه في الوقت الذي ربما تطغى الأحداث العسكرية والسياسية في الذاكرة العامة، يلعب الوباء دوراً فعالاً في التغيرات التاريخية العظيمة، وعلى سبيل المثال، فقد أسهم مرض حمى التيفوئيد في فشل غزو نابليون لروسيا عام 1812، في حين أنه في الفترة ما بين 1918 و1919 يعتقد أن الإنفلونزا أسهمت في إضعاف قدرات الرئيس، وودرو ويلسون، خلال مفاوضات معاهدة فرساي.
ولكن قبل جائحة فيروس «كورونا»، نسيت المجتمعات الغربية، إلى حد كبير، الضرر البنيوي الذي يمكن أن يسببه أي وباء، على الرغم من أن أوبئة، مثل الكوليرا والملاريا، تجتاح الآن المناطق الأكثر فقراً في العالم، كما أن مرضي الإيدز وإنفلونزا الخنازير قتلا الكثير من الناس في العقود الأخيرة.
تحذير مبكر
ولطالما حذرنا العلماء، منذ سنوات عدة، من وقوع جائحة جراء فيروس يسبب مرضاً تنفسياً، يعادل في شدته الإنفلونزا التي وقعت بين 1918 و1919، ومع ذلك فإننا لم نكن مستعدين لاحتواء هذا الفيروس الجديد، ويرجع ذلك بصورة رئيسة إلى الإهمال الذي أبداه قادة الدول الغنية، إضافة إلى الضعف التاريخي التي تظهره الدول المتطورة، الأمر الذي يلقي بظلال قاتمة على الخبرة الكبيرة لهذه الدول في إدارة الأوبئة.
وعلى الرغم من أن فيروس «كورونا» كان له تأثير في شتى المجالات، نظراً إلى شدته، وإلى الإغلاق غير المسبوق لمعظم مجالات الاقتصاد العالمي، إلا أنه مما لاشك فيه أنه يفاقم حالة انعدام المساواة الاجتماعية الموجودة داخل الدول وفي ما بينها. ويخاطر العاملون في الرعاية الصحية يومياً، إضافة إلى الموظفين الأساسيين، بتعرضهم للإصابة للمرض، وغالباً دون وجود حماية شخصية لهم، مقابل أجور لا تتناسب مع الجهود التي يبذلونها، وبصورة مماثلة فإن معظم القطاعات التي تأثرت نتيجة الإغلاق الاقتصادي، باتت تواجه مستقبلاً غامضاً، وتكون التحديات أكبر في الدول ذات المداخيل المنخفضة أو المتوسطة، نظراً إلى قدرتها المالية البسيطة والاشكال الاقتصادية غير الرسمية، وأنظمة الرعاية الصحية غير المستقرة وافتقارها إلى المرافق الصحية.
إعادة تشكيل العقود الاجتماعية
ونتيجة كل هذه الأسباب، فإن صعوبة الظروف الحالية تجبرنا على إعادة تشكيل عقودنا الاجتماعية، وفي الدول المتطورة، حيث أدى تجاهل الاقتصاد الحقيقي إلى جعل انعدام المساواة يدمر التلاحم الاجتماعي، فإن الأولوية الأكثر إلحاحاً هي حماية العاملين في القطاعات الضرورية بصورة ملائمة، وتعويضهم مادياً، وليس مجرد كيل المديح والثناء لهم، وإن كانوا يستحقون ذلك لأنهم يتحملون مسؤولية الحفاظ على حياتنا رغيدة. ولضمان تعافٍ اقتصادي على نطاق واسع، علينا تقديم الحد الأدنى من شبكة الأمان لجميع الذين فقدوا وظائفهم بسبب فيروس «كورونا»، ولا يمكن أيضاً نسيان الدول الأقل حظاً بالطبع، وهذا يعني تخفيف عبء الديون عنها، ومساعدتها في الحصول على الدواء والمعدات الطبية، وضمان حصولها على لقاح «كورونا» عندما يصبح متوافراً.
ويجب أن يأخذ العقد الاجتماعي الفعال في اعتباره الظرف العالمي، ويجب أن يأخذ التركيز العالمي في حسبانه التغير المناخي، والأرض هي أعز ما تملكه البشرية مجتمعة، ومع ذلك فإنها تأثرت أيضاً بالأسباب الأساسية إلى أدت بنا إلى أزمة فيروس «كورونا»، ألا وهي حالة العمى الجماعي التي تعانيها البشرية جمعاء.
تجاهل النصائح
لو أننا استمعنا لنصائح علماء الأوبئة لتمكنا من السيطرة على تفشي فيروس «كورونا» على نحو أسرع وأكثر فاعلية، ومع ذلك لايزال لدينا الوقت الكافي لإيجاد حلول لمشكلة ارتفاع حرارة الأرض قبل أن نصل إلى نقطة اللاعودة، ويمكننا أن نجد الحل في هذا المجال إذا استمعنا إلى تحذيرات خبراء الأمم المتحدة حول المناخ وتحركنا من دون تأخير.
وعلى الرغم من كل شيء، فإننا لسنا واثقين بأن انخفاض انبعاثات غاز الدفيئة نتيجة الإغلاق الاقتصادي، حتى لو استمر، يمكن أن يكون كافياً لتحقيق أهداف اتفاقية باريس حول المناخ، وفي الحقيقة فإن الإفراط في الإنتاج المرتبط بإعادة فتح الاقتصاد، ينطوي على مخاطر إعادة الانبعاثات إلى ما كانت عليه الحال قبل أزمة كورونا، كما حدث أخيراً في الصين.
ولتجنب الكارثة، علينا أن نتحرك فوراً وبحزم، إذ إننا يمكن أن نجعل معدل ارتفاع حرارة الأرض يثبت عند زيادة درجة حرارة ونصف الدرجة على ما كانت عليه قبل المستويات الصناعية، من خلال العمل الجماعي المنسق والطموح، الذي تقوده الحكومات ويشارك في إكماله القطاع الخاص، وعلى سبيل المثال علينا أن نأخذ ارتفاع حرارة المناخ في الحسبان عند إطلاق أي حزمة محفزات اقتصادية، لضمان جدواها على المدى البعيد.
أشياء قليلة تعمل
إلى جانبنا
وعلى الرغم من ضخامة التحدي، فلاتزال هناك أشياء قليلة تعمل إلى جانبنا، فخلال فترة وباء كورونا، وبخلاف الصدمات المنهجية التي تحدث في أزمات مثل الحروب، فإن البنية التحتية المادية لاتزال سليمة، ويمكن تنشيط الوضع الاقتصادي بسهولة. وإضافة إلى ذلك، فإن محاربة فيروس «كورونا» نجم عنها ظهور تعاون علمي عالمي غير مسبوق، حيث قام العلماء الصينيون بتعريف سلسلة جينات الفيروس ونشرها، إضافة إلى مئات الدراسات الجديدة التي نقرأ عنها يومياً.
وهنا يجب أن تحظى المبادرات العديدة العامة والخاصة لتطوير لقاح ضد الفيروس بالثناء أيضاً، ونأمل استمرار هذه الجهود دائماً، ولا تركز فقط على فيروس «كورونا»، ففي عام 2018 توفي نحو نصف مليون في شتى أنحاء العالم بسبب الكوليرا والملاريا.
ويرى كثيرون أن محاربة الوباء تتطلب التراجع عن العصبيات الوطنية، ولكن العلماء يضربون أروع المثل بالمضي قدماً في التعاون، فهم لا يعرضون أبحاثهم في خدمة الجميع، وإنما يطرحون طرقاً نموذجية في التعاون تمكّنهم من فعل المزيد بصورة أفضل، وينبغي على جميع دول العالم، بدءاً بالدولتين الأقوى حالياً، اتباع مثل هذا التعاون، والاعتراف بأن اعتمادهما على بعضهما خيار ليس عنه غنى. وفي الحقيقة يجب عليهم اتباع هذه الخطوات لأن الموجود على المحك ليس بأقل من مستقبل كوكبنا وبقائنا كبشر.
يجب أن يأخذ العقد الاجتماعي في اعتباره الظرف العالمي، ويجب أن يأخذ التركيز العالمي في حسبانه التغير المناخي، والأرض هي أعز ما تملكه البشرية، ومع ذلك فإنها تأثرت بالأسباب التي أدت بنا إلى أزمة «كورونا».
يرى كثيرون أن محاربة الوباء تتطلب التراجع عن العصبيات الوطنية، ولكن العلماء يضربون أروع المثل بالمضي قدما في التعاون، فهم لا يعرضون أبحاثهم في خدمة الجميع، وإنما يطرحون طرقا نموذجية في التعاون.