سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
على مدى السنوات الأخيرة، ومنذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز مقاليد الحكم، ووصول سمو الأمير محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد، أصبح المشهد السعودي باعثًا على التأمل والتدقيق؛ فلم تهدأ المملكة يومًا، ولم تدع أحدًا في الإقليم يهدأ، مع قرارات داخلية مذهلة وجوهرية، وتغييرات طالت كل أركان الدولة وثوابت السياسة وقواعد الحكم، وتحركات سياسية وعسكرية سريعة وتحالفات إقليمية ودولية مؤثرة ومتشابكة، وبات المشهد السعودي أكثر المشاهد الإقليمية حركية ونشاطًا وتأهلًا للقيادة. ولقد طرح كل ذلك السؤال الأساسي الذي أصبح عنوانًا رئيسيًا على صدر الصفحات الأولى للصحف المحلية والعالمية، والمقالات الصحفية منذ عام 2015 وحتى الآن، وهو: ما الذي يجري في المملكة؟ وينطبق السؤال على كل ما جرى ولا يزال، داخل أروقة المملكة، ومن ضمنها، وضعية الدبلوماسية السعودية في ظلال الاضطرابات الإقليمية.
ولكي نجيب عن هذا التساؤل المتعلق بماهية التحديات التي تواجهها الدبلوماسية السعودية في ظل الاضطرابات الإقليمية، وكيف نجحت في اقتناص الفرص والنجاح في العديد من الملفات والقضايا، سنحاول تفسير الحالة السعودية، وطبيعة الملفات الإقليمية المضطربة، وعلاقة الدبلوماسية السعودية بالأمن القومي، ومن ثَمَّ كيف نجح ولي العهد في بلورة الدبلوماسية السعودية والعلو من شأنها وتأثيرها العام داخل الإقليم وخارجه. وفي وسط ذلك سنبرز شيئًا من التغييرات التي طرأت على الخارجية، كمسألة تجديد دماء دبلوماسية المملكة بوجوه شابة، ويشار هنا إلى سمو الأمير خالد بن سلمان، سفير المملكة لدى الولايات المتحدة الأميركية، ونظرائه ممن تقلدوا المنصب في العديد من الدول، وقطعًا أهم المحاور التي تقوم عليها السياسة الخارجية للمملكة.
– الحالة السعودية.. المتغيرات الثلاثة[1]
قبل الحديث عن الحالة السعودية الراهنة، نرى من المهم التطرق إلى الحديث عن المحاور الحديثة للسياسة السعودية الخارجية في مرحلتها الراهنة[2]، التي تتميز عن غيرها بثلاثة محاور، هي: محور الثوابت، ومحور مواكبة المتغيرات الدولية، ومحور الحزم. إن المتابع للنهج السياسي السعودي منذ نشأة الدولة، يلحظ تركيزها على الثوابت المتمثّلة في أنها قبلة المسلمين، وفيها الحرمان الشريفان، ويقع عليها مسؤوليات التضامن والتعاون مع العالم أجمع، بما يحفظ حقوق الأمة الإسلامية ويحقق مصالحها في شتى أنحاء المعمورة، وكذلك احترامها للمواثيق والتعهدات والاتفاقيات الدولية ودعم المنظمات الدولية السياسية والحقوقية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، وإقامة علاقاتها على مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والعليا للأمة، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، وإغاثة الملهوف وفق الأعراف الإسلامية، والبعد عن الصخب في ممارسة أدوارها العالمية بهدوء وحكمة وصبر ما أطلق عليها سمة (السياسة ذات النفس الطويل)، ليس ذلك في بُعد الثوابت فحسب، وإنما إيمانها الراسخ بالسلام العالمي والاستقرار الدولي والإقليمي بما يحقق التنمية والرخاء لجميع الدول.
وفي محور مواكبة المتغيرات الدولية، التي تفرض نفسها على ساحة العلاقات الدولية، تتفاعل السياسة الخارجية السعودية مع تلك المتغيرات بإيجابية عالية وبمبادرات داعمة، وبخاصة في القضايا المحورية كقضية الإرهاب التي عانت منها الدولة كثيرًا؛ حتى أصبحت خبراتها وتجاربها في مكافحة الإرهاب، مضربًا للمثل ومرجعًا للاستفادة من تلك التجارب. وفي قضايا حوار الحضارات والطاقة والبيئة والمناخ والأزمات المالية العالمية، كان للمملكة السبق في دعم الجهود الدولية في معالجة تلك القضايا بما يخدم التوجهات العالمية نحوها.
والمحور الأخير، وهو محور الحزم، جاء متزامنًا مع تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، دفة الحكم في البلاد والتطورات الإقليمية على وجه الخصوص، التي تمثلت في آثار ثورات الربيع العربي، والتطرف المذهبي، والتوسع والتغول الإيراني، والحلم العثماني، وعوامل أخرى كثيرة، فرضت على صانع القرار السياسي الخارجي، التحول في إدارة الأزمات من سياسة التجاوز والتسامح وغض الطرف، إلى سياسة العزم والحزم ووضع الأمور في نصابها ووقف العبث الإقليمي لبعض القوى المهووسة بالتوسع[3]. ولكي نبرز الصورة بشكل أوضح، نحاول تلخيص المتغيرات الطارئة على الحالة السعودية، كالتالي:
– الاقتصاد الجديد ورؤية العيش من دون النفط:
من أول هذه المتغيرات والضرورات الطارئة على الحالة السعودية، هو تراجع أسعار النفط، فحتى أشهر قليلة من آخر عهد الملك عبدالله، بلغت عائدات وفوائض النفط أرقامًا مكنت الدولة من المضي قدمًا في مختلف برامج الإنفاق دون تقليص في حصة المشروعات والبرامج، وقد حافظ ذلك على الثقة والتفاؤل الوطني، ثم تراجعت أسعار النفط إلى نقطة حرجة، وتراجعت عائداته بشدة؛ ولذلك تخطط رؤية المملكة للعيش من دون النفط، وتعزيز الاستدامة المالية، وتنويع مصادر الدخل، وترشيد الإنفاق الحكومي، ودعم القطاع الخاص.
– الأزمات الإقليمية (إيران، اليمن، سوريا، قطر):
ترافق التغيير في الحكم وقدوم الملك سلمان، وولي العهد الأمير محمد، مع أقصى مراحل للتغلغل العسكري الإيراني في دول الجوار وفي الخليج من خلال الحرس الثوري. كما ترافق التغيير مع وصول الخطر الإيراني إلى الجار الجنوبي للمملكة الذي كان مأمونًا تقليديًا، بعد انقلاب الحوثي – صالح، وتزايد مؤشرات الدعم الإيراني للحوثيين. وجاء التغيير – أيضًا – في ظل أقصى فترات انتشار الجماعات الشيعية المسلحة ما دون الدولة في الإقليم، وعلى رأسهم حزب الله، على نحو شكل أكبر تحدٍ لسياسة المملكة تجاه الأزمة السورية.
كما جاء التغيير في سياق مشهد خليجي ظل مستمرًا ومستقرًا، لكنه ينطوي على جوانب خلل شديدة منذ أكثر من 20 عامًا، وتمثل في بروز دور قطري نال – على الأرجح – من الدور السعودي، ثم تطور على وقع تحالف قطر مع الإخوان المسلمين، وانفجر في أزمة الرباعي العربي مع قطر في مايو 2017، ما أشار إلى أن قطر لا تريد أن تترك فرصة للمملكة لكي تستعيد القيادة، وهي التي تركت قطر في هذا الموقع لسنوات طويلة، مع فارق المكانة والحجم والدور. وبرزت ذروة التحدي القطري للمملكة مع اتجاه قناة الجزيرة إلى التحريض ضد الأوضاع الداخلية في السعودية، التي بدت كمارد عملاق ظل نائمًا وترك دوره لغيره سنين طويلة، ثم أفاق ليرى الخطر على بابه.
– التغيير في القيادة الأميركية:
خلخلت فترة إدارة باراك أوباما للولايات المتحدة، قواعد وأسس التحالف الاستراتيجي الأميركي السعودي. ومع حلول إدارة دونالد ترمب، أتيحت الفرصة لعقد صفقة تاريخية توفر للمملكة فرصة لضبط الأوضاع واستعادة دور القيادة؛ ولذلك كان الترتيب مع هذه الإدارة فورًا، إثر إعلان فوز ترمب، وربَّما قبل ذلك من خلال مجموعات عمل مشتركة، رتبت لما جرى الإعلان عنه تاليًا في القمة الخليجية الأميركية الإسلامية في مايو 2015.
تؤكد المتغيرات الثلاثة المذكورة آنفًا، أن قدرًا من السياسات الخارجية للمملكة، اتخذها صانع القرار بحكمة ورشد، لتمكنه من إحداث تغييرات ضرورية في الداخل، وسياسات في الجوار لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وتحقيق قفزة هائلة ونقلات متسارعة للدور السعودي في الخارج، والتطور الكبير في الداخل[4]. وصاحب ذلك خطاب جديد وعلاقات خارجية قائمة على الندية، قدمها عرّاب السياسة السعودية الجديدة وصانع تحالفاتها المديدة، الأمير محمد بن سلمان، قدمها بداية من كونه وزيرًا للدفاع، مرورًا بكونه وليًا للعهد، ففي بضعة أشهر قليلة، استطاع تغيير شكل العلاقات الخارجية للمملكة مع جميع الدول العظمى، وتبنيه لرؤية السعودية 2030 والتعاون مع بعض الدول لتنفيذها.
ولم تقف الدبلوماسية السعودية، عند عودة العلاقات لسابق عهدها مع الولايات المتحدة – على سبيل المثال – حيث لم يتم النظر إلى العلاقات مع واشنطن، على أنها منتهى الآمال ومحطّ الرحال، على العكس، لم يمنعها ذلك من طيّ سجل الفتور في العلاقات مع روسيا، فشهدت العلاقة مع موسكو تطورًا واضحًا، ليعود التنسيق النفطي بين البلدين بأسعار النفط إلى الاستقرار عالميًا. كما لم تعترف المملكة بلغة العلاقات الفردية فقط، بل تبنت لغة المصالح في العلاقات الدولية، ومفهومًا عميقًا للشراكات الاستراتيجية مع الدول العظمى، حتى وإن كانت بين قطبي العالم وأنداد التقدم الصناعي والعسكري على مر التاريخ: واشنطن وموسكو[5].
ومن الناحية الاقتصادية والشراكات مع الدول الصناعية الكبرى، كان للسياسة الخارجية السعودية وجهة نظر خاصة، حيث رأت أن تقيم المملكة علاقات شراكة اقتصادية نوعية مع اليابان، ولا يعني ذلك أن لا تتمتع بعلاقة استثنائية مع العملاق الصيني، فالرؤية الشاملة تقوم على بناء علاقات مختلفة للمملكة مع الدول الكبرى، وترتكز دائمًا على مصلحة الوطن والشعب السعودي.
– الدبلوماسية والأمن القومي
ووفقًا لتحليلات الأوضاع السياسية والاقتصادية والمعلوماتية، وأثرها على السياسة الخارجية بشكل عام، وعلى مستجدات السياسة الخارجية للمملكة ودبلوماسيتها، خصوصًا في ظل الاضطرابات الإقليمية المحيطة وتشابك الخيوط إلى درجة تقترب من اللامعقول، يتضح أن قوة الاقتصاد السعودي تنعكس – بشكل مباشر – على مكانة المملكة التأثيرية في تفاعلاتها الخارجية، ولا سيَّما قيمة الأمن الوطني السعودي وعلاقته المباشرة بمفهوم القوة الوطنية والاستقرار السياسي للمملكة. وهنا نؤكد على أهمية القدرة الاقتصادية في تعزيز الاستقرار والأمن الداخلي. وبحسب أهم الملامح الرئيسة لميزانية المملكة لعام 2018، فإنها تحوي توجهات طموحة من شأنها أن تساعد – بشكل عملي – على إحداث نقلة موضوعية في طبيعة التحولات المرسومة من قبل القيادة بما يحقق تطلعات الرؤية الاستراتيجية 2030 المستقبلية.
وعن العلاقة الوثيقة بين الدبلوماسية والأمن الوطني، والتأثير المباشر لإدارة الشؤون الدبلوماسية على معطيات ومتطلبات الأمن الوطني، فالدبلوماسية تتجلى في صورها المختلفة كداعم قوي لتوجهات السياسة الدولية الخارجية لتعزيز قيمة الاستقرار الوطني السياسي. ونشير هنا إلى التطورات الإيجابية في السياسة الخارجية السعودية في الدائرتين الإقليمية والدولية، وأن أهمية تفاعل المملكة مع العديد من القضايا تنبع – عادة – من مقدرات القوة التي تتوفر لها ممثلة في العقيدة الإسلامية، والثقل العربي، والقوة النفطية، والمميزات الجيوستراتيجية، بالإضافة إلى توجهاتها السلمية كدولة محبة للسلام[6].
– دبلوماسية الشباب.. رؤية وتطوير
تغيرت الدبلوماسية – بشكل كبير – خلال السنوات القليلة الماضية، وأصبح الدبلوماسي يقوم بأدوار جديدة لم تكن معهودة من قبل. فالدبلوماسي الذي كان يقضي جل وقته في مبنى السفارة غارقًا في المعاملات والمراسلات الرسمية، تحول إلى رجل يجوب الشوارع ويتحدث مع الناس والمؤسسات الفكرية ووسائل الإعلام، محاولًا ربط بلاده بشعب الدولة التي يعمل بها. فالدبلوماسي – اليوم – جزء من قوة بلده الناعمة، ومصدر هام من مصادر دبلوماسيتها الشعبية.قدم الدبلوماسيون في الماضي، خدمات جليلة لبلدانهم في وقت كانت الدبلوماسية التقليدية تتمحور حول التواصل مع القيادات السياسية دون الاهتمام بالرأي العام، ولكن طبيعة الدبلوماسية تغيرت بشكل سريع، وأصبحت أكثر ديناميكية من أي وقت مضى، وأصبح الدبلوماسي في سباق مع الزمن لإيصال وجهة نظر بلاده للشعوب والمفكرين وقيادات الرأي قبل السياسيين[7].
من هذا المنطلق، حرص خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، علىاختيار سفراء شباب للقيام بالمهمة ليكونوا الوجه الذي يعكس الحراك الذي تعيشه المملكة. إن حماس الشباب – بكل تأكيد – هو ما تحتاج إليه دولة فتية مثل المملكة، فالسفير الشاب قادر على التحرك والانطلاق بعيدًا عن الرسمية التي تغلف تحركات الدبلوماسية التقليدية، والدبلوماسية الجديدة بحاجة إلى دماء شابة قادرة على استيعاب متطلبات المرحلة والقيام ببناء الجسور مع الحكومات، وأيضًا الشعوب. كما أن السفير الشاب، نشأ في عصر العولمة والتقنية والتواصل الاجتماعي، ويعرف أن الشعوب أصبحت قوة مؤثرة في القرارات السياسية، ولا يمكن لأي سفير النجاح – اليوم – دون مد الجسور مع الشعوب وخلق جو من التفهم والتفاهم معها؛ لذلك فإن تواصله لن يكون وجهًا لوجه مع الناس فقط، بل سيبحث عنهم عبر الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، بلا خوف من مواجهة الإعلام، ولا يعتبره خصمًا كما كانت تعتقد الأجيال السابقة من الدبلوماسيين في العالم، بل يعتبره أداة فعالة ومجانية يمكن استخدامها لإيضاح السياسة الخارجية وأسباب اتخاذ القرارات[8].
ولذا، شهدت الدبلوماسية السعودية – مؤخرًا – عددًا من التغييرات في هيكلة وزارة الخارجية، التي جددت من خلالها الدماء الإدارية والدبلوماسية، سواء داخل المملكة، أو من يمثلونها في الخارج من خلال بعثاتها حول العالم، وذلك عبر تفعيل برنامج التطوير والتحول الاستراتيجي بضخ دماء جديدة وتعيين عدد من الشباب كسفراء أو قائمين بالأعمال في الخارج، وإلغاء مركزية وبيروقراطية بعض السفراء كبار السن، بغية الارتقاء بالعمل المؤسسي للدبلوماسية السعودية.
وتشكل روح الشباب ومستقبل الدولة، الكلمات الأكثر تناقلاً بين الشباب السعودي، بعد العديد من الأوامر الملكية التي أصدرها الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي بدأ – منذ تقلده سدة الحكم – في إنعاش المؤسسة السياسية في البلاد، من خلال تعيين العديد من الأمراء الشباب في مناصب وزارية ودبلوماسية مختلفة؛ تؤكد كلها على أهمية وجود الشباب بالعمل السياسي والعسكري والاقتصادي، مع أهمية إتاحة الفرصة لهم لخوض تجربة دبلوماسية ليست سهلة عن طريق إكسابهم الخبرات اللازمة لأداء أعمالهم الموكلة إليهم من خلال تدرجهم في العديد من المناصب، مستحضرين تجارب سعودية واعدة أثبتت أن الدبلوماسيين الشباب أكثر جرأة ونشاطًا ومرونة وشجاعة في اتخاذ القرارات المصيرية خدمة للمصالح الوطنية.
الثقة الملكية في الجيل الجديد والشباب من الأسرة الحاكمة للانخراط في الأعمال اليومية للحكومة السعودية عبر مواقع مختلفة، لم تأتِ من فراغ، بل أتت نظرًا لما يمتلكونه من رؤية وتطوير نحو تنمية الوطن، داخليًا وخارجيًا، عبر الدفع بهم لتمثيل بعثات المملكة وتطوير علاقاتها بالدول التي عُيِّنوا فيها، وفتح مجالات التعاون والتنمية والزيادة في التعاون في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية، بما يعزز الدور الإقليمي والدولي للمملكة، بالإضافة إلى تقدم كل الخدمات لأبناء الوطن في كافة دول العالم، والعناية بشؤونهم وفق توجيهات القيادة الرشيدة.
– الدبلوماسية في ركب الأزمات الإقليمية
ومما سبق، يتضح – جليًا – أن الدبلوماسية السعودية تمضي قدمًا، في ركب الأزمات الإقليمية والدولية، لإيجاد حلول ومقاربات خلاقة لها، ترضي الأطراف كافة. القوة الدافعة لتقدمها بخطوات راسخة، حكمة القيادة في المملكة، التي تنتهج خطًا مدروسًا بعناية فائقة، لا تغفل عن الفخاخ التي نصبت لها في ممرات وطرق شتى، وهي لا تقوم فقط على تفكيكها وإبطال مفعولها بمهارة، بل تكشف عن هوية من نصبوها في المحافل الدولية بكل شفافية، ليدينهم العالم ويتقي شرهم وخبثهم. ونذكر هنا المؤامرة التي تحكيها الحكومة الإيرانية في اليمن ولبنان وسوريا، باستخدام ميليشياتها المسلحة[9].
وفي إطار تنشيط الدبلوماسية السعودية، أطلقت وزارة الخارجية في الصيف الماضي خطتها الاستراتيجية، تماشيًا مع برنامج التحول الوطني 2020، ومواكبة لنمو المملكة اللافت على الساحة الدولية. وتقدم الخطة حزمة من المبادرات الرائعة وآليات تنفيذها، أبرزها: تعزيز الدبلوماسية العامة، وتفعيل الشراكات الإقليمية والدولية لخدمة اقتصاد الوطن، ورعاية المواطنين وحماية مصالحهم في الخارج، وإبراز صورة المملكة المشرقة عالميًا. ولا تغفل الخطة الاستراتيجية، إعادة هيكلة الوزارة بما يلائم نمط العلاقات الدولية المعاصرة التي تتسم بحركة بالغة السرعة. كما درجت وزارة الخارجية على عقد اجتماع كل ثلاث سنوات لرؤساء بعثات المملكة في الخارج.
وبالفعل، حققت الدبلوماسية السعودية، العديد من الإنجازات والنجاحات المتتالية التي يشهد بها العالم في المحافل الدولية، فعلى مدار الثلاث سنوات الماضية، تمكنت من ترك بصمتها القوية، إقليميًا ودوليًا، في الوقت الذي تموج فيه منطقة الشرق الأوسط بالكثير من النزاعات؛ حاملة على عاتقها، باعتبارها رائدة وقوة إقليمية عربية وإسلامية، مسؤوليات التعاون الدولي لإحلال السلام في الشرق الأوسط والدول الإسلامية.وانطلاقًا من مبدأ “للحق قوة تحميه”، نذكر هنا ما قامت به الدبلوماسية السعودية لأكثر أقلية مضطهدة في العالم، “مسلمي الروهينغا”؛ مشوار طويل من الجهود الدبلوماسية السعودية تكلل بانتصار أممي للروهينغا، حيث صدر قرار في لجنة حقوق الإنسان التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، يطالب حكومة ميانمار بالوقف الفوري للانتهاكات ضد مسلمي الروهينغا.
ولا تعتمد الدبلوماسية السعودية على الخيارات الكلاسيكية في التعاطي مع الدول التي تربطها بها علاقات قوية، وإنما البحث عن خيارات جديدة، تعزز عبرها العلاقات مع عواصم كانت على وفاق بشكل متواضع مع المملكة. وفي هذا الصدد، نجحت المملكة في احتضان دول القرن الإفريقي، وهذا ما حدَّ من عمليات القرصنة وتحرك الإرهابيين عبر البحار، وأيضًا السيطرة على عمليات تهريب السلاح الإيراني إلى اليمن.وكذلك تلك الصولات والجولات، التي نفذتها السعودية في الأزمة القطرية، حيث لمع دور الدبلوماسية السعودية في إدارة الأزمة الخليجية بعد قطع العلاقات مع قطر لدعمها للإرهاب والتحريض على العنف في عدد من الدول العربية بينها مصر وليبيا، ولم تتمكن الدبلوماسية القطرية من الصمود في المواجهات الإعلامية والمحافل العربية والدولية.
وحازت الدبلوماسية الإلكترونية السعودية، المركز الثاني عالميًّا بعد أميركا، وهو ما جاء نتاج الجهود الكبيرة التي يقوم بها مركز الاتصال والإعلام الخاص بوزارة الخارجية السعودية في مدة قصيرة جدًّا، حيث يستخدم المركز ١٨ لغة عالمية لتوصيل فكر وثقافة وأجندة السعودية للعالم. وأيضًا جاء النجاح السعودي في مكافحة الفكر المتطرف من خلال التفاعل الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي لوزارة الخارجية ومركز الحرب الفكرية، التابع لوزارة الدفاع “اعتدال”، وتمَّ وضع فيديو إبداعي للمركز الإعلامي لوزارة الخارجية[10].
وبخلاف ذلك، نجحت الدبلوماسية السعودية في الأمم المتحدة، نهاية العام الماضي، في إقناع عدد من الدولي بالتصويت لصالح القرار الذي قدمته بعنوان “أثر الإرهاب على حقوق الإنسان”، إذ تمَّ تمريره بأغلبية كبيرة؛ وهو ما يجسِّد قوة ومكانة السعودية في المحفل العالمي، فضلاً عن كونها رسالة للعالم بأن الرياض ليست فقط حريصة على كبح جماح الإرهاب ولجمه واجتثاثه من جذوره فحسب، بل إعطاء الدول الحق في حماية حقوق الإنسان على أراضيها ضد الإرهاب والجماعات المتطرفة، وضرورة وقف التمويل والدعم السياسي والعسكري لهذه الفئة الإرهابية[11].
– الفرص من قلب التحديات
ختامًا، السعودية – اليوم – بات حضورها الدبلوماسي يليق بمكانتها المهمة كقبلة العالم الإسلامي، وأكبر منتج بترولي، وأحد أهم الاقتصادات الدولية، وأكبر سوق في الشرق الأوسط. ونشهد – مؤخرًا – مشروع “نيوم” الذي أطلقه ولي العهد، والذي جاء بعد زيارة الملك سلمان لروسيا، عزز الثقة العالمية بوضع الاقتصاد وشجع المستثمرين، حيث إنّ المملكة تعتبر اقتصادًا مؤثرًا على الصعيد الدولي؛ لأنها من مجموعة دول الـ20، فمشروع “نيوم” الاقتصادي أتى استكمالًا لرؤية السعودية 2030، ليكون رافدًا قويًا للمملكة بديلًا لمصادر النفط، كونه الأضخم والأول من نوعه في العالم، مستخدمًا أحدث التقنيات الموجودة، ومستقطبًا أقوى الشركات العالمية.
تحقق الدبلوماسية السعودية، نجاحات متتالية يشهد بها العالم في المحافل الدولية، حيث تمكنت من ترك بصمتها القوية، إقليميًا ودوليًا، في الوقت الذي تموج فيه منطقة الشرق الأوسط بالكثير من النزاعات الإقليمية، وتشابكت فيها الأطراف الداخلية والدولية، التي لعب حراك دبلوماسيتها دورًا محوريًا في معالجة العديد من ملفات المنطقة الساخنة، وفي قيادة المنطقة والدفاع عن قضايا الأمتين العربية والإسلامية وخدمة الإسلام والمسلمين، ومناصرة قضايا الأمة العربية بدءًا بالقضية الفلسطينية التي تُعَد ركيزة أساسية للسلام والاستقرار العالمي.
وحملت دبلوماسية المملكة على عاتقها، باعتبارها رائدة وقوة إقليمية عربية وإسلامية، مسؤوليات التعاون الدولي لإحلال السلام في الشرق الأوسط، عبر تبني استعادة الشعب الفلسطيني أرضه وفقًا لاتفاقية السلام العربية، وبذلت جهودها للحفاظ على وحدة الأراضي اليمنية، والحفاظ على الشرعية فيها، إلى جانب جهودها في تسوية الأزمة السورية، عبر الجهود الدبلوماسية السعودية الحثيثة والمكثفة لتفعيل وتطبيق مبادئ مبادرة “جنيف1″، وإيجاد آلية للوصول للهدف المشترك بين الطرفين، الذي يتمثل في دولة سورية موحّدة تعيش جميع مكوّناتها فيها بحقوق مكفولة وعادلة، وحراك دبلوماسي سعودي تشهدها بغداد أعاد العراق إلى الحضن العربي، وأطلقت في وقت سابق، مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية تتسم بالتنسيق الشامل في شتى المجالات بين الرياض وبغداد.
وتجني الدبلوماسية السعودية، ثمار إنجازاتها، وذلك في إطار نجاح عظيم وتاريخي غير مسبوق باستضافة القمم المتتالية، في أضخم وأكبر وأهم تجمع سياسي على مستوى العالم عقد خارج مقر الأمم المتحدة، التي احتضنتها الرياض، “سعودية أميركية”، و”خليجية أميركية”، و”عربية إسلامية أميركية”، التي تخللها إطلاق مركز دولي لمكافحة التطرّف (اعتدال). وكذلك تمَّ – سابقًا – الإعلان عن استراتيجية الولايات المتحدة بشأن الملف الإيراني، التي اتسمت بالحزم والمواجهة مع النظام الإيراني الراعي للإرهاب، إذ بيَّن الرئيس الأميركي في خطاب عن تعاون حلفاء المنطقة مع الإدارة الأميركية، لبلورة قواعد محددة لعقيدة عسكرية صارمة لوضع حد لتصرفات إيران الإرهابية المزعزعة لاستقرار المنطقة، ومنع النظام الإيراني من امتلاك أي سلاح نووي.
وحدة الدراسات السياسية*
المراجع
[1]المداخل الثلاثة الحاكمة لتفسير ما يجري في المملكة العربية السعودية، د. معتز سلامة، مركز الأهرام للدراسات.
[2]ثوابت السياسة الخارجية السعودية الحديثة، د. طلال الشريف، صحيفة الوئام.
[5]الأمير محمد بن سلمان.. “عراب السياسة السعودية الجديدة وصانع تحالفاتها المديدة”، مجلة الرجل.
[6]السياسة الخارجية للمملكة، معهد الأمير سعود الفيصل للدراسات.
[7]دبلوماسية الشباب، د. تركي العواد، مجلة الدبلوماسي الصادرة عن الخارجية السعودية، نسخة مطبوعة، ص 64 العدد 88.
[9]توهج الدبلوماسية السعودية، السفير نايف بن بندر السديري، جريدة الشرق الأوسط.
[10]الدبلوماسية الإلكترونية السعودية الثانية عالميًّا بعد أميركا، صحيفة المواطن.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر