لم تكن الصين تُقلِق العالم الغربي كثيرا في السابق، رغم أنها دولة كبرى ونووية وعضو دائم في مجلس الأمن، فقد كانت مشغولة بشؤونها الداخلية وانقساماتها السياسية، فشعبها فقير، وعدد سكانها هائل، إذ بلغ مليار إنسان عام 1982، وهذا العدد من البشر يحتاج إلى الإدارة المباشرة والرعاية المكثفة، خصوصا في ظل نظام شيوعي يتحكم بكل تفاصيل الحياة.

كان الاهتمام الغربي يتركز على تحجيم قدرة الاتحاد السوفيتي، الذي كان يهدد النظام الغربي أيديولوجيا وعسكريا وثقافيا واقتصاديا. وكانت الصين هي الأخرى تخشى قوة الاتحاد السوفيتي، رغم قربها الأيديولوجي منه، وكان لها مصلحة في التعاون مع الغرب لإعاقة تقدمه.

لكن الصين نهضت نهضةً مثيرةً للإعجاب بعد عام 1978، عندما تولى دينغ زياوبينغ قيادتها، إذ أدرك دينغ أن الصين الشعبية لن تستطيع أن تلحق بالعالم المتقدم، إن أبقت على سياسات الانغلاق على نفسها، التي مارسها سلفه المؤسس، ماو زيدونغ. وقد ركز دينغ على أمرين مهمين جعلهما في أولى أولوياته، وهما تشجيع الاستثمار في المشاريع الخاصة، الذي استدعى الانفتاح وتخفيف القيود الاقتصادية، وتبني خطة طويلة الأمد لتقليص عدد السكان.

وقد نجح في كلتا السياستين، إذ تسارع النمو الاقتصادي ليتجاوز 8% سنويا، بل 9% أحيانا، منذ ذلك الحين حتى عام 2020، عندما تدنى النمو الاقتصادي في معظم دول العالم بسبب جائحة كورونا، بينما نجحت سياسة تحديد النسل، وبدأت العائلات الصينية تتقلص تدريجيا، إذ صار الإنجاب لا يتجاوز الطفل الواحد للعائلة. لكن هذه السياسة، تسببت لاحقا في نقص العمالة، إذ تحولت غالبية سكان الصين إلى مسنين، خارج سن العمل، الأمر الذي دفع الرئيس شي جينبينغ، إلى تشجيع الإنجاب، ولكن دون جدوى.

وقد واصل خليفتا دينغ، وهما جيانغ زمين وهو جينتاو، سياساته الاقتصادية والاجتماعية، التي مكَّنت الصين من اللحاق بالدول المتقدمة، وانتشال حوالي 800 مليون صيني من الفقر، كما خفَّفت القيود الاجتماعية والاقتصادية التي كانت مفروضة على السكان. وقد تسارع التطور الصيني بخطى حثيثة حتى أن مؤسسة (غولدمان ساكس) الدولية للاستشارات المالية توقعت في عام 2010، أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الصيني نظيرَه الأميركي بحلول عام 2026، وأنه سوف يفوقه حجما بنسبة 50% بحلول 2050.

لكن التباطؤ الاقتصادي الذي صار واضحا منذ سنوات، قد دفع (غولدمان ساكس) إلى تعديل توقعها السابق، إذ أشار تنبؤها الأخير (عام 2022)، إلى أن الصين لن تلحق بأميركا، من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، إلا في عام 2035 وأن أقصى ما يمكن أن تبلغه بحلول منتصف القرن الحالي هو تجاوز أميركا بنسبة 15%.

بينما ترى مؤسسة (كابيتول إيكونوميكس) أن حجم الاقتصاد الصيني لن يتجاوز 90% من الاقتصاد الأميركي بحلول عام 2035. كل هذه المقارنات والتنبؤات تصير عديمة الفائدة إن لم تنظر بعمق إلى المشكلة القائمة بين الولايات المتحدة والصين وكيف يمكن حلها. فقد تتجاوز الصين الولايات المتحدة، أو تتخلف عنها، ولكن الدولتين تبقيان الأقوى في العالم على الأمد المنظور، مهما كانت نسب النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي.

والحقيقة الأخرى الماثلة للعيان هي أن المستوى المعاشي للفرد الصيني، الذي يقاس بمعدل دخل الفرد، لن يلحق بالمستوى المعاشي للفرد الأميركي لعدة عقود مقبلة، إذا ما عرفنا أن الأول يعادل حاليا 50% من الأخير، وقد ينخفض أدنى من ذلك إن واصل الاقتصاد الصيني تباطؤه.

وتشير الدراسات والتوقعات إلى أن أسباب تباطؤ النمو الاقتصادي الصيني عديدة، بعضها إيجابي، كبلوغ الاقتصاد مرحة الاكتمال، إذ إن النمو الاقتصادي في البلدان المتطورة لا يتجاوز 3% أو 4% في أكثر الأحيان، لأن مجال التطوير ضيق، باعتبار أن البلد يقترب من التكامل المنشود، أما في البلدان النامية، خصوصا المستقرة منها، فإن النمو دائما يقترب من 10% أو يفوقها، لأن مجال التطوير مازال واسعا.

وبعض الأسباب سلبية مثل العقوبات الأميركية على الصين التي حرمتها من التكنلوجيا الحديثة، خصوصا أنواع المُوَصلات المتطورة، والتي يرى خبراء بأنها سوف تتسبب مباشرة في تدني الناتج المحلي الإجمالي الصيني.

ومن أسباب التراجع الاقتصادي الأخرى، حسب كتاب “المنطقة الخطِرة”، لمؤلِفيْه هال براندز ومايكل بكلي، هو تراجع عدد الأيدي العاملة، إذ إن غالبية السكان الحاليين صاروا، أو على وشك أن يصيروا، مسنين، نتيجة لسياسة تحديد النسل المنتهجة منذ السبعينيات. وهذا الوضع يجعل معظم موارد البلد تذهب لرعاية المسنين، بدلا من أن تُستَثمر في مجالات تطوير البلد وتوفير الوظائف للشباب.

وبعد أن كانت نسبة العاملين إلى المتقاعدين في الصين هو 15/1، وهي نسبة عالية لم تتوفر لمعظم بلدان العالم المتقدمة، التي تسود فيها نسبة 5/1، فإن هذه النسبة العالية، التي ساهمت في تطوير الصين بسرعة مذهلة خلال التسعينيات ومطلع الألفية، هي آخذة في التراجع بسبب تزايد عدد المتقاعدين، حسب المؤلِفَيْن، براندز وبكلي.

ووفقا لحسابات معهد بروكينز، فإن عدد السكان العاملين في الصين قد وصل ذروته عام 2011 عندما بلغ 900 مليون شخص، لكن هذا العدد سوف يتقلص إلى 700 مليون شخص بحلول منتصف القرن، وأن هؤلاء العاملين يجب أن يوفروا سبل العيش لـ500 مليون صيني، من المتقاعدين الذين تجاوزوا الستين من العمر، مقارنة مع 200 مليون شخص حاليا.

ويرى مؤلفا “المنطقة الخطِرة”، أن تقدم الصين قد بلغ حده الأقصى، بل سمَّيا نظريتهما بـ “الصين عند الذروة”، وأن البلد صار خطيرا لأنه قوي وقادر على إرباك النظام الدولي، لكنه فقد الثقة في تواصل التطور بالوتيرة السابقة، إذ يرى بأن الوقت لم يعد لصالحه. كما أن الإنفاق الكبير خلال العقود الماضية على البنى الأساسية للبلد، من منازل وطرق ومبان وسكك حديد، لم يعد يقدم مردودات مالية تكافئ كلفتها، أو تبرر المزيد من الإنفاق.

ويضيف المؤلفان أن الصين، التي كانت حليفةً خفية للولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي طوال الحرب الباردة، صارت الآن منافسة ومتشنجة، ولا تتردد في إعلان عدائها لهذا البلد أو ذاك، وضَرَبا مثالا على ذلك هو ردة فعل الصين على أستراليا، عندما دعت الأخيرة إلى إجراء تحقيق في كيفية نشوء وانتشار فيروس كورونا، إذ هددت بقطع العلاقات معها. وكان الإعلام الرسمي الصيني قد وصف أستراليا أوصافا حادة منها أنها “علكةٌ عالقةٌ في كعب حذاء الصين”!

وكذلك ردة فعل الصين العنيفة وغير المسبوقة على زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بلوسي، لتايوان العام الماضي، إذ طوقت تايوان وعزلتها، وأجرت مناورات عسكرية كثيفة حول الجزيرة. وكذلك ردة فعلها الحادة على تعليق الاتحاد الأوروبي لمعاهدة الاستثمار في الصين، عندما فرضت عقوبات على مسؤولين أوروبيين ومؤسسات أوروبية.

ليس في مصلحة الغرب أن تضعف الصين، لأنها قوة بشرية واقتصادية هائلة، وإن ازدادت عليها الضغوط فإنها قد تلجأ إلى القوة العسكرية كي تحافظ على موقعها في العالم. الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلنتن، قال ذات مرة إن “الصين الضعيفة أخطر على الولايات المتحدة من الصين القوية”، فالصين القوية لا تخشى أي دولة، لأن لديها الثقة بقدرتها على حماية مصالحها، لكن الصين الضعيفة تسعى للبرهنة على قوتها بشتى السبل، ومنها الإجراءات الاستثنائية والشديدة. وهذا ما يخشاه الغربيون عموما، والأميركيون تحديدا، من التراجع الاقتصادي الصيني المحتمل، الذي تشكل المقاطعةُ الأميركية للصين أحدَ أسبابه.

كيف يمكن الصين أن تحفز النمو الاقتصادي من جديد وتستعيد الأمل بأنها ستكون موازية للولايات المتحدة، أو ربما تفوقها اقتصاديا بحلول منتصف القرن؟ ترى مجلة الإيكونوميست أن أفضل الحلول المتوفرة للصين هو رفع المزيد من القيود المفروضة على الاقتصاد وإطلاق الحريات العامة وتخفيف التوتر الجيوسياسي، الذي يسود علاقاتها مع دول عديدة، وتطمين الشركات بأن العمل في الصين مأمون ومربح، وأن تتخلى عن الاتكال على البنوك الحكومية غير الكفؤة في تخصيص رؤوس الاموال.

لكن المجلة تستبعد حدوث مثل هذه الإصلاحات في ظل رئاسة شي جينبينغ، الذي توقعت بأنه سيبقى رئيسا مدى الحياة. لكنها تستبعد أن ينكمش الاقتصاد الصيني، رغم اعترافها بأن النمو الاقتصادي السريع صار جزءا من الماضي، وترى بأن الصين لن تغامر بغزو تايوان، لكنها تخشى من أن تخطئ القوتان العظميان في قراءة نيات بعضهما البعض، وتتورطا في صراع غير محسوب النتائج.

يبدو أن الصين تتجه لتعزيز قوتها العسكرية، تعويضا عن التباطؤ الاقتصادي، إذ تشير التنبؤات إلى أن ميزانيتها العسكرية سوف ترتفع بنسبة 7%. ويقدر معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام الإنفاق العسكري الصيني بـ 230 مليار دولار، أو 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي.

ويبقى هذ الانفاق متدنيا إذا ما قورن بالإنفاق العسكري الأميركي البالغ 746 مليار دولار، أو 3% من الناتج المحلي الإجمالي، حسب بيانات مركز (ستاتيستا) للبحوث. ويتوقع المركز أن الإنفاق العسكري الأميركي سوف يرتفع إلى 1.1 ترليون دولار بحلول عام 2033، لكن نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي سوف تنخفض إلى 2.8%.

التنافس الصيني-الأميركي سوف يكون السمة الثابتة للمرحلة المقبلة في العلاقات الدولية، لكنه لن يتطور إلى صدام مسلح، فمثل هذه النتيجة ستكون مدمرة لكلا البلدين ولدول العالم الأخرى، ولن يقْدِم عليها أي زعيم يشعر بمسؤولية تجاه بلده وشعبه.

ويمكن القول إن حربا عالمية ثالثة بعيدة الاحتمال، لأن مثل هذه الحرب لن تكون كسابقاتها، التي اعتمدت على الأسلحة التقليدية. لن تجرؤ أي دولة عصرية على استخدام السلاح النووي إلا على نطاق محدود جدا، لأنها ستكون المتضرر الأول منه، خصوصا وأن خصومها لن يترددوا في استخدامه ضدها. ومن الضروري التذكير هنا أن الصين استنكرت تلميح روسيا باستخدام السلاح النووي في أوكرانيا.