سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
لا يصغي المستثمرون. حتى وسط التقلبات الشديدة في الأسواق عام 2022، بعد أن أشار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى أنه سيتخذ نهجاً أكثر تشدداً لمكافحة التضخم، استمرت أسواق المال في إنكار الواقع الاقتصادي. ففي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، تفحص المستثمرون بتفاؤل التصريحات العلنية لرئيس المجلس جيروم باول بحثاً عن علامات على أن الاقتصاد قد تحمل ما يكفي من التحديات خلال مسيرة إعادة معدل التضخم إلى هدف المجلس البالغ اثنين في المئة. ومراراً وتكراراً، خاب أملهم.
في 13 ديسمبر (كانون الأول) 2022، استقبلت الأسواق تقارير عن انحسار التضخم بنشوة، لكن في اليوم التالي، وسط تداول متقلب وتراجع لأسعار الأسهم، أكد الاحتياطي الفيدرالي التزامه تشديد السياسة النقدية الأميركية وأعلن تصويت أعضائه بالإجماع على رفع معدلات الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية. وكانت هذه الزيادة أقل حزماً من الزيادات السابقة، لكن الأسواق قابلت بخيبة أمل واضحة تصريح باول بأن معدلات أعلى للفائدة ستكون ضرورية لبعض الوقت، وأن من المحتمل إقرار زيادات إضافية.
لم يكن هناك شيء مفاجئ في بيان باول. على ما يبدو فإن ما لا يفهمه المتداولون في “وول ستريت” حول حملة مجلس الاحتياطي الفيدرالي للتغلب على التضخم يمكن استخلاصه من كميات البيانات الضخمة التي تصدرها الأسواق نفسها، ولا سيما البورصات في الاقتصادات الناشئة والنامية. وكان لزاماً على هذه الأسواق أن تتعامل مع الجهود السابقة الرامية إلى إلحاق هزيمة بالتضخم. ويشير أداؤها على مدى قسم كبير من النصف الثاني من القرن العشرين إلى ما يبدو أن المستثمرين لا يرغبون في سماعه: مزيد من التحديات تلوح في الأفق.
بالعودة إلى السبعينيات
عند استخلاص أوجه تشابه تاريخية مع المعركة الحالية ضد التضخم، ينظر المحللون في أغلب الأحيان إلى الإجراءات التي اتخذها رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق بول فولكر رداً على معدل التضخم المرتفع في سبعينيات القرن العشرين وأوائل ثمانينياته. لخفض معدل التضخم، دفع فولكر البلاد مرتين إلى الركود بين عامي 1979 و1982، مما رفع معدل البطالة إلى أكثر من 10 في المئة قبل أن ينجح أخيراً في خفض معدل التضخم إلى مستويات الآحاد الدنيا التي تمتعت بها الولايات المتحدة على مدى الـ40 سنة تقريباً اللاحقة. ويفضل المستثمرون ومراقبو الأسواق اليوم استبعاد هذا التوازي المخيب للآمال، على أمل أن تكون الأمور مختلفة هذه المرة.
لكن كفاح فولكر المؤلم والطويل في مواجهة معدلات تضخم ذات عددين لم يكن بالأمر غير المعتاد. كان في الواقع، هو القاعدة، وجزء من ظاهرة أوسع ومتكررة، إذ كافحت البلدان في أنحاء العالم النامي كله لتقليص التضخم وسن إصلاحات اقتصادية أخرى لمعالجة ما يسمى أزمة ديون العالم الثالث. شهدت هذه الأزمة التي بدأت عام 1982، إعلان المكسيك وأكثر من 15 بلداً آخر أنها لم تعد قادرة على تحمل خدمة ديونها. ولترويض التضخم وإعادة اقتصاداتها إلى المسار الصحيح، اضطرت إلى رفع معدلات الفائدة، وخفض عجزها المالي العام، وتنفيذ بعض الإصلاحات التي اقترحها وزير الخزانة الأميركي آنذاك جيمس بيكر في اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عام 1985.
من المغري استبعاد اقتصادات البلدان النامية باعتبارها شديدة التباين مع اقتصاد الولايات المتحدة المتقدم المستند إلى الدولار عند تقديم مقارنة مفيدة. واجهت الأرجنتين، مثلاً، نوبات متكررة من معدلات التضخم ذي ثلاث خانات بين السبعينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وتواجه مرة أخرى معدلاً مرتفعاً للتضخم، 94.8 في المئة عام 2022، لكن معظم البلدان النامية ليست الأرجنتين. في الواقع، جرت محاولات للحد من التضخم المعتدل ذي الخانتين من الأرقام، 56 محاولة موزعة على 16 بلداً نامياً بين عامي 1973 و1994، فاقت عدداً محاولات الحد من التضخم المرتفع [ذي الخانات الثلاثة]. وكان متوسط مستوى التضخم السنوي خلال تلك المراحل، البالغ 15 في المئة، مشابهاً لذروة التضخم في المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عام 2022.
كما قال بول سامويلسون مازحاً ذات مرة، “توقعت أسواق المال تسعة من حالات الركود الخمس الأخيرة”
ترتبط نوبات التضخم الحالية في هذه الاقتصادات الثلاثة، والنوبات السابقة من التضخم في الأسواق الناشئة، بجذور متوازية: عجز مالي عام ضخم مدفوع بالإنفاق. وتشمل أوجه التشابه الأخرى سياقاً من الحروب الخارجية، وارتفاع أسعار النفط، وغير ذلك من الصدمات. علاوة على ذلك، ولأن البلدان النامية المعنية كانت لديها أسواقاً للأسهم المدرجة، وهو تشابه آخر مع الاقتصادات المتقدمة اليوم، يتضمن الأداء التاريخي لبورصاتها تلميحات مفيدة حول ما قد يحمله المستقبل للولايات المتحدة. وتفيد المحاولات الـ56 للحد من التضخم المعتدل في البلدان النامية بين عامي 1973 و1994 بمعلومات إضافية عن اللحظة الاقتصادية الحالية أكثر من مرحلة فولكر المنفردة لخفض معدل التضخم.
تجلب سياسات خفض معدل التضخم تحديات قريبة الأجل تتلخص في ارتفاع لمعدلات الفائدة وانخفاض الأجور الحقيقية، والتي يجب أن تتحملهما الاقتصادات لجني المكاسب البعيدة الأجل التي تأتي من معدلات التضخم المتدنية. وعلى عكس المؤشرات اللاحقة كتلك الخاصة بالنمو والبطالة، وكلاهما قد يعاني بشكل كبير في الأجل القريب نتيجة لسياسات الحد من التضخم، لكن لا يمكن قياسهما إلا بعد وقوع الأمر، تعد البورصة استشرافية، مؤشراً رئيساً إلى المستقبل. وإذا كانت المنافع المتوقعة في الأجل البعيد من معدل التضخم المنخفض للشركات المدرجة تفوق الكلفة القريبة الأجل المترتبة على سياسات خفض معدل التضخم، يتعين على المستثمرين أن يدفعوا قيمة مؤشر أسعار الأسهم الإجمالي في أي بلد صعوداً عندما يعلن المسؤولون الحكوميون عن بدء برنامج جدير بالثقة لخفض معدل التضخم.
لكن هذا ليس ما حدث في البلدان النامية. على رغم أن المنافع التي تعود على الشركات من معدل التضخم المنخفض كبيرة، مما يوفر بيئة تخطيط أكثر استقراراً مع ما يصاحب ذلك من مكاسب في الإنتاجية وأرباح أكثر قابلية للتوقع، لم تستجب أسواق الأسهم في البلدان النامية في شكل إيجابي للإعلانات عن برامج خفض معدلات التضخم، بل على العكس من ذلك، تمثل رد فعلها في متوسط عائد تراكمي للبرامج الـ56 سجل سالب 24 في المئة، ما يشير إلى أن مزيداً من التحديات الاقتصادية كانت ضرورية لخفض معدل التضخم المكون من رقمين إلى رقم واحد.
بالنظر إلى التقلبات الأخيرة في الأسواق المالية الأميركية، قد لا تبدو التغيرات في أسعار الأسهم المؤشر الأكثر موثوقية لحال الاقتصاد الأوسع، كما قال الخبير الاقتصادي في معهد “ماساتشوستس” للتكنولوجيا بول سامويلسون مازحاً “توقعت أسواق المال تسعاً من حالات الركود الخمس الأخيرة”، لكن حتى روبرت شيلر، الذي فاز بجائزة “نوبل” لتشكيكه في المحتوى المعلوماتي لأسعار الأسهم، زعم أن “جزءاً كبيراً من التقلبات في الأسواق المالية ربما يكون مبرراً بالأخبار حول الأرباح السهمية أو الأرباح المؤسسية في المستقبل”. من المؤكد أن الإعلان عن برنامج موثوق لخفض معدل التضخم سيحتوي على أخبار كهذه ويؤدي إلى رد فعل في السوق.
عناء ضروري
إذا كانت المنفعة المتوقعة للشركات من الحد من التضخم المعتدل لا تفوق في واقع الأمر كلفة القيام بذلك، كما يوحي الأداء التاريخي لمؤشرات الأسهم في الأسواق الناشئة، فلماذا إذا نحاول ذلك؟ هناك إجابتان عن ذلك السؤال.
أولاً، يكون البديل أسوأ. تظهر البيانات الواردة من الاقتصادات الناشئة أن التضخم المعتدل لا يظل معتدلاً عادة، بل يميل إلى الارتفاع، ويصبح مدمراً في شكل متزايد للنشاط الاقتصادي الإنتاجي ويؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للناس العاديين.
السبب الثاني هو أن البورصة، على رغم أهميتها، ليست الاقتصاد. يظهر تاريخ التراجعات في أسعار الأسهم، الناجمة عن خفض معدلات التضخم، في الأسواق الناشئة أن السوق تضطر في بعض الأحيان إلى دفع كلفة نقل المجتمع إلى مكان أفضل، ما من وسيلة منخفضة الكلفة للانتقال من التضخم المعتدل، حيث بدأت الولايات المتحدة في يوليو (تموز) 2022، إلى التضخم المنخفض. تتجاهل الأسواق الأميركية حقيقة بسيطة: ما من طريقة غير مؤلمة لاستعادة استقرار الأسعار. كان فولكر يعرف ذلك. ويعرف باول ذلك أيضاً. وهو رد بحزم على اقتراح رفع الاحتياطي الفيدرالي هدفه للتضخم فوق اثنين في المئة. قال في ديسمبر “لن نفكر في ذلك في أي حال من الأحوال. ستتطلب الثقة في أن معدل التضخم يسير في مسار هبوطي مستدام مزيداً من الأدلة”.
الوصول بالتضخم إلى مستويات منخفضة ومستقرة يمكن التنبؤ بها أمر ضروري للغاية للبلدان لتحقيق نمو مستدام على المدى الطويل
قد تستغرق الرحلة من التضخم المعتدل إلى المنخفض سنوات، كما تظهر تجربة تشيلي. بعد عقد من التقدم الضئيل نحو تحقيق استقرار الأسعار، أعلن المصرف المركزي في البلاد في سبتمبر (أيلول) 1990، في ظل معدل سنوي للتضخم تجاوز 20 في المئة، أنه سيتبنى هدفاً رسمياً للمعدل سنوي للتضخم ويشدد السياسة النقدية بحسب الضرورة لتحقيق ذلك. كان الهدف الأول، المحدد للفترة من ديسمبر 1990 إلى ديسمبر 1991، يتراوح بين 15 و20 في المئة، مع خفض المصرف المركزي الهدف السنوي بمقدار 1.5 نقطة مئوية كل عام من عام 1991 إلى عام 2001. ومن خلال التعبير علناً عن هدف صريح ووضع صدقيته على المحك، تمكن المصرف المركزي التشيلي من خفض معدل التضخم إلى 8.2 في المئة بحلول عام 1995 وإبقائه في خانة الآحاد حتى عام 2021.
في العالم النامي الأوسع، على رغم الانخفاض في تقييمات البورصات في أعقاب الإعلان عن برامج خفض معدلات التضخم، شهدت البلدان التي تحلت بالانضباط للبقاء على المسار تحسناً كبيراً في أدائها الاقتصادي في الأجل البعيد. وفي السنوات الـ10 التي أعقبت الانتقال الناجح لهذه البلدان من التضخم المعتدل إلى المنخفض، كان متوسط معدل نموها السنوي أعلى بنسبة 1.5 في المئة تقريباً مما كان عليه في فترة السنوات الـ10 السابقة.
وشهدت البلدان التي استفادت من بيئتها الجديدة ذات التضخم المنخفض لتنفيذ إصلاحات إضافية تحولاً اقتصادياً أسرع. مثلاً، شهدت البلدان التي فتحت اقتصاداتها أمام التجارة الحرة (وكثير منها يقع في أفريقيا) تسارع متوسط معدل نموها السنوي لمدة 10 سنوات من 1.72 في المئة إلى 4.38 في المئة، وهي زيادة كبيرة إلى درجة أنها تخفض بأكثر من النصف الوقت الذي تستغرقه مضاعفة مستوى معيشة المواطن العادي.
من الصعب تفنيد هذا النوع من النمو، النمو الذي عزز الاقتصاد العالمي في أعقاب الأزمة المالية العالمية للفترة 2007-2008. وعلى رغم تحديات الركود والبطالة في الأجل القريب، يشكل خفض معدل التضخم إلى مستويات متدنية ومستقرة ويمكن توقعها ضرورة مطلقة للبلدان لتحقيق نمو مستدام في الأجل البعيد. ولا توجد أمثلة مضادة.
الاستمرار
تتحرك أرقام التضخم في الولايات المتحدة في الاتجاه الصحيح، لكنها لا تزال أعلى من هدف اثنين في المئة الذي يجب على مجلس الاحتياطي الفيدرالي تحقيقه لاستعادة استقرار الأسعار والحفاظ على صدقيته. وعلى رغم أن مزيداً من الزيادات في معدلات الفائدة قد تعني انخفاضات إضافية في مؤشرات الأسواق الأميركية، سيحسن مسؤولو مجلس الاحتياطي الفيدرالي صنعاً إذا تذكروا دروس الماضي عندما يجتمعون في فبراير (شباط). وبمجرد أن يصل مجلس الاحتياطي الفيدرالي أخيراً إلى هدفه، يجب على المشرعين الأميركيين بعد ذلك تنفيذ السياسات الاقتصادية المطلوبة لتعزيز الإنتاجية والاستفادة القصوى من استقرار الأسعار المتجدد.
المصدر: اندبندنت مترجم من “فورين أفيرز”
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر