سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ألفة سلامي
بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحرب على أوكرانيا بثلاثة أهداف استراتيجية رئيسية؛ أرسل جيشًا جنوبا من بيلاروسيا للاستيلاء على العاصمة الأوكرانية كييف، تمهيدا لإسقاط الحكومة ثم استبدالها. أرسل قوات إلى شمال شرق أوكرانيا للاستيلاء على ثاني أكبر مدنها، خاركيف، التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليون نسمة. ثم قام بتوسيع جيب دونيتسك غربًا لإنشاء جسر بري إلى شبه جزيرة القرم وإعطاء روسيا السيطرة الكاملة على بحر آزوف ومعظم الساحل الأوكراني على طول البحر الأسود. وقد تم تحقيق هذا الهدف الأخير. ومع ذلك، وبعد نحو أسبوع من بداية الحرب، لم تسقط كييف ولا خاركيف، على الرغم من أن روسيا حشدت معظم القوات التي جمعتها من أجل حربها.
ويبدو أن بوتين لم يحقق العائد من أهدافه الثلاثة حتى الآن، ويحتاج إلى إنهاء هذه الحرب على وجه السرعة لتقليص تكلفتها المتزايدة، كما يقول الخبراء العسكريون، لأن الوقت لا يبدو في صالح روسيا. والسيناريو الأبشع الذي تنجرف نحوه التطورات تتصدره التهديدات الروسية متمثلة في استخدام السلاح النووي. ويكتم العالم أنفاسه، حيث لا يدري متى يخرج هذا المارد من القمقم، بعدما تعوّدُوا من بوتين أنه يهدّدُ وينفّذُ. وقد حَّذر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأنَّ الحرب العالمية الثالثة لن تكون تقليدية، لكنها سوف تكون حرباً “نووية ومدمرة”. نعم أتون الحرب تدق طبولها وتقتل أوكرانيين وروسا، لكنها تشملنا -العالم بأسره- عندما تدخل الأسلحة النووية في مضمار هذا الصراع!
“طوربيد يوم القيامة”:
موسكو تحشد 1500 رأسا نوويا معدا للإطلاق باستخدام 500 صاروخ باليستي عابر للقارات والغواصات والقاذفات الاستراتيجية، بينما يصل عدد القنابل النووية الاستراتيجية والتكتيكية المخزنة إلى 2700 قنبلة، بحسب موقع جلوبال فاير باور. وبحسب وثائق تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، يمتلك الأسطول الروسي سلاحا نوويا هو الأخطر في العالم، يعرف باسم “طوربيد يوم القيامة” وتم الكشف عنه في عام 2015، وينطلق تحت الماء على عمق يزيد على ألف متر، كما يعبر تضاريس قاع البحر ويستحيل على أي غواصات أو مضادات للطوربيدات أن تصل إليه. وهذا المارد النووي قادر على تدمير “العدو” بشكل كامل والقضاء على مظاهر الحياة تماما لأجيال!
“تشرشل” هذا الزمان:
على الدفة الأخرى للحرب، يقف العالم الغربي ممسكا بزمام الأمور، ومسوّقا بإجادة لإدانة بوتين وعزل روسيا عالميًا التي أضحت هدفًا للعقوبات من قبل الدول الغربية بأكملها تقريبًا ولا تتحدث ماكينة الدعاية الغربية عن طلب روسي عمره أكثر من ثماني سنوات بإخلاء مناطق جوارها من القواعد الأمريكية والأسلحة النووية. يتم تصوير بوتين على أنه معتدٍ، وحتى مجرم حرب يقوم بمعاملة جارته الأصغر بوحشية، والتي اتخذت في مقاومته مظهرالأمة البطلة الشجاعة. أما الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، فإن تحديه لمطالب روسيا بالاستسلام يتم تصويره على أنه “تشرشل”هذا الزمان.
ليس هذا بمستغرب على المعسكر الغربي الذي سبق أن أجاد التسويق لنفسه كمنقذ للشعب العراقي والعالم من أسلحة صدام النووية الذي لم يثبت يوما أنه امتلكها، مثله في ذلك مثل باقي القادة الذين أصبحوا في خبر كان، بعد أن أجادت القوى الغربية حصارهم وعزلهم فحطّمتهم شر تحطيم ودمرت مواردهم وشردت شعوبهم. ولا يبدو أن ذلك عبرة كافية لمن يعتبر، فقصص التاريخ وعبره سرعان ما تُنسى أو تُمحى، كما تتلاشى الأسباب الحقيقية وراء الحرب، حتى لو كانت دفاعا عن حق مشروع ولا يتذكر العالم حينئذ إلا المنتصر عندما يطرح السؤال على نفسه “مع من يقف”!
يندفع العالم الآن نحو أوكرانيا بكل قوة. في مجلس الأمن، حكومة العالم المصغرة التابعة للأمم المتحدة، صوتت روسيا فقط باستخدام حق النقض ضد قرار يدينها بسبب العدوان. وامتنعت الهند والصين والإمارات العربية المتحدة عن التصويت. وتزايدت الدعوات لاستبعاد موسكو من عضوية الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهو ما يُعتبر خطوة متقدمة على طريق التصعيد الذي أقدمت عليه واشنطن بالفعل بطردها 12 دبلوماسيا روسيا، أعضاء في بعثة بلادهم لدى الأمم المتحدة، متهمة إياهم بأنهم “عملاء استخبارات”.
كلمة السر ..”قوى الشر”:
يبدو البرلمان الأوروبي متحدا كما لم يكن من قبل، ويعلن على لسان رئيسته، روبرتا ميتسولا، في بداية جلسة مخصصة لبحث الحرب في أوكرانيا، أن أوروبا تواجه “تهديدا وجوديا جراء حرب روسيا في أوكرانيا”. وتزيد في إظهار التحدي والاستفزاز لروسيا معلنة عن ترحيب البرلمان بطلب أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي “سيعمل بجدية على تحقيق هذا الطلب”. علاوة على ذلك، تأخذ المساعدة العسكرية المدجنة بأحدث الأسلحة طريقها نحو أوكرانيا، مرورا ببولندا أولا والبقية تأتي. وعد الأوروبيون والأمريكيون أوكرانيا بمدها بالمزيد من صواريخ جافلين لتدمير الدبابات والمدرعات الروسية، وصواريخ ستينجر المضادة للطائرات، من ذلك النوع الذي ألحق خسائر فادحة بالمروحيات الروسية من قبل، إبان الحرب الأفغانية في الثمانينيات.
يتحد الناتو حول كلمة السر، وهي “قوى الشر”كالعادة التي ظهرت مجددا من قاموسه مطلقةً صافرات الإنذار التي تسبق الإنزال والتوغل. صوتت ألمانيا لرفع ميزانيتها الدفاعية وإرسال أسلحتها المضادة للدبابات وستينجر المضادة للطائرات إلى أوكرانيا. وهذا أمر مستجد حول عودة ألمانيا لأول مرة لساحة الحرب والوغى وسباق التسلّح منذ الحرب العالمية الثانية. يجري ذلك بينما تطيح العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا بالروبل، ويتسبب استخدام آلية “سويفت” في انهيار بنوك روسية حيوية لها علاقة مباشرة وعضوية بتمويل القطاعات الصناعية والاستثمارية والعسكرية الاستراتيجية في روسيا، مما يقيد بشدة قدرة موسكو على إدارة ديونها. كما تم تجميد نحو 40 % من الاحتياطي النقدي الروسي باليورو والدولار في الخارج، كان يستثمر على شكل سندات بمئات المليارات، وهي ضربة موجعة لروسيا، رغم سحبها جزءا من الاحتياطي النقدي في وقت مبكر بعد أزمة شبه جزيرة القرم مع الغرب عام 2014،وأودعته الأسواق الصينية والآسيوية.
استنزاف الروس قبل المفاوضات:
ترجح تقديرات المراقبين العسكريين أن وحدات الجيش الروسي في أوكرانيا كافية لاحتلال خاركيف وكييف، لكنهم يقولون إن هذا الجيش غيركافٍ للسيطرة على بلد يبلغ عدد سكانه 44 مليون نسمة. وسيتعين على الروس العثور على آلاف المتعاونين من داخل وخارج أوكرانيا للمساعدة في إخضاع البلاد، والمقاتلون الشيشان كانوا في الموعد قبل غيرهم. ويشير العسكريون المخضرمون إلى أن إطالة أمد هذه الحرب قبل خوض مفاوضات جدية ليست إلا لعبة غربية لاستنزاف الجيش الروسي إلى مستويات موجعة، ربما تشبه ما حدث في نهاية المطاف بأفغانستان خلال الثمانينيات من القرن الماضي. وبحسابات موازين القوى، يؤكدون أنه إذا لم تنته هذه الحرب قريبًا، فمن المرجح أن يخسرها بوتين ويفشل في تحقيق هدفه المتمثل في إخراج أوكرانيا من المعسكر الغربي، والعودة بها إلى فلك روسيا الأم.
السلاح النووي وخيار “شمشون”:
ربما لا يتمكن بوتين سياسيًا من النجاة من مثل هذه الهزيمة المحتملة بعد فشله في فرض حزام آمن خال من القواعد الأمريكية وشلِّ يد الناتو الطولى ومطامعه في دول الجوار الروسي. من الوارد ألا يقبل بوتين الهزيمة ويذهب بهدوء. لكن لا إشارة لذلك حتى الآن من قبل بوتين الذي أمر القوات النووية برفع حالة التأهب القصوى لأن “كبار المسئولين في دول الناتو أدلوا بتصريحات عدوانية ضد روسيا”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يطرح فيها بوتين فكرة استخدام سلاح نووي. في 19 فبراير الماضي، أي قبل أيام من بدء الحرب على أوكرانيا، أمر بوتين بإجراء تدريبات على الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز ذات القدرات النووية والقاذفات والسفن الحربية. فهل يمارس بوتين ما يسمى “خيار شمشون” – أي هدم أعمدة المعبد وأخذ أعدائه معه وكأنه في مهمة انتحارية بلا رجعة؟!
إذا كانت الهزيمة العسكرية لروسيا تلوح في الأفق لو أصر المعسكر الغربي على التدخل لتغيير ميزان القوى لصالح أوكرانيا وما يتبع ذلك من تجريد بوتين من السلطة والموت السياسي، فقد يستخدم الأخير السلاح النووي في ترسانة روسيا لمنع ذلك. لكن، كيف ستكون سياسة الولايات المتحدة لتجنب هذه الكارثة النووية؟
لا يبدو هناك بديل الآن سوى تجنب اتساع نطاق الحرب بمنع أي تصعيد بالأسلحة النووية. وهذا الهدف لن يتحقق إلا بالجلوس على طاولة المفاوضات في جولات متتالية، إحدى نتائجها المتوقعة هي التأكد من توافر الضمانات لدى المعسكر الغربي حول تأمين استقلال أوكرانيا وخروج القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. وإذا كان هذا يتطلب أن تتخلى أوكرانيا عن طموحها لتصبح دولة في الناتو، فإن هدف بوتين المعلن في شن الحرب يكون بذلك قد تحقق. حينئذ، كان من الممكن تجنب هذه الحرب، لو فعلت أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون ذلك قبل أن تبدأ!
لكن ليست هذه هي النتيجة التي يبدو أن المعسكر الغربي يتجه إليها. ففي خضم ما يحدث الآن في أوكرانيا، تعلن دول غربية أنه يجب دعوة فنلندا والسويد أيضا للانضمام إلى الناتو. إذا حدث ذلك، فستكون الولايات المتحدة مُلزمة بالمساعدة في الدفاع عن الحدود الفنلندية مع روسيا التي يبلغ طولها 830 ميلًا. وسيكون هذا عملاً من أعمال “الغطرسة” من النوع الذي أدى إلى حروب كبرى حطمت أقطارًا وشعوباً وعمّقت تقسيم العالم إلى الأبد.
أصبح واضحًا أن هذه الأزمة التي تتصاعد شراراتها لا تتعلق فقط بالسياسة والجغرافيا. يتعلق الأمر أيضا بالاقتصاد والمال والمصالح المتصادمة. ولكن مثل معظم الأطماع، فإن الاقتصاد هو مشروع عابر. هذا معسكر يكسب بعض المال اليوم على حساب معسكر ثان، ويفقده البعض الآخر غدا لمصلحة الثاني. لكن التكاليف البشرية لحرب “الأطماع” ستكون كارثية وغير محدودة. لا يمكن تخيل حجم إراقة الدماء والبؤس الذي ستظهره هذه الحرب إذا استمرت وانفلت المارد النووي من القمقم. الشعوب هم الضحايا الذين –بالمناسبة- ليس لهم دور يلعبونه في هذا الصراع!
المصدر: مجلة السياسة الدولية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر