سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
منى أبو سنة
كثر الحديث مؤخرا عن مخاطر التكنولوجيا، كما تتمثل في الأجهزة الإلكترونية سواء موبايل أو آيباد… إلخ، والتى أصبحت تهدد مالكيها ومستخدميها إلى الحد الذى تخترق فيه حياتهم الخاصة وتسرق أموالهم، وقد وصل اختراق التكنولوجيا في مرحلتها السيبرانية الكوكبية إلى سرقة ملايين الدولارات من حسابات بنكية بل إلى اختراق مؤسسات وأجهزة استخباراتية. كل ذلك أدى إلى أن انتفضت مواقع التواصل الاجتماعى بأن لجأت إلى الخبراء فى مجال التكنولوجيا السيبرانية الحديثة المتقدمة، يسألونهم المشورة والنصيحة، بل الإنقاذ من براثن ذلك المارد الجبار الذى يهدد حياتهم. وأنا فى هذا المقال، أجتهد فى فهم وتحليل تلك الظاهرة في محاولة للخروج من ذلك المأزق الذى يعانى منه الإنسان المعاصر.
فمنذ وُجد الإنسان على الأرض والتكنولوجيا مصاحبة له، من حيث إنها كانت تعينه على اكتشاف ما يكمن في الطبيعة من موارد وطاقات يوظفها من أجل إشباع احتياجاته في الحياة، مما يحقق له الأمن والأمان. كانت التكنولوجيا البدائية تتمثل فىي الأدوات التي يبدعها الإنسان من الطبيعة، فيحولها إلى أدوات تلبى حاجاته فى المأكل والمشرب والحماية من الحيوانات المفترسة المهددة لوجوده. فصنع من الأحجار والأخشاب الرمح والسكين وغيرها من الأدوات مثل الأطباق والزلع للتخزين، إذن كانت التكنولوجيا البدائية فى جوهر الإنسان، لا غنى له عنها، لأنها كانت تربط بينه وبين الطبيعة فى وحدة، يمكن أن نطلق عليها وحدة وجود، الإنسان من جهة والطبيعة من جهة أخرى، كل في صيرورته لا يتعدى أحدهما على الآخر. فالأنهار تتدفق في حرية كاملة دون قيود، والهواء يتحرك دون أن يرغمه أحد على أن يؤدي وظيفة غير التي يقوم بها بشكل طبيعي، وكذلك الجبال وما تحت الأرض من موارد. كل تلك الظواهر الطبيعية ظلت حرة في ذاتها لا تخضع لأي تدخل أو سلطة من الإنسان لتغيير مسارها.
ظل الحال على ما هو عليه لعدة ملايين من السنين إلى أن اكتشف الإنسان تكنيك الزراعة، الذي يحاكي حركة الطبيعة من بذر البذور فى الأرض وريها بمياه المطر، ثم الانتظار إلى أن تنبت المحاصيل، فيحصدها ويأكل منها، ثم جاءت اللحظة الفارقة في علاقة الإنسان بالطبيعة، لعبت فيها التكنولوجيا دورًا جوهريًا، وهي اللحظة التى فاض فيها الطعام عن حاجة الإنسان، فاضطر إلى تخزينه في صوامع والتي شكلت نوعًا جديدًا من التكنولوجيا فرض على الإنسان أسلوبًا جديدًا للتعامل مع الطبيعة، وأعني بذلك تراكم المخزون وتنظيمه وإدارته؛ أي تنظيم التعامل مع المحاصيل فنشأت المقايضة باعتبارها الشكل البدائى للتجارة، مما كشف عن الجانب التقني للتكنولوجيا والذي يتجاوز كونها مجرد أداة تؤدي وظيفة معينة، ومنذ تلك اللحظة تغيرت طبيعة التكنولوجيا من حيث علاقتها بالإنسان، حتى وصلنا إلى عصر التكنولوجيا الحديثة من خلال الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر.
هذه مجرد مقدمة لتناول القضية التى تشغل العالم الآن فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالتكنولوجيا الحديثة، وما يثار حولها من مخاوف من تحكم وتسلط شركات التكنولوجيا العملاقة على عقل وحياة الإنسان، وأستعين في تناول تلك الإشكالية بمقال الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر (1889 -1976) بعنوان «السؤال حول التكنولوجيا» الذى نشره فى عام 1954، أي بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكى بنحو تسعة أعوام، وأوجز هذا المقال في فقرة دالة تكثف معنى جوهر التكنولوجيا بلفظ technicity- وهو مشتق من اللفظ اليوناني techne ويعنى صنع الأشياء وإدخالها إلى حيز الوجود- كما حدده هايدجر: «إن استهلاك كافة المواد بما في ذلك الإنسان باعتباره مادة خامًا يتحدد بشكل غير منظور بالفراغ التام الذي يتعلق به الانسان وتتعلق به الموجودات. وحيث إن هذا الفراغ مطلوب ملؤه بإنتاج غير مقيد وغير مشروط، فإن إنتاج أي شىء ممكن، بيد أن فراغ الوجود لا يمكن أبدًا ملؤه بامتلاء الموجودات، خاصة إذا لم تكن على وعي بفراغ الوجود. وبناءً عليه فإن الطريقة الوحيدة للهروب من ذلك الفراغ هى تنظيم وإدارة والتحكم فى الموجودات بشكل منظم ولا متناهٍ؛ من أجل ضمان نشاط دائم لا يتوقف ولا يهدف لأي شىء سوى ملء فراغ الوجود المتنامي». وقد يبدو أن هايدجر يعادي التكنولوجيا بل والعلم الذي أفرز التكنولوجيا، ولكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك، فهو لا يستبعد التكنولوجيا من حياتنا، بل يدعو إلى أنسنتها من خلال رؤية جديدة لعلاقة الإنسان بالطبيعة تواكب التقدم العلمي من خلال تكوين علاقة عضوية بين العلوم الطبيعية من جهة والعلوم الإنسانية والفنون من جهة أخرى، لتؤدى ذلك الدور بحيث يكون للأخيرة الصدارة في أنسنة الطبيعة.
وقد ألقى هايدجر المزيد من الضوء على ما سمّاه «جوهر التكنولوجيا» في حديث صحفي له في مجلة شبيجل الألمانية عام 1961.
قال هايدجر: «إننا نعتقد أننا نحن البشر نتحكم في التكنولوجيا ونستطيع توجيهها لخدمة أغراضنا، بينما- فى حقيقة الأمر- نحن لا نضبط نزعتنا الداخلية، التى تدفعنا نحو مراكمة مزيد من الإمكانات التكنولوجية، وربط الموجودات في شبكة متنامية باستمرار من تدوير المنتجات واستهلاكها. ووفق هذا المعنى، فإن التكنولوجيا قادرة على التحكم في الإنسان». وتساءل المحاور متعجبًا: «إذن ما الذي يخضع لسيطرتنا؟! أنا أرى أن كل شىء يؤدي وظيفته، ونرى مزيدا من شركات إنتاج الكهرباء، ومعدلات الإنتاج فى تنام، ويحظى البشر برعاية فى مثل تلك الدول المتقدمة تكنولوجيًا، ونحن اليوم نحيا في رخاء، ما الذي ينقصنا إذن؟!»، فرد هايدجر قائلًا: «ما قلتَه الآن هو ما يثير مخاوفي على وجه التحديد، وهو كل شىء يعمل مؤديًا وظيفته، فهذا الأداء الوظيفى يدفع لمزيد من الدوران في فلك وظيفى لا ينتهي، وبذلك فإن التكنولوجيا تحل محل الإنسان على نحو متزايد، وتفصله عن محيطه الطبيعي، وهذا الانفصال تتضح معالمه بدرجة أو بأخرى فى بعض الأماكن، ويتجه نحو مزيد من الوضوح في أماكن أخرى، لكنه ليس ثمة مكان على وجه الارض بمنأى عن ذلك».
وأدلل على صحة كلام هايدجر بمثال من علم الإدارة الحديثة استبدل بلفظ «إدارة شؤون العاملين أو شؤون الأفراد» لفظ «إدارة الموارد البشرية HR»، وهذا الإحلال يعبر عن طمس الهوية الإنسانية إلى حد ينفيها نفيًا تامًا، أى بجعل البشر مواد خاما مثلها مثل الموارد الطبيعية التي يحولها الإنسان لسلع للتداول. وإذا أردت المزيد من الأدلة، إليك الآتي: في وسائل التواصل الاجتماعي يتحول البشر إلى مجرد أرقام بلا هوية إنسانية، يضمهم إطار مغلق عليهم بمثابة برواز ينظم ويدير العلاقات الإنسانية من قبل جهات مجهولة. والتغريدات والمنشورات التي تنهمر يوميًا من تلك الوسائل تتحكم في تحديد وتغيير رؤية المستخدمين لأنفسهم وللعالم، ثم بزوغ ظاهرة ما يسمى بالبيانات الضخمة big data، والتي تحتوى على معلومات وبيانات لا نهائية، يتم تجميعها وتصنيفها وإدارتها من جانب جهات مجهولة بسبب أو بدون سبب. وفي مجال الاقتصاد، ظهور ما يسمى العملة المشفرة cryptocurrency التي تتجاوز المؤسسات المصرفية وتهدد اقتصاد جميع الدول في العالم، ناهيك عن التحرش والابتزاز الجنسى الإلكتروني وكذلك توظيف وإدارة الفضاء السيبراني متمثلًا في الإنترنت العميق والمظلم dark web من قبل التنظيمات الإرهابية الدينية وبعض النظم الحاكمة التي تسعى لامتلاك القنبلة النووية من أجل تدمير العالم.
والسؤال الآن: ما هو الحل الذي طرحه هايدجر لإنقاذ الحضارة الإنسانية من الدمار التكنولوجي المرتقب؟..
يطرح هايدجر الجواب في إحدى محاضراته عن كيفية تجاوز ما يسميه بـ«التفكير التقني»، وذلك من خلال دعوته إلى تأسيس ما يسميه «الذوات المقاومة» لقوة التكنولوجيا المنفلتة، ومسؤولية هذه النخبة نشر الفكر الواعي بتلك المخاطر من جهة، واكتشاف الطاقات الإنسانية الأصيلة التي تملأ الفراغ الداخلي، الذي يعاني منه الإنسان المعاصر، والذي يفسح المجال لسيطرة التكنولوجيا على حياته.
وفي تقديرى أن ثمة بوادر لتحقيق تصور هايدجر عن مستقبل علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، نذكر منها مثالين: المثال الأول: في مجال وسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا تطبيق الواتس آب، فعندما أخطرت الشركة مستخدميها بتغيير سياسة الخصوصية بداية من عام ٢٠٢١، تحول عدد كبير من مستخدمي هذا التطبيق إلى تطبيق آخر، رافضين شروط الشركة، وبناء على ذلك، تراجعت الشركة وأرجأت تعديلات سياسة الخصوصية بناء على موقف المستخدمين. المثال الثاني يتمثل في المشروع الضخم الذى طرحته مؤسسة روكفلر الأمريكية بإنشاء ١٠٠ مدينة حول العالم تسمى المدن المرنة resilient cities لتستبعد فيها الانبعاثات الكربونية الناجمة عن التكنولوجيا وترشيد استخدام الموارد الطبيعية، وذلك من أجل الحفاظ على نقاء البيئة قدر الإمكان بحيث يتعايش الإنسان مع البيئة في وجود موحد بلا سيطرة من أحدهما على الآخر، والجدير بالتنويه أن مشروع نيوم الذى تقوم به المملكة العربية السعودية يقع في سلسلة المائة مدينة العالمية.
إن دعوة هايدجر في حقيقتها، هي دعوة إلى إيقاظ الإنسان من سباته التقني على نحو مشابه لمقولة كانط عن ديفيد هيوم: «إن هيوم أنقذني من سباتي الدوجماطيقي». والسؤال: هل أصبحت التكنولوجيا دوجما؟.. إذا كان الجواب بالإيجاب، فأين النخبة الجديدة؟، ومن المنوط باستدعائها من أجل القيام بمسؤوليتها في إنقاذ الحضارة الإنسانية من هذا السبات الدوجماطيقي؟.
المصدر: المصري اليوم
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر