سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
يوصف عالم الغد في تنبّؤات المبتكرين المجدّدين بأنه عالم كلّيُّ الحوْسبة؛ عالمٌ بات يعيش على عتبة ‘شؤونٍ أنترنتية’ أو ‘أنترنت كل شيء’؛ شاهدُ ذلك توقّعاتٌ بأن يرتفع عدد مستخدمي شبكة الأنترنت عام 2020 إلى ما يربو عن الـ 5 مليار؛ و ما منْ حكومةٍ، بما فيها تلك الأكثر شمولية، استطاعت أن تقاوم اندفاعها نحو المجال الرقمي، حيث أصبح الفضاء المعلوماتي أمرٌ لا يمكن الاستغناء عنه؛ والحقبة التكنولوجية تعِد الدول المتطلعة لها بمكاسب سخية في جميع المجالات، بما فيها مجال تمثيل الدولة والتفاوض نيابة عنها، أو الدبلوماسية.
أثناء انعقاد مؤتمر كوبنهاغن للتغيّرات المناخية، سجّل بعض النقاد السياسيين ،بسخرية، مفارقةَ سفرِ المؤْتمرِين لآلاف الأميال عبر طائراتٍ تتسبّب في انبعاثِ غازات عالية من أجل مناقشة أفضل السبل للحدّ من هذه الانبعاثات، وفي مؤتمر تورنتو 2010 تساءل النقاد عنْ ما إذا كان من الحكمة أن يشارك رجال الدولة في اجتماعات باهضة التكلفة تزامنا مع الركود الاقتصادي العالمي. أثارتْ هذه المخاوف أحجيةً نظرية مهمة: لماذا لم تتأثر الدبلوماسية بالثورة التكنولوجية؟
تُسائل هذه الورقة البحثية مدى جدّية وعود الدبلوماسية الرقمية في بناء وصيانة علاقات الدول، وتفترض بأن قدرة الدبلوماسيين الرقميين على التكيف مع وظائف التمثيل والاتصال وأعراف الإتكيت والبروتوكول الدبلوماسي، تتوقف على مدى قدرتهم على التحديث والتكيف مع التحديات التي يواجهونها في الفضاء الإلكتروني.
نقاشات الدبلوماسيتيْن: التقليدية والرقمية
تمثّل الدبلوماسية الرقمية امتدادا جديدا وعمليا لمفاهيم القوة الناعمة والدبلوماسية العامة، إذْ تعتمد على المفهوم الأول في توسيع المنصات التي تطلقها الحكومات كحَملاتٍ لتحسين صورتها وسمعتها الوطنية، أما في المفهوم الثاني فهي تعزّز الاتصال متعدّد الاتجاهات بين الدبلوماسيين وعموم الجماهير.
تصف الدبلوماسية الرقمية أساليب وطرق ممارسات دبلوماسية جديدة بمساعدة الأنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصال، كما أنها تشير إلى حصول أعداد كبيرة من البشر على معلومات أفقية تتيحها شبكات متناظرة، بدلا من العملية القديمة التي تتدفق فيها المعلومات بشكل عمودي من السلطة الإعلامية التقليدية.
تَعتبر وزارة الخارجية الفرنسية أن ‘الدبلوماسية الرقمية هي امتداد للدبلوماسية بمفهومها التقليدي، وتستند إلى الابتكارات وأنواع الاستعمال الناجمة عن تكنولوجيا المعلومات والاتصال’؛ وتنشط وزارات الخارجية وطواقمها عبر مختلف شبكات التواصل الاجتماعي، وأبرزها موقع تويتر، حيث أن ثلثي الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة لديها حسابات رسمية على تويتر، وهي ظاهرة اصطلح عليها تسمية “دبلوماسية تويتر Twiplomacy”؛ وتمثّل أبرز مظاهر الدبلوماسية الرقمية ذات الطابع التفاعلي، وتجلى ذلك في نشوء مؤسسة تحمل ذات الاسم، وتُصدر تقارير سنوية عن هذا النوع المستجد من الدبلوماسية، إضافة إلى تتبع تفاعلات قادة العالم عبر هذه المنصة؛ أبعد من ذلك، يتحدّث مانور وسيجيف عن “دبلوماسية الصورة الشخصية Selfie Diplomacy”، حيث تعمد الدول إلى نشر محتوى جذاب يكشف عن طبيعة بلد متعدد المشارب، فالدول التي يَشيع عنها أنها كئيبة وباهتة الحضور، ستسلط الضوء بصفة درامية على مناظرها الطبيعية، أما تلك الدول التي تُعرف على أنها مرتبطة بالصراع المسلح، فستؤكد على تراثها الثقافي وتقاليدها الديمقراطية وجهودها لتعزيز السلام العالمي؛ إضافة إلى فئة أخرى من الدول ستوظف دبلوماسية الصورة الشخصية لتسويقٍ أكبر لصورتها الذاتية، وإعادة بعث وسمها الذي يميزها، مثل شعار ‘حرية،مساواة، أخوة’ بالنسبة لـ فرنسا.
يشار،عادة، إلى كاسبر كلينج على أنه أول سفير تكنولوجي في العالم، حيث عيّنته الدنمارك سفيرا لدى شبكات “الجمهوريات الافتراضية” بما فيها الشركات المتخصصة في صناعة الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، غير أن الجهود الأولى لمحاولة رقمنة الدبلوماسية هي أقدم من ذلك، حيث أبانت الهجمات على سفارات الولايات المتحدة في شرق إفريقيا عام 1998 عن افتقارٍ إلى تواصل فعال بين قنوات وزارات الخارجية، وقد تكررت نفس المعضلة عقب هجمات الـ 11 من سبتمبر التي طرحت ضرورة إحداث تنسيق بين الدوائر الدبلوماسية والاستخباراتية من أجل أداء فعال، لذلك طرحت كوندوليزا رايس مصطلح “الدبلوماسية التحولية” وهدفت من ورائه إلى صنع سياسة خارجية أكثر ذكاء، عبر تحويل المؤسسات الدبلوماسية التقليدية إلى خدمة أغراض دبلوماسية جديدة، كما تحدّثت هيلاري كلينتون عن “فن القوة الذكية”، وقصدت به الانتقال بالحكومة إلى نسج علاقات بعيدة عن ماهو تقليدي، بمعنى المشاركة المباشرة مع الناس في جميع أنحاء العالم؛ وقد راهن زهونغ وَ لو على أن منصات المدونات يمكن أن تكون أداة لتحسين اتصالات الدبلوماسية العامة للولايات المتحدة، أما فيتشوفسكي فيذهب إلى حدّ تصنيف من يرفض استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في خانة سوء السلوك المهني؛ ميدانيًا انعكس الأمر بشكل واضح، ففي سبتمبر 2012 تم إحصاء 150 طاقم عمل في الولايات المتحدة يشتغل على 25 صيغة مختلفة للدبلوماسية الرقمية؛ وفي مطلع عام 2014 قام وزير الخارجية الكندي جون بيرد بزيارة شخصية إلى وادي السيليكون ليقابل المسؤولين التنفيذيين في غوغل وتويتر ويتعرف على آثار الأنترنت في تشكيل السياسات الخارجية؛ أما المملكة المتحدة ،التي كانت أول من أطلق موقع ويب خاص بوزارة الخارجية وشؤون الكومنولث عام 1995، فقد أعلنت عام 2010 ،على لسان وزير خارجيتها ويليام هاج، جملة من الإصلاحات ترمي إلى إعادة التفوق الدبلوماسي لبريطانيا؛ إصلاحاتٌ تراعى فيها ،من باب أولى، متطلبات عصر الرقمنة.
يجادل جون كيري بأن مصطلح الدبلوماسية الرقمية لا لزوم له، هي فقط دبلوماسية، أو بالأحرى حقبة دبلوماسية؛ يثير هذا تساؤلات عن جدوى هذه الممارسات المستحدثة في حين أن الأمر في جوهره قد بقي على حاله، فالدبلوماسية تجري في المقام الأول بين حكومات الدول، وستظل المناقشات الأكثر أهمية تتمّ “وجهًا لوجه”؛ نظريًا، أبدى هانس مورغانتو وهنري كيسنجر أسفهما تجاه التأثير المتنامي لوسائل الاتصال الحديثة على الدبلوماسية، معتقديْن أنها أفقدتها الكثير من حيويتها، فالمبالغة في إضفاء الطابع الدرامي على الأحداث ،والذي تتحكم فيه أحيانا عوائد تجارية، تسبّب في تكثيف التوترات وتأجيج الكراهية؛ فالرهان على الرأي العام غير مُجدٍ، لأن مطالبه آنية، لحظية، مزاجية واستعجالية بعيدة عن الرؤى الإستراتيجية، إنها قوة وهمية وعاجزة.
عرّف هيدلي بول الدبلوماسية (التقليدية) على أنها إدارة علاقاتٍ بين دول وكيانات لها مكانة في السياسة العالمية، من طرف وكلاء رسميين وبوسائل سلمية، أما آدم واتسون فعرّفها أنها التفاوض بين الكيانات السياسية التي تعترف باستقلال بعضها البعض، فيما ربطها كينيث والتز بتوزيع القدرات داخل النظام الدولي، فالدول القوية ستكون لها ميزةٌ في موقف المساومة، أما الأضعف فستنقاد عادة إلى التنازل، وكما جادل إيفر نيومان ‘الدبلوماسي ليس بطلا في نظريات العلاقات الدولية’؛ يُستسقى من هذا أن الدبلوماسية (التقليدية) تستند إلى منهج اللاعنف في التوفيق بين مصالح الجهات الفاعلة دوليا؛ ورغم أن المعلوماتية والشبكات الاجتماعية قد كررت أفضل جوانب نبوءة وودرو ويلسن عن عالم توحّده الديمقراطية، القواعد المشتركة والدبلوماسية الصريحة، إلا أنها تقوم أيضا بإحداث أقرب ألوان الاحتكاك بين منظومات قيم متناقضة، ومتعذّرة التطابق أحيانا.
وعود الدبلوماسية الرقمية
تقوم حجة الدبلوماسية التقليدية على أنّ الأنترنت مجرّد وسيلة اتصال تعزّز اتجاهات كانت قائمة بالفعل، فكلٌّ من الإرهاب العالمي والمنظمات غير الحكومية كانت فواعلا مؤثرة في العلاقات الدولية قبل عصر الأنترنت، وعلى الرغم من تمكين التقنية المعلوماتية لأعداد كبيرة من البشر من المشاركة بسهولة أكبر في نقاشات السياسات الخارجية، إلا أن 80% منهم لا يبدون اهتماما جدّيًا، وليست لهم مصلحة واضحة في القيام بذلك، حيث تشير بعض البيانات أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى غاية بداية الحرب الباردة يفتقر أغلبية البشر لمعلومات أساسية حول الشؤون الدولية، في حين يبدون اهتماما أكبر بالقضايا التي تمس حياتهم اليومية بشكل مباشر (الصحة، الاقتصاد، الجريمة، العلاقة بين الأعراق)؛ رغم ذلك يتحدث نيكولاس وستكوت (رئيس قسم المعلومات في وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث) عن ديناميات جديدة للدبلوماسية الرقمية تترك آثارا على صنع السياسات الخارجية في أربعة مجالات: تقديم الخدمات، الأفكار، الشبكات، المعلومات.
أ ـ تقديم الخدمات: أتاحت الأنترنت لوزارات الخارجية والسفارات توفير خدمات عامة كتقديم مشورات السفر وطلب التأشيرات وجوازات السفر، ورغم أنه مازالت هناك حاجة إلى مستندات مادية إلا أنه تم التقليل منها قدر الإمكان، كما أن الأنترنت ساهمت في تبسيط التسلسل الهرمي وتقويض التوزيع التقليدي للعمل الدبلوماسي، حيث سمحت بانتشار عدد أقل من الناس يعملون بشكل أسرع في مواقع جغرافية متفرّقة؛ وقد طرح هذا تحديات تتعلق بالأمن، وهنا يجب أن تقاس تكلفة المعلومة المفقودة أو المقرصنة بتكلفة الإزعاج أو التأجيل التي تنتشر في الممارسات القديمة.
ب ـ الأفكار: إن للأفكار أهمية قصوى في السياسة الخارجية، ووفقًا لعديد الرؤى فإن الفوضى المستمرة في العراق ترتبط أساسا بأفكار خاطئة شكّلها المحافظون الجدد عن العالم الإسلامي، وبالمثل تعكس نظرة الأصوليين أفكارا مشوّهة عن الآخر المختلف؛ إن هذه الحجج الأيديولوجية لا يمكن حسمها عبر الأنترنت، إلا أن هذه الأخيرة ستكون وسيلة نشطة لتبادل أفكار لا يمكن تجاهلها؛ سيتطلّب الأمر إعادة التفكير في كيفية إدارة المناقشات والمشاركات السياسية عبر الأنترنت، ففي فرنسا على سبيل المثال خصّصت وزارة الخارجية جلسة تفاعلية شهرية على منصة تويتر، تتيح للجمهور التواصل مع المسؤولين وطرح أفكارهم وآرائهم، وفي 19 و20 نوفمبر 2012 انعقد بمالطا مؤتمر حول الدبلوماسية الابتكارية، أكّد فيه الباحثون أن الابتكار في الدبلوماسية يحتاج إلى رؤية ثقافية متميزة وفهم للمتغيرات العالمية.
ج ـ الشبكات: يحتاج ممارسو السياسة الخارجية إلى إدراك تام بالمواقع التي تتم فيها مناقشة قضايا دولهم، ومحاولة إيجاد طرق للمشاركة فيها، فشبكة ويكيبيديا، على سبيل المثال، وبصفتها واحدة من أكبر الشبكات العالمية، هي مناطة بتغطية مجموعة واسعة من القضايا الدولية المعاصرة، وعادة ما تُستخدم من طرف غير الخبراء كمنفذٍ للتوجيه أو الحصول على معلومات أولية، وبالتالي تستهدف الدول اتّباع نهج أكثر إبداعا وذكاء لتحقيق وجود ديناميكي على الويب؛ شاهد ذلك موقع سينا ويبو (Sina Weibo) الذي أنشأته الصين لمنافسة موقعي تويتر وفيسبوك، حيث أنه بعد هجوم كونمينغ الإرهابي في 1 مارس 2014 نشرت السفارة الأمريكية منشورا على موقع ويبو تدين فيه هذا ‘العنف الرهيب الذي لا معنى له’؛ وهو ما ولّد ردود فعل لدى مستعملي الأنترنت الصينيين الذين نددوا بتجنب السفارة استعمال عبارة ‘هجوم إرهابي’، وتفاعل مع منشور السفارة السابق أكثر من 50,000 تعليق، كما أعيد نشره أكثر من 40,000 مرة، حيث أن معظم التغريدات كانت تركّز على تجنّب السفارة الأمريكية توظيف مصطلح “هجوم إرهابي” لوصف المأساة.
د ـ المعلومات: تقع المعلومة الموثوقة في صميم صنع السياسة الخارجية، وإن المشورة ومضاعفة مصادر المعلومات إلى جانب إشراك المزيد من الجهات الفاعلة سيوسع نطاق تبادل المعلومات وتحليلها، وعلى الرغم من غياب وسيلة إلكترونية آمنة لنقل المعلومات ذات الاهتمام المشترك بين الدول ذات السيادة، على الرغم من ذلك تعمل بعض الفواعل المؤثرة ،مثل الاتحاد الأوروبي، على تجاوز هذه العقبة، خصوصا أن تبادل حرية المعلومات من أسس سياسته الخارجية المشتركة.
إن وسائط التواصل الاجتماعي بالنسبة للدبلوماسيين الرقميين هي أكثر من مجرّد أداة للتواصل؛ أحيانا تكون نافذة لتحقيق ما كان يبدو مستعصيا في الدبلوماسية التقليدية، ففي سنة 2013 فتحت إسرائيل سفارة افتراضية في دول مجلس التعاون الخليجي، مستخدمة اللغتين العربية والإنجليزية في مخاطبة الجمهور المستهدف، مبتعدة قدر الإمكان عن الانخراط في الجدال مع المستخدمين، مركّزة على أن الابتكار الإسرائيلي من شأنه أن يفيد دول وشعوب المجلس، حدث هذا رغم أن إسرائيل ليس لها وجود رسمي في أي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي، وقبل ذلك فتحت الولايات المتحدة أول سفارة افتراضية في إيران عام 2011 من أجل تعزيز فرص الحوار مع المواطنين الإيرانيين واستقاء المعلومات من الشعب بمعزلٍ عن المصادر الحكومية، كما قدّمت السفارة نماذجا عن إيرانيين نجحوا في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 2014 نشرت السفارة تهنئة باراك أوباما للشعب الفارسي بمناسبة عيد النوروز، وبحسب مجلة بوليتيكو فإن نسبة مشاهدة فيديو التهنئة في طهران كانت أعلى من سان فراسيسكو؛ كما يستشهد كذلك بالممثلة الخاصة للمجتمعات الإسلامية بوزارة الخارجية الأمريكية ‘فرح بانديث’ التي كانت تجيب يوميا عن أسئلة مسلمينَ متنوعي الثقافات لديهم شك في ممارسات حكومة بلدها، وتترجم منشوراتها إلى لغات الباشتو، الأردية، العربية، السواحلية وغيرها؛ من جانب آخر استرعت الدبلوماسية الرقمية الانتباه إلى تعزيز الممارسات الديمقراطية والتنبيه إلى انتهاكات حقوق الإنسان، حيث أبدت كثير من الدول مساندتها للحملة الإعلامية التي قادتها مجموعة ‘مليون صوت ضدّ فارك’ أين احتجت أكثر من مائتي مدينة على نشاطات القوات المسلحة في كولومبيا (فارك)، وتم تدوين التعبئة على أنها أكبر احتجاج على منظمة إرهابية في التاريخ؛ كما يمكن أن توظف الدبلوماسية الرقمية في علاقات القوى الكبرى، حيث استخدم سفير الولايات المتحدة في روسيا مايكل ماكفول منصة متعددة اللغات، وكان يستعمل تويتر عندما يتعلق الأمر بقضية معقدة، في حين يلجأ إلى فيسبوك عندما يريد التحدث مع المجتمع؛ أقرّ ماكفول بأن هذه المنصة مكّنته من الوصول إلى وسائل إعلام معادية، كما أنه استطاع الحديث إلى قطاع عريض من المواطنين الروس، إلا أنه أبدى تحفظا على أن عدم التلامس بين ما هو مهني وما هو شخصي يظل مبتغى صعب المنال لكل من ينخرط في ممارسة الدبلوماسية الرقمية.
الدبلوماسية الرقمية في مواجهة تحديات الواقع
غرّد أليك روس ،كبير مستشاري وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون للابتكار، “القرن الحادي والعشرين هو وقت فضيع لك، إذا كنت مهووسا بالسيطرة”؛ تجد مقولة روس سندا لها في ما ذهب إليه بيتر ثيل “الفيسبوك يساهم في إنشاء مجموعة تفاعلية عابرة للحدود تتجاوز قدرة الحكومات على توجيه ورقابة المعلومة”؛ على الرغم من أن التقنيات الرقمية تعد بإحداث تغييرات هامة على المدى البعيد، إذْ ستسهم في تمكين الضعغاء، وبناء هندسة أكثر تعددية، وتبدو ضليعة في تكوين مجتمع عالمي ديمقراطي، إلا أنها بالمقابل تطرح مستقبلا يحمل تحديات جادة، فإضافة إلى اعتراف الدبلوماسيين الرقميين بصعوبة الفصل بين ما هو شخصي وما هو مهني، تتزايد وتيرة السخرية العامة على منصات التواصل الدبلوماسي الرقمية، وتنتشر مشاعر الخوف وعدم الثقة الاجتماعية وكذلك الأخبار الوهمية، وهي تحديات غذّت مواقف الجهات الحكومية وغير الحكومية من عواقب التقنيات الرقمية.
إذًا؛ لقد أضحى الأمر واقعا قائما لكن بمفارقة جدّ خطيرة، فنفس الأدوات التي تسمح لوزارات الشؤون الخارجية والسفارات الوصول إلى ملايين البشر وبناء جسور رقمية مع الجمهور بهدف تعزيز التعاون الدولي وتحسين مشاركة الشتات وتحفيز العلاقات التجارية والتطلع لمستقبل واعد في إدارة الأزمات، هي ذات التقنيات التي يمكن أن توظَّف في اختراق البنيات السياسية والإعلامية وتقويض تماسك النسيج السياسي والاجتماعي للدول المستهدفَة.
اُنتقدت الدبلوماسية الرّقمية في أنها غير مستثناة من أشكال النشاط الحراكي المتراخي (Slacktivism) أو النشاط الحراكي بواسطة النقرة (Clicktivism)؛ ويُعرف على أنه انخراطٌ ضحْل وبليد في القضايا التي قد تقدّم لمستخدمي الأنترنت وَهْم ‘الشعور الطيب’ بسبب القيام بشيء مفيد أو فرص إشهار فضائلهم لأقرانهم، لكنه انخراطٌ لا يُترجم بالضرورة إلى فعالية سياسية أو يُحدث تغييرا اجتماعيا دائما، وحتى في أوروبا وُصفت الفجوة بين النشاط الحراكي عبر الأنترنت والانخراط في العالم الحقيقي غير الافتراضي بأنها تناقضٌ داخل الديمقراطية الأوروبية؛ وبالمثل، من السهل نسبيا أن تُنتج الولايات المتحدة رسالة فيديو يتم عرضها للإيرانيين، لكن التغيير الحقيقي على أرض الواقع في إيران سوف يتطلب على الأرجح أنشطة أكثر تكلفة، ومن الأمثلة المتداخلة عن ذلك أنْ نَشَرَ موظفو السفارة الأمريكية بالقاهرة في سبتمبر 2012 تغريدة تدين تصرفات أولئك الذين يسيئون استخدام الحق العالمي لحرية التعبير في إيذاء المعتقدات الدينية للآخرين، وهذا شجبا منهم لفيلم مسيء للرسول محمد، ولكن حدث وأنّ تغريدة واحدة تسببت في أمواج عاتية، فسرعان ما وصف الجمهوريون تصرفات السفارة على أنها مثال لاسترضاء إدارة أوباما لأعداء الولايات المتحدة، ليحذف بعد ذلك البيت الأبيض التغريدة، قائلا أنه لم تتم الموافقة عليها من واشنطن ولا تعكس وجهة نظر الحكومة الأمريكية.
أظهر تقرير المستشار الأمريكي روبرت ميولر ،بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، بأن هذا الأمر مكّن روسيا من تحويل وسائل التواصل الاجتماعي إلى أسلحة؛ حيث يشير البعض إلى تعرّض أكثر من 150 مليون أمريكي للتضليل من طرف الروس قبل موعد الانتخابات، وهو رقم أكبر ثماني أضعاف من الذين يشاهدون البث الإخباري المسائي لمحطات ABC وCBSو NBC و FOX(31)؛ وحتى أن تغريدات ترامب المنتظمة لم تنل استحسان جوزيف ناي الذي يرى بأنها غير قادرة على إنتاج قوة ناعمة لأنها ليست جذابة للآخرين؛ بل أن دانيال هيلينغر يعتقد بأن دبلوماسية تويتر الخاصة بـ ترامب أعادت أنماط جنون العظمة والارتياب، الشعبوية والفكر المؤامراتي إلى السياسة الخارجية الأمريكية.
في خضمّ حديثه عن السياسة الخارجية في الحقبة الرقمية، يسجّل هنري كيسنجر أن الأحداث التي كان تَبلْوُرُ نتائجها يستغرق شهورا، ستتكشّف بكل أبعادها عالميا في غضون ثوانٍ قليلة، وتحت إغراءات التجاوب مع مطالب الحشد المعكوس رقميا سينعكس ذلك حتما على رسم مسارٍ معقد ومتناغم مع أهداف طويلة المدى؛ لقد دأب الفلاسفة على تقسيم دائرة نفوذ العقل إلى ثلاث قطاعات: المعلومات، المعرفة والحكمة؛ تتركّز الشبكة العنكبوتية على المعلومات التي تيسّر انتشارها أُسّيًا؛ محرّكات البحث مؤهلة للتعامل مع أسئلة بالغة التعقيد بسرعة متصاعدة ووتائر متزايدة، ومع ذلك، فإن أي تُخمةٍ في المعلومات قد تعيق ، ويا للمفارقة، حيازة الإنسان للمعرفة وتبعده أكثر عن الحكمة؛ تلك هي ‘مفارقة الوفرة’:وفرة المعلومات تؤدي إلى ندرة الانتباه.
الخاتمة
سلّطت هذه الورقة البحثية الضوء على الجوانب المضيئة للدبلوماسية الرقمية، فهي تعِدُ بالحدّ من السرية وتعزيز الشرعية عبر التواصل المكثف، ولجم المفاسد وتخفيف حدّة التناقضات السياسية والاجتماعية؛ كما أنها تبدو حريصة على تطوير قيم إنسانية واستيعابية؛ بالمقابل من ذلك، أثارت الورقة البحثية أيضا تحدّيات تواجهها الدبلوماسية الرقمية تتعلّق بسوء التوظيف لأغراض الدّعاية والعنف الرّمزي وصعوبة بناء صروح الثّقة في عالم وسائط التواصل الاجتماعي.
في جعبة الدبلوماسية الرّقمية الكثير من الأجوبة، لكنّ الأسئلة المثارة حولها تبدو أكثر؛ وبات من الواجب على الدول والمنظمات أن تضع تطوير الدبلوماسية الرقمية على جدول أعمالها.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر