سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أحمد نظيف
حقائق جديدة، بعضها صادم، وبعضها خطير، تلك التي كشفتها هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي في آخر مؤتمر عقدته منذ يومين، ضمن جولة جديدة من رفع الغطاء عن ملف الجهاز السري الخاص لـ”حركة النهضة” بين عامي 2011 و2013، في ما عُرف بقضية الغرفة السوداء.
لكن اللافت في ما كشفه محامو هيئة الدفاع هو العثور على وثائق سرية تفيد بوجود تواصل بين “إخوان” كل من تونس ومصر والدورات التدريبية التي عقدها قياديون من الجماعة الأم في القاهرة لمصلحة نظرائهم في الجهاز السري الخاص في تونس، وكذلك الجنسيات التونسية التي منحتها حركة “النهضة” لعدد من الشباب التابع لحركة “حماس”، وأدخلتهم البلاد بطريقة سرية من أجل تدريب عناصر محلية على القتال وصناعة الأسلحة الخفيفة والتنصت على الخصوم السياسيين.
ولا يبدو تورط “إخوان” الخارج في ما حدث داخل تونس غريباً، فالجماعة التي تعمل في نطاق دولي لا تقف أمام نشاطها الحدود والبلدان، لكن ذلك يثبت أن الحركة الإسلامية التونسية ما زالت وفية لجذورها “الإخوانية”، برنامجاً وسلوكاً وعقيدة، عكس ما تدّعيه دائماً، ولعل وجود جهاز خاص أو تنظيم خاص يؤكد هذا البعد “الإخواني” داخل “النهضة”.
أن تكون على رأس تنظيم “إخواني” ولا تفكر في إنشاء جهاز خاص، أسوة بالجماعة الأم، فهذه نقيصة تقلل من “إخوانيتك”. فالإسلام كدين سياسي، وفقاً للمنظور “الإخواني”، منذ حسن البنا، يحمل في داخله ضرورة الشمولية، أي حضوره الضروري والحتمي في كل مناحي الحياة، بما فيها السياسة ومن ضمنها الدولة. كل الدولة، حتى أجهزة القوة، جيشاً وأمناً.
الفرع التونسي لن يكون شاذاً عن القاعدة. فالحركة الإسلامية في تونس لم تكن لتقف أمام باب الثكنة أو مركز الأمن. فصالح كركر أحد القيادات التاريخية لـ”الإخوان” في تونس يؤكد بما لا يدع مجالاً للتأويل أنه “لا يوجد قطاع من المجتمع لا تشمله الحركة الإسلامية، سواء كانوا أساتذة أو فلاحين، أو رجال شرطة أو عسكريين”.
لكن الحركة – ذلك الجهاز الضخم عددياً وهيكلياً – تشمل قطاعات وفئات واسعة في المجتمع والتي تضع في اهتماماتها مشاغل كثيرة، دعوية وسياسية وثقافية واجتماعية، لا يمكن لها الاستمرار من دون صرامة تنظيمية تقودها نواة صلبة أي نوع من الطليعية الإسلامية الجادة والحازمة والمُطاعة تشكل ما يسمى تنظيماً يكون نشاطه سرياً بعيداً من العامة ومن السلطة يتكوّن من الخاصة. ويكون أيضاً بعيداً من جمهور أعضاء الحركة، الذين لم يكن أغلبهم واعياً بوجود جهاز خاص أو تنظيم أمني وعسكري للحركة.
وهذه الخاصّة التنظيمية للجماعات الإسلامية يتردد صداها بوضوح عند مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين” المصرية، حسن البنا، وعند قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، الإمام الخميني، الذي يشير بوضوح إلى ذلك في كتابه “دروس في الجهاد والرفض”: “يجب على الأشخاص المهمين الذين بيدهم المبادرة والذين تعهدوا العمل وتحملوا المسؤوليات أن يتجنبوا الكشف عن أنفسهم والاقتراب من دائرة الضوء. عليهم أن يعتبروا من الحوادث والتجارب السابقة ويبادروا إلى العمل في ظل الإسلام وأطر موازينه بدقة، ويحذروا من الأشخاص الذين هم ليسوا في هذه الأطر مئة في المئة”. وقد استشهد راشد الغنوشي، أمير حركة الاتجاه الإسلامي بهذه الفقرة من كتاب الخميني متحدثاً عما يجب أن تكون عليه الحركة الإسلامية من خصال وخصائص تؤهلها للقيام بالتغيير والتمكين وإقامة الدولة الإسلامية، في مقالة نشرها في مجلة “المعرفة” لسان الحركة، تحت عنوان “قادة الحركة الإسلامية المعاصرة: البنا- المودودي –الخميني” في عام 1979. وهذا شكل شديد الشبه بالتنظيمات السرية اليسارية الثورية.
ويقول الشيخ “الإخواني”، يوسف القرضاوي في مذكراته، والتي نشرها مفرّقة على موقعه الرسمي على الإنترنت، في فصل تحت عنوان “أنا والجهاز السري للإخوان المسلمين” مفصلاً دواعي تأسيس، الشيخ حسن البنا، للجهاز الخاص: “في سنة 1940 أنشأ الأستاذ البنا جهازاً داخل الجماعة، سماه “النظام الخاص” يضم إليه من أفراد الجماعة الإخوة الذين عُرفوا بإخلاصهم للدعوة، وثباتهم عليها، والتزامهم تعاليمها وتوجيهاتها، كما يتميزون باللياقة البدنية، والقدرة على الاحتمال، والصبر على المكاره، وكتمان الأسرار، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، والاستعداد للتضحية والبذل، ولو بالنفس والنفيس. وكلف الأستاذ البنا خمسة من الإخوان بالإشراف على هذا النظام واختيار جنوده، وتدريبهم على متطلبات الجهاد، وإعدادهم لليوم الموعود. وكانت وراء تكوين هذا النظام عدة أهداف يسعى إلى تحقيقها… منها حماية الدعوة من أعدائها الذين قد يحاولون اقتلاع جذورها، وإيقاف مسيرتها، وتعويق حركتها، بقانون القوة، أو بقوة القانون، من طريق الأحكام العرفية أو الطوارئ العسكرية. وقد يتم ذلك من طريق المحتلين الأجانب مباشرة، وقد يكون من طريق عملائهم من الحكام الذين يأتمرون بأمرهم، ويدورون في فلكهم، وينفذون لهم مطالبهم. وهنا يجب أن تدافع الدعوة عن نفسها ووجودها، إذا اعتدي عليها، وعلى حرماتها، وحرمت من حقها في إبلاغ كلمة الإسلام إلى الناس، وجمعهم عليه، وتربيتهم على منهجه. وقد قال تعالى: “وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ” (الشورى:39).
وغرس روح الجهاد في الشباب المسلم، هذا الجهاد الذي طمست معالمه، وخنقت أنفاسه في مجتمعات المسلمين، وحلّت محله روح الميوعة والطراوة، والإخلاد إلى الراحة والدعة ونعومة العيش. والأمم التي ديست حقوقها، وانتهكت حرماتها، واحتلت أرضها، يجب عليها أن تعد أبناءها للجهاد لتحرير أرضها، واستعادة حقها، وطرد غاصبيها، لا سيما الأمة الإسلامية التي أمرها الله بالجهاد في سبيله، واشترى من أبنائها أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
ولقد جعلت دعوة “الإخوان” من شعاراتها منذ ارتفعت رايتها: الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا. فلا بد أن يكون لهذا الشعار مدلول عملي في تكوين أبنائها. وكان النظام الخاص هو الذي يوفر ذلك بقوة وجلاء، ويدرب الشباب على الأعمال الجهادية والعسكرية اللازمة لكل من يهيئ نفسه للدخول في معركة مع أعداء الأمة. والسعي إلى تغيير الحكم العلماني الذي لا يحكم بما أنزل الله، ولا يحتكم إلى شريعة الإسلام وقيمه في تشريعه وتقنينه، ولا في اقتصاده وسياسته، ولا في تربيته وتعليمه، ولا في ثقافته وإعلامه، ولا في تقاليده وآدابه، من طريق (انقلاب عسكري) تكون طلائعه من أبناء النظام الخاص. بعد أن ثبت أن الديموقراطية في بلادنا ليست ديموقراطية حقيقية، فالانتخابات تزوّر، وحتى لو لم تزوّر، فإنها تؤثر فيها قوى مختلفة، تجعلها غير معبرة بحق عن إرادة الشعب وتوجهاته الحقيقية”.
لكأنه متحدث عن تونس، يصور القرضاوي سبيل النظام الخاص بوضوح ببساطة كالماء. فالمعادلة “الإخوانية” كالآتي: نظام علماني لا يحكم بما أنزل الله في مواجهة حركة إسلامية لا تستطيع الوصول إلى الحكم من خلال الديموقراطية العلمانية، التي تستعمل لمرة واحدة من أجل التمكين، فيتصدى لهذه المهمة نظامها الخاص، من خلال الانقلاب العسكري، وقد ذكرها الشيخ لفظاً صريحاً من دون مواربة. وطلائع النظام الخاص في الحالة التونسية ليسوا إلا أعضاء المجموعة الأمنية، الذين قرروا التصدي للنظام العلماني الذي يتزعمه الحبيب بورقيبة بعد أن خاب أملهم في أن يصلوا عبر اللعبة السياسية أو أن يوصلوا أحد حلفائهم ويتمكنوا من خلاله وعبره ومن خلفه.
إذاً لم تكن نشأة الجهاز الخاص، داخل الحركة الإسلامية التونسية منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي، بدعة في تاريخ الحركات الإسلامية ولا خاصيّة للحركة التونسية من الناحية التنظيمية. كان ميراثاً “إخوانياً” وصدىً واضحاً لأصولها “الإخوانية” واتباعاً منها لسنّة الآباء المؤسسين. لكن التفكير في تحريك الجهاز، بعد مؤتمر سليمان 1984 نحو التمكين، أي قلب نظام الحكم، كان واضحاً أنه من تأثيرات تجارب مختلفة حدثت هنا وهناك. فقد فتحت الثورة الإسلامية، التي أسقطت نظام الشاه القوي في 1979 باب الأمل واسعاً أمام الإسلاميين في كل مكان وكسرت حاجز العجز والخوف. كما ألهمت فكرة الاندساس داخل الجيش، التي قام بها تنظيم الجهاد المصري، ووصل من خلالها إلى رأس الرئيس أنور السادات أمام الشاشات في تشرين الأول (أكتوبر) 1981، الكثير من الجماعات الإسلامية في العالم ومن بينها تونس، كي تحرك طاقتها في تقوية أجهزتها الخاصة، فإمكان التطبيق وارد، والمثال المصري خير دليل. والأهم من التجربة الإيرانية والمصرية، كانت التجربة السودانية، التي أطاحت بجعفر النميري، والتي شكلت مرحلة أولى لتمكين الحركة الإسلامية من الحكم لاحقاً في 1989. وهي التجربة التي كانت “حركة النهضة” تريد السير على خطاها.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر