سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
اتجهت دول مجلس التعاون الخليجي (مجتمعة أو كل دولة على حدة) على مدى العقدين الماضيين، إلى تنويع سياساتها الخارجية، عبر توجيه المزيد من الاهتمام نحو التوجه شرقًا، أي دول شرق آسيا (الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، ورابطة دول جنوب شرق آسيا التي تُعرف برابطة الآسيان)، انسجامًا مع التحولات الدولية والإقليمية. ولعلَّ هذا الاهتمام، يُعزَى إلى عاملين رئيسيين، الأول: كبح جماح الضغوط السياسية الغربية، خصوصًا الأميركية منها، التي انبثقت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وتواصلت بعد غزو العراق، وصولاً حتى فترة رئاسة أوباما. العامل الثاني: فرضه صعود اقتصادات الشرق نتيجة انتقال ثقل الاقتصاد العالمي نحو آسيا، مترافقًا مع تنامي الطلب على إمدادات الطاقة.(1)
ومن ثَمَّ بدأت دول شرق آسيا، تكتسب زخمًا كبيرًا في الحسابات الخليجية مؤخرًا، إذ تتطلع دول الخليج إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية (بصورة منفردة، أو في الإطار الجماعي باستثناء قطر) في سياق سياساتها المبنية على التوجه شرقًا، لضمان مشترين ومستوردين دائمين لصادراتها من الطاقة،(2) والبحث عن فرص استثمارية جديدة داخل الأسواق الآسيوية، واستقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا المتطورة التي تدعم خطط التنويع الاقتصادي، إضافة إلى ضمان الأمن الغذائي لدول الخليج عبر تدفقات دائمة من السلع والمنتجات الغذائية والاستثمار في القطاع الزراعي والغذائي في بعض الدول الآسيوية، وما سيؤدي إلى المشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب والقرصنة، وإعادة إعمار دول عربية، مثل: اليمن، والعراق، وسوريا.
• تحديات ومخاوف
على الرغم من هذه الخلفية المتفائلة، تبقى عدة قضايا رئيسية يمكن أن تشكِّل تحديًا لتنامي العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي ودول شرق آسيا، بكل تأكيد، جميع هذه القضايا – ربَّما – يكون لها تداعيات سلبية على دول مجلس التعاون، وقد تعقِّد حسابات الدول الخليجية باستثناء قطر، في التعامل مع البلدان الآسيوية، في حال تصاعد هذه التحديات.
ومما لا شك فيه أن الأزمة الخليجية الراهنة – بسبب دعم قطر لقوى الإرهاب والتطرف – أثارت تخوفات عدة لدى القوى الآسيوية، فهناك مصالح متقاطعة، أدت إلى ظهور دعوات من قبل دوائر رسمية وشبه رسمية داخل هذه البلاد، وعلى رأسها الصين، تطلب إعادة النظر في علاقاتها مع إيران وقطر، لما ستمثله من تأثير سلبي على مصالحها في الدول الخليجية .
وليس من المستبعد أن تشكل هذه الآزمة تهديدًا مباشرًا لمستقبل مشروع “الحزام والطريق” الذي من المفترض ربطه الدولة الآسيوية الكبرى بدول المنطقة العربية. وتحسبًا لتداعيات هذه الأزمة، التزمت القوى الفاعلة في الشرق الآسيوي بتجنب التدخل والبقاء على الحياد، حيث إن التوتر الحاصل في المنطقة ذات الثراء الكبير، سيزيد من تكلفة الأعمال في المنطقة، ويرفع مستوى المخاطر وتكلفة الإقراض على المستثمرين الذين يعانون أساسًا من تراجع في عدد المشاريع القابلة للتمويل المصرفي.(3)
كما تعتبر الرياض، وباقي القوى الخليجية، أن دعم طهران للمسلحين الشيعة في المنطقة وتهديداتها بالسيطرة على طرق التجارة البحرية، مصدر التحدي الأكبر الذي تواجهه وسترحب بأي جهود تعاونية للتصدي لهذه التوجهات. ويجب أن يستهدف التعاون، الجهود التي تدعمها إيران لزعزعة استقرار دول الخليج نفسها، لا سيما البحرين والسعودية، اللتين تُعتبران مسرحًا تقليديًا لحملات إثارة الاضطرابات التي تشنها إيران، وأن يضم مساعدة موسعة من القطاع الخاص في مجال الدفاع الإلكتروني. كما يجب التركيز على دعم السعودية في إطار دفاعها عن حدودها الجنوبية من هجمات الحوثيين والضغط من أجل إيجاد حلول سياسية للحربين الكارثيتين في اليمن وسوريا.(4)
وبخلاف ما سبق، تبرز هنا العديد من التحديات التي تترافق مع التطورات السلبية لتداعيات مقاطعة الدول الأربع (السعودية والإمارات ومصر والبحرين) المستمرة منذ شهر يونيو/ حزيران 2017، والتي باتت تهدد مستقبل دولة قطر في مجلس التعاون الخليجي، فلقد عانت الدوحة اقتصاديًّا، وتراجعت الإيرادات المالية بشكل حاد إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وتزايد العجز المالي، وتقليص الإنفاق العام.
هذا الوضع اضطر قوى آسيوية إلى تخفيض الواردات، والتحويلات المالية، فضلًا عن عمليات تسريح كبيرة للعمالة الأجنبية لدى الدوحة، فلا تزال تداعيات الأزمة الخليجية تتفاعل حتى الآن، وتعقِّد تشكيل سياسة خليجية موحدة تجاه مبادرة الحزام والطريق. ومن أبرز هذه التحديات:
1- منافسة الإنتاج الصخري: تعني طفرة الوقود الصخري أن الولايات المتحدة، باتت تعتمد بشكل أقل على نفط الشرق الأوسط، والبلاد مرشحة لأن تصبح أكبر مُصَدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم بحلول منتصف العقد القادم. ومما يبعث على القلق – أيضًا – التهديد الذي تشكِّله هذه الطفرة على خطط الشركات الخليجية في مجال البتروكيماويات والصناعات المرتبطة بهذا القطاع.
2- التطورات في الصين: تعد الصين حاليًّا أكبر شريك اقتصادي (إذا استثنينا الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة) لدول مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي فإن احتمالات الهبوط الحاد للاقتصاد الصيني مستقبلًا، من المرجح أن تؤثِّر سلبًا على دول الخليج. ولعلَّ هذا الأمر، يبرز جليًّا في حالة سلطنة عُمان التي تعتمد بشكل مفرط على الاستثمارات الصينية، كما أن نحو 80% من صادراتها النفطية تتوجه نحو الصين وحدها.
3- الطلب في اليابان وكوريا الجنوبية: من المرجح في الأجلين المتوسط والطويل، أن تتراجع واردات اليابان من النفط والغاز الطبيعي المسال. ويُعزى ذلك إلى عوامل هيكلية، مثل استبدال الوقود، وشيخوخة السكان، وأهداف ترشيد الطاقة التي تفرضها الحكومة. كما أن زيادة التنويع في قطاع الطاقة، من خلال التركيز على الطاقة النووية والمتجددة، يمكن أن تكبح نمو الطلب المحلي على مشتقات النفط والغاز الطبيعي. والعديد من تلك القضايا، قد يحصل في كوريا الجنوبية، ويؤدي بالمحصِّلة إلى تباطؤ نمو الطلب في البلاد على النفط والغاز.
4-النزاعات الآسيوية: الخلافات بين الدول الآسيوية نفسها، قد تُلقي بظلالها السلبية على دول مجلس التعاون الخليجي. هناك نزاعات دول الآسيان (خصوصًا الفلبين، وفيتنام) مع الصين حول بحر الصين الجنوبي، والخلافات اليابانية – الصينية حول الحدود البحرية في بحر الصين الشرقي، فضلًا عن ملف كوريا الشمالية. ولعلَّ المخاطر هنا، تتمثَّل في إمكانية انتقال التوترات الحاصلة في تلك المناطق إلى المحيط الهندي. وهناك ما يشبه اندلاع حرب باردة جديدة في المحيط الهندي بين تحالف غير رسمي أو معلن بين الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان من جهة، والصين من جهة أخرى.
5- غياب اتفاقيات التجارة الحرة: في ظل غياب اتفاقيات للتجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي مع بلدان منطقة جنوب شرق آسيا، فإنه لا يمكن استبعاد إمكانية بروز إشكالية محتملة تتمثل في السياسات الحمائية من قبل الجانبين أو الاتهامات بالإغراق التجاري، خصوصًا فيما يتعلق بمنتجات شركات البتروكيماويات الخليجية، أو صادرات الحديد والألومنيوم الصينية.
6- القضايا الخلافية: هناك قضايا خلافية بين دول الخليج وبعض دول جنوب شرق آسيا، عكَّرت الأجواء، أو ربَّما يكون لها تداعيات سلبية في المستقبل. فعلى سبيل المثال، لا تزال العلاقات الصينية – الإيرانية، تثير الشكوك لدى بعض دوائر صنع القرار في دول الخليج، خصوصًا في السعودية. كما تبقى هناك إمكانية لتزايد التوترات السياسية بشأن حقوق العمال الآسيويين ومعاملتهم في دول مجلس التعاون الخليجي، أو معاملة الأقليات الإسلامية في بعض دول الآسيان (ميانمار وتايلاند)، أو حتى الصين.
• تطلعات مستقبلية
وإجمالاً، يمكن القول إن دول مجلس التعاون الخليجي (باستثناء قطر)، تتعامل مع معظم دول شرق آسيا باهتمام بالغ، تتوقع دول الخليج تحول منطقة آسيا إلى دينامو نمو الطلب على الطاقة على مدى العقدين المقبلين؛(5) حيث تتوقع القوى الخليجية العديد من الأمور، من أهمها:
• بقاء الصين، والهند، ودول الآسيان، المحركات الأساسية للنمو في الطلب على النفط أو الغاز الطبيعي المسال حتى عام 2030.
• تزايد تأثير رابطة الآسيان على أسواق الطاقة العالمية في العقد القادم، ومن المتوقع أن تصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، حيث تعتبر دول الآسيان، مجتمعة، ثالث أكبر منطقة بعد الهند والصين، وتمثل سابع أكبر اقتصاد في العالم، وخامس أكبر وجهة للاستثمار الأجنبي في عام 2016.
• من الناحية السياسية، تعد الصين من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، في حين أن اليابان تخوض حملة للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي. ومن المتوقع أن تصبح أكبر اقتصاد في العالم، وقوة عسكرية لا يُستهان بها بحلول عام 2030، بالإضافة إلى أن مبادرة طريق الحرير، أو ما تسمى حاليًّا “مبادرة الحزام والطريق”.
• من الناحية الاقتصادية: تعتبر هذه البلدان الثلاثة من أكبر الاقتصادات في العالم، علاوة على أن الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، تتربع على مراكز متقدمة ضمن قائمة أكبر الشركاء التجاريين لدول مجلس التعاون الخليجي في عام 2016.
• بالنسبة لمجال الطاقة:(6) كانت الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية من أكبر البلدان المستوردة للنفط والغاز الطبيعي المسال من دول الخليج (خصوصًا السعودية وقطر) في عام 2016. وتعدُّ الصين هنا حالة بارزة، حيث من المتوقع أن يتزايد استهلاكها من الطاقة بشكل معتبر على مدى العقدين القادمين.
• من الناحية العسكرية: من المتوقع تنامي قوة الصين العسكرية بشكل مطَّرد، على مدى العقود القادمة، بينما ستؤدي اليابان وكوريا الجنوبية أدوارًا مهمة – أيضًا – على هذا الصعيد.
• توطين الصناعات الدفاعية: هذا القطاع مجال محتمل للتعاون بين الطرفين، خصوصًا مع تنامي جودة بعض الصناعات العسكرية الصينية، ورغبة الرياض بتوطين بعض الصناعات داخل المملكة.
• عوامل التحرك من وإلى شرق آسيا
وأخيرًا.. يمكن القول إن دول شرق آسيا، سوف تسعى إلى توثيق روابطها الأمنية والعسكرية مع منطقة الخليج العربي في الأعوام القادمة، وسوف تزداد هذه الروابط كلما تراجع الدور الأميركي، وربَّما تطرح بعضها صيغًا مختلفة أمام دول مجلس التعاون الخليجي، لتحقيق الأمن الجماعي، أو الحصول على درجات أعلى من التعاون الأمني مع دول الخليج على أقل تقدير.(7) ومما لا ريب فيه، أن سياسة التوجه شرقًا من قبل دول الخليج صوب آسيا، تأتي نتاجًا لمتغيرات وتحولات دولية كبرى سوف تعيد هيكلة النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، وتقدم فرصة لإعادة أولويات الأسواق النفطية، والتوسع الاستثماري المتبادل. كما أنها تمثل فرصة مواتية للاستفادة من دول آسيا في كافة القطاعات غير النفطية التي تعمل دول الخليج على تطويرها.
والأبرز أن التوجه الآسيوي غربًا، ربَّما يفتح آفاقًا لإعادة التفكير، عربيًا وخليجيًا، في صيغة جديدة للأمن في منطقة الخليج، يكون عمادها وضع أسس جديدة للأمن الجماعي، شرط أن تزيل دول، مثل: الصين والهند، بعض التخوفات والتساؤلات حول نيتهما المستقبلية من تعزيز وجودهما في قلب الشرق الأوسط.
وحدة الدراسات السياسية*
المراجع
1 – دول الخليج والتوجه شرقًا – دراسة د. ناصر التميمي .
2 – لماذا قد تكون مقاطعة دول الخليج لقطر “هدية” لدول آسيا؟- وكالة سبوتنيك.
3 – “الحزام والطريق” في خطر بسبب أزمة قطر – ترجمة هاني محمد
4 – إعادة بناء التحالفات ومواجهة التهديدات المحدقة في الخليج – لوري بلوتكين وسايمون هندرسون
5 – لماذا قد تكون مقاطعة دول الخليج لقطر “هدية” لدول آسيا؟- وكالة سبوتنيك.
6 – دول الخليج تتحدى أزمة النفط بشراكات مع دول شرق آسيا – العربية.نت
7 – التوجه غربًا: عوامل التحرك من جنوب وشرق آسيا إلى الخليج – إبراهيم غالي.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر