سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أسامة رمضاني
بعيدا عن التبسيط، يستوجب استشراف مستقبل تونس وعلاقتها بالغرب الأخذ بعين الاعتبار سائر جوانب البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد ومحيطها المحلي والإقليمي والدولي.
يحاول الغرب أن يفهم ما تشهده تونس من تطورات بعد قرار الرئيس قيس سعيد تعليق نشاط البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه. ولكنه يبدو أن الغرب لا يطرح الأسئلة الحقيقية ولا يرى الصورة كاملة دون نقصان.
لم ينجح الغرب في رصد المتغيرات الجوهرية التي شهدتها البلاد منذ الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بنظام حكم الرئيس زين العابدين بن علي سنة 2011 بعد فترة حكم طويلة.
لم يستطع الغرب أن يفهم أن القراءة الشكلانية للديمقراطية، وهي قراءة تركز أساسا على التصويت في الانتخابات، لا تأخذ بعين الاعتبار ضرورة بناء المؤسسات في الديمقراطيات الناشئة وكذلك أهمية أن تواكب المسارَ السياسي حوكمة رشيدة وتطور اجتماعي واقتصادي ملموس.
مصلحة التونسيين تستدعي أن يتأنى الغرب في قراءته للوضع في البلاد ويتمعن في خلفياته وتعقيداته. ولكن الطريق إلى ذلك لن تكون معبدة.
على سبيل المثال، لخصت مبعوثة نيويورك تايمز انطباعاتها خلال زيارة لتونس مؤخرا بالقول ” لم يكن هناك إحساس بالخوف على مصير الديمقراطية التونسية. كنت أشعر وأنا أتجول بغيابها (الديمقراطية) مثل الشعور بأن عضوا من الجسد مازال موجودا حتى بعد فقدانه”.
يواجه الغرب اليوم موقفا صعبا في تونس. ويتساءل البعض من الغربيين إن كان ما يتعارف عليه بالهندسة العكسية في الفعل السياسي (والصناعي) كفيل بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الخامس والعشرين من يوليو
مازال الكثيرون في الغرب ينظرون إلى تونس على أنها حاملة لواء الربيع العربي وأيقونة الانتفاضات من أجل التغيير نحو الأفضل. ولكن هذه الانتفاضات انتهت إلى مأزق أينما اندلعت في المنطقة.
كان النموذج المبني أساسا على التوجه إلى صناديق الاقتراع بمثابة تبسيط فادح للأمور وانقطاع عن الواقع.
كل من تابع اتجاهات الرأي العام في تونس خلال الأعوام الأخيرة وصل إلى قناعة مفادها أن الواقع لم يكن دوما مطابقا للتصورات السياسية التي تراءت للغرب.
ومن الأكيد أنه رغم الابتهاج لافتكاكهم لحريتهم فإن التونسيين لم يشعروا أبدا أنهم وكلاء للربيع العربي.
وعندما كان العالم الخارجي يحتفي بفوز تونس بجائزة نوبل للسلام التي منحت للرباعي الراعي للحوار الوطني سنة 2015، كان اهتمام التونسيين مركزا بشكل أكبر على التحديات المتزايدة النابعة من واقعهم الصعب.
لم تتوقف احتجاجات الشوارع بعد الإطاحة بنظام بن علي إذ تواصل عدم الرضا على بقاء التطلعات دون استجابة وعلى الأداء غير المقنع للطبقة السياسية.
أظهرت عمليات سبر الآراء البون المتسع بين الجمهور الواسع والنخبة الحاكمة وأحيانا رفضا كاملا لهذه النخبة من قبل رجل الشارع.
وإن تراءى للبعض عكس ذلك، فإن جذوة الفكرة الديمقراطية لم تخبُ في تونس، وإن كان الكثير من التونسيين ندموا على من اختاروا من السياسيين خلال انتخابات آخرها سنة 2019. كما كانت لهم مآخذ على النظام الانتخابي الذي تولدت عنه تلك النتائج.
لا ريب أن التعلق بالحرية غير قابل للنقاش في تونس. لكن التونسي لا يزال يرنو إلى جوهر الديمقراطية وليس فقط إلى شكلها.
كان واضحا أمام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تواجهها البلاد وارتفاع نسبتي الفقر والبطالة وانحسار الطبقة الوسطى، أن الانتقال الديمقراطي لم يؤدّ إلى تحسن في الأوضاع.
في هذا الخضم ونتيجة لذلك واجهت معظم الأحزاب السياسية البالغ عددها حوالي 250 حزبا تقلصا في شعبيتها وتراجعا في مكانتها فيما اختفى البعض الآخر تماما من الوجود.
ولا شك أن عدد الأحزاب المبالغ فيه عكس حالة من التشظي لا تستجيب بأيّ شكل من الأشكال للمصلحة الوطنية.
وليس هناك من مثال أبلغ لتراجع منسوب الثقة في الأحزاب السياسية والسياسيين من الانهيار الدراماتيكي لهامش المساندة التي كانت تحظى به في وقت ما حركة النهضة .
كان هذا الحزب يعتقد أنه لا يمكن أن يتأثر بسهام النقد الموجهة إليه نتيجة الدور الذي لعبه ضمن الحكومات الفاشلة وغير الكُفُؤة منذ 2011. ولكن الأحداث أظهرت عكس ذلك.
كان الغرب يعتقد أحيانا أن المساعدة الاقتصادية لوحدها كافية لإعادة البناء في تونس. تلقت البلاد المليارات من الدولارات وإن كان البعض يحلم بمساعدات أكبر. ولكن كل ما حققه ذلك هو دعم السياسات الخاطئة والممارسات المشوبة بشبهات الفساد.
لم تمكّن هذه المساعدة من خلق مواطن الشغل وتوفير الكرامة ولا حتى لقمة العيش أحيانا.
كما اهترأت صورة الديمقراطية في أعين التونسيين نتيجة ممارسات المحاصصة وتبادل المنافع بين السياسيين ومظاهر الشتائم والعنف ضد بعضهم بعضا خاصة في البرلمان الذي كانت أشغاله تُنقل على الهواء من قبل التلفزيون. كل ذلك أثّر سلبيا وبشكل كبير في المواقف تجاه الانتقال الديمقراطي والفاعلين فيه.
اليوم يواجه الغرب موقفا صعبا في تونس. ويتساءل البعض من الغربيين إن كان ما يتعارف عليه بالهندسة العكسية في الفعل السياسي (والصناعي) كفيل بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الخامس والعشرين من يوليو (جويلية) ولكن ذلك سيكون تكريسا للمسار السابق المبني على مفهوم الديمقراطية الشكلانية.
طلب وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن من الرئيس سعيد، في تعبيره عن رغبات حكومته وربما حكومات أوروبا أيضا، “التشبث بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان”.
وقد يعكس مثل هذا التصريح تصورا محدود الأفق في الغرب للطبيعة المعقدة للمشكل القائم وأحد الأسباب التي جعلت الغرب أصلا يفاجأ بالتطورات الأخيرة في تونس.
قدم جايك سليفن مستشار الأمن القومي الأميركي وصفة أكثر تفصيلا عندما دعا إلى استئناف المسار الديمقراطي “والعودة إلى البرلمان المنتخب في الآجال المناسبة”.
عبارات مازال البعض يحاول تفكيك رموزها، ولكن ليس هناك غموض حول إلحاح الغرب على الرغبة في أن يؤكد سعيد تعلقه الراسخ بمقومات الحكم الديمقراطي. مثل هذا التأكيد لن يكون صعبا، ولكن استئناف المسار السياسي لن يعني بالضرورة ومهما كانت الاعتبارات، عودة تامة لما كان عليه الوضع من قبل.
كان سعيد وهو الخبير في القانون الدستوري يعتقد دائما أنه لا فائدة كانت ترجى من المنظومة السابقة. وكمدافع عن السلطة المحلية، كثيرا ما تحدث سعيد عن ديمقراطية تنبع من القواعد الشعبية. وقد يسعى لتحوير النظام الانتخابي في هذا الاتجاه.
لم يستطع الغرب أن يفهم أن القراءة الشكلانية للديمقراطية، وهي قراءة تركز أساسا على التصويت في الانتخابات، لا تأخذ بعين الاعتبار ضرورة بناء المؤسسات في الديمقراطيات الناشئة
خلال مكالمة هاتفية جمعته بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نُسب إلى سعيد التزامُه بالكشف قريبا عن خارطة الطريق التي سيتبعها وكذلك التزامه بإعطاء “الشرعية الشعبية” المكانة التي تستحقها. في هذا الإطار يرى الرئيس التونسي أن النظام الرئاسي يستجيب بشكل أفضل لاحتياجات تونس، وهو نظام يسمح بانتخاب رئيس الجمهورية بشكل مباشر ويمنحه هامش تحرك أفضل.
وهذا سوف يتطلب تنقيحات دستورية وربما أيضا استفتاء شعبيا في غياب البرلمان. ومن الممكن أن يستخدم سعيد سلطاته الاستثنائية لضمان تحقيق هذه التغييرات.
في الوقت الحاضر لا يمكن التنبؤ بثقة كاملة كيف ستتطور الأمور. وكالعادة يواصل سعيد التقدم بحذر نحو أهدافه. وهو واع بأنه يحتاج إلى التوفيق بين اعتبارين يمكن أن يشكلا مصدري ضغط متناقضين. الاعتبار الأول هو درايته التامة بأنه سوف يواجه ردة فعل رافضة من قبل الشارع إذا ما قبٍل بإعادة الأمور لما كانت عليه من قبل، خاصة وأن مثل هذا الاختيار سوف يتعارض مع الحكم الذي أصدره هو نفسه على المنظومة السابقة عندما أكد أنها قد فشلت فشلا ذريعا وعفا عليها الزمن.
أما الاعتبار الثاني الذي لن يخفى على سعيد فهو ضرورة اجتناب المجازفة في كل الأحوال بالعلاقة مع الغرب الذي يُعدّ شريكا اقتصاديا وأمنيا حيويا للبلاد.
بعيدا عن التبسيط، يستوجب استشراف مستقبل تونس وعلاقتها بالغرب الأخذ بعين الاعتبار سائر جوانب البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد ومحيطها المحلي والإقليمي والدولي. وقد يستدعي ذلك تعديلات في المسار والبحث عن حلول وسطى، بعيدا عن أي مواجهة.
والإخفاق في رفع هذا التحدي، لا قدر الله، قد يمسّ من استقرار البلاد وتنجرّ عنه انعكاسات على جوارها المباشر.
اليوم وكما كان شأن تونس دائما فإنه من المتأكد في كل حال من الأحوال أن الإصغاء إلى نبض الشارع قد يكون أكثر جدوى كمؤشر لما قد تكون عليه الأمور مستقبلا من الاعتماد على النماذج النظرية للانتقال الديمقراطي.
المصدر: صحيفة العرب اللندنية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر