ستكون التكنولوجيا الغذائية والتكنولوجيا الزراعية محركين هامين نحو جعل سلسلة التوريد الغذائي أكثر كفاءة، وستسهمان في زيادة مُخرجات الإنتاج وجودتها بالتوازي مع تقليل عوامل المُدخَلات. وبالنسبة إلى اغلمستثمرين، نعتقد بأن هذين القطاعين سيحافظان على مكانتهما في الوقت الحالي، حيث تهيمن عليهما غالباً الشركات الصغيرة والناشئة، والتي لم تصل بعد إلى مرحلة تحقيق الربحية.
وبحلول عام 2050، سيصل عدد سكان العالم إلى ما يقارب 10 مليارات نسمة. ومن الناحية العملية، سيتطلب ذلك مضاعفة الإنتاج الزراعي العالمي لتلبية الطلب المتزايد على الغذاء في ذلك الوقت، على أن يصبح هذا الإنتاج في الوقت نفسه أكثر استدامة وفعالية. وسيفتح هذا التحدي العالمي مجالاً أمام الابتكار، ويوفر بالتالي إمكانات لإيجاد فرص استثمارية مستقبلية واعدة. وبالنظر إلى أن الناس، خاصة في البلدان المتقدمة، قد بدأوا يدركون تأثير ما يأكلونه في أجسادهم، وفي البيئة والكائنات الحية من حولهم أيضاً، فإن المنتجات الغذائية البديلة، مثل اللحوم والألبان، قد اكتسبت كثيراً من الجاذبية في السنوات الأخيرة. وعلى المدى المنظور، نعتقد بأن نمو هذا التوجه سيتواصل، وستحظى اللحوم والألبان البديلة بحصة كبيرة في الوجبات الغذائية للناس. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه المنتجات لا تزال مُكلفة في الوقت الحالي، وتباع بأسعار أعلى بكثير من المنتجات المكافئة التي تعتمد على الحيوانات.
ومهما كان التغير المستقبلي في العادات الغذائية، لا تزال ضرورية تنمية إنتاج الأغذية بصورة مختلفة وبكميات أكبر، واحتواؤها على المزيد من القيمة الغذائية، مع الحدّ من عوامل المُدخَلات المطلوبة. وتبدو الزراعة العمودية واحدة من الابتكارات الحديثة التي يمكنها دعم المحاولات الهادفة إلى إنجازه هذه المهمة التي تبدو مستحيلة. وبدلاً من زراعة المحاصيل أفقياً في الحقول الضخمة، أو في البيوت البلاستيكية، يتم تكديسها على أرفف موضوعة في هياكل تشبه الأبنية العالية، أو حاويات الشحن أو المستودعات. ويتميز هذا الأسلوب في زراعة المنتجات الغذائية بالعديد من الخصائص التي ستجعله عنصراً هاماً في إنتاج الغذاء مستقبلاً، فهو يتيح زراعة كمية أكبر من المحاصيل مع استهلاك أقل للمساحة والمياه، ومن دون استخدام لمبيدات الآفات.
ومع ذلك، فهناك بعض الجوانب السلبية التي تحدّ من إمكانات هذا النمو إلى حدّ ملحوظ، فالمزارع العمودية تتطلب طاقة تشغيل وكلفة عالية، ولا يزال التنوع في محاصيلها الإنتاجية محدوداً للغاية، حيث يغلب استخدام الزراعة العمودية على إنتاج الخضروات أو الأعشاب الورقية. ومع اعتقادنا بأن سوق الزراعة العمودية ستواصل نموها، إلا أننا نرى من غير المحتمل أن يصبح هذا التوجه سائداً على المدى القريب. وبالنسبة إلى المستثمرين، نعتقد بأن ساحة التكنولوجيا الغذائية والتكنولوجيا الزراعية ستحافظ على أهميتها في الوقت الحالي، نظراً لوجود عدد محدود جداً من الشركات المتخصّصة المُدرجة في هذه الساحة، في حين لا يزال الانفتاح الاقتصادي عليها منخفضاً جداً من قبل الشركات الأكبر، والتي تسعى بصورة متزايدة نحو الاستثمار في هذه المجالات.
وبرغم أننا رأينا في الزراعة العمودية تكنولوجيا تلائم المستقبل، إلا أنها لن تحلّ محل الزراعة التقليدية على المدى القريب. وهذا يعني ضرورة إيجاد طرق لتحسين الزراعة التقليدية بما يجعلها أقل استهلاكاً للموارد وإضراراً بالبيئة، وأكثر إنتاجية. وفي هذا الإطار، تتيح الزراعة الدقيقة مجالاً أمام المزارعين لزيادة الإنتاجية والجودة والعائد إلى أقصى الحدود، عبر ضمان كفاءة عوامل المُدخلات، مثل المياه أو المواد الكيميائية، وتقليل مخاطر الآفات الزراعية والفيضانات والأمراض إلى المستوى الأدنى. ونعتقد بأن سوق الزراعة توفر فرصة كبيرة لثورة رقمية قد تساعد العالم على إطعام سكانه بصورة أفضل في المستقبل.
ويُعتبر الجمع بين تكنولوجيا المعلومات والأجهزة ركيزة أساسية لمفهوم الزراعة الدقيقة، بهدف تحسين عملية اتخاذ القرار لدى المزارع، اعتماداً على التكنولوجيا الرقمية في مراقبة عمليات الإنتاج وتحسينها. وهناك العديد من التقنيات التي تم تطويرها، أو لا تزال قيد التطوير لتحقيق ذلك. وبصورة عامة، نجد أن الزراعة الدقيقة تطورية وليست ثورية، وستكون قادرة على الحدّ من الاستهلاك الكثيف للموارد بشكل كبير، بما يجعل الزراعة أكثر كفاءة، والتربة أكثر إنتاجية.
من جهة أخرى، يعتبر هدر الغذاء، أو الأغذية المعدلة وراثياً، عنصراً في الحوار الدائر حول تغذية الناس بطريقة أكثر استدامة. ومن خلال القراءة أو الاطلاع على التوجهات الحالية في هذا المجال، قد يتولد لدينا انطباع أننا إذا حوّلنا استهلاكنا بعيداً عن الأطعمة المعتمدة على الحيوانات، أو قمنا بإنشاء مزارع عمودية مبتكرة، أو بجعل الزراعة التقليدية أكثر كفاءة، أو حتى هندسة المحاصيل المثالية، وقللنا من هدر الغذاء، فقد يمكننا القضاء على الجوع، وسوء التغذية فوراً. ولكن للأسف، فالأمر ليس كذلك.
وعلى الرغم من الأهمية المؤكدة لتلك العوامل، والدور الحيوي للابتكارات الحديثة في هذا المجال، إلا أن الأمن الغذائي والمائي هما التحديان الرئيسيان والحاسمان في ما يتعلق بإطعام العالم. وعلى الأغلب تكون الابتكارات والتحسينات المذكورة مدفوعة بالتوجهات السائدة في بلدان العالم المتقدم، في حين تنتشر أعلى معدلات نقص الغذاء في البلدان النامية.
وبالتالي، نعتقد بوجود تناقض بين ما يُعتبر مهماً لإطعام العالم وبين الواقع. وفي وقتنا الحاضر، يزداد تركيز الناس في البلدان المتقدمة على الابتكارات، مثل اللحوم ومنتجات الألبان البديلة، أو الزراعة العمودية والدقيقة. وفي الوقت الذي تتوفر فيه إمكانات لم تكن معروفة من قبل، وتساعد في جعل سلسلة الإمداد الغذائي أكثر كفاءة، والأهم من ذلك أنها أكثر استدامة، إلا أن تلك الابتكارات ليست هي الحلول لإطعام العالم.
وتعتبر التحديات في البلدان النامية أكبر من ذلك، حيث لا تزال تشهد تحديات سائدة تحول دون الحصول على الغذاء بأسعار معقولة، مثل ضعف المؤسسات والنزاعات والفساد والافتقار إلى البنية التحتية، فضلاً عن محدودية الوصول إلى المياه. ولهذا، تعتبر البلدان الأسرع نمواً في عدد السكان على مستوى العالم هي البلدان الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي، وسوء التغذية. ومن المنظور العالمي، ستكون زيادة حجم المنتجات وجودتها، مع تقليل عوامل المُدخلات، أمراً حاسماً يُساعد موردي الأغذية على مواكبة التحولات الجارية وتلبية الطلب المتزايد.
وبالنسبة إلى المستثمرين، نعتقد بأن قطاعات مثل التكنولوجيا الزراعية والتكنولوجيا الغذائية ستحافظ على مكانتها في الوقت الحالي، وتهيمن عليها غالباً الشركات الصغيرة والناشئة، والتي لم تصل بعد إلى مرحلة تحقيق الربحية، وغالباً ما تدخل المنافسة مع شركات أغذية أكبر وأكثر رسوخاً تتمتع بقوة مالية أكبر. ومع ذلك، فإن تلك الشركات لا تحظى بالاهتمام نفسه من الأسواق المالية لكونها غير متخصّصة في هذه المجالات، في حين تتأثر التكنولوجيا الغذائية والتكنولوجيا الزراعية بالتوقعات المُفرطة، بما يؤدي لحصولها على تقييمات عالية. وبالنظر إلى الطبيعة التخصّصية لهذا القطاع والبيئة المتسارعة، فقد لا يقتصر ظهور الفرص الاستثمارية على الأسواق العامة فحسب، بل سيشمل الأسواق الخاصة أيضاً.