تلك التعليقات والتحليلات في الصحافة العالمية عن أن “المعجزة الاقتصادية الصينية انتهت” مبالغة مفهومة، ليس فقط في سياق الاستراتيجية الأميركية لإدارة الرئيس جو بايدن بالتصدي لصعود الصين وإنما أيضا لأن الصين بدأت مؤخرا توسع نطاق الصعود في مجالات أخرى. لا يقتصر ذلك على تعزيز دورها الدبلوماسي خارج حدودها، وحتى خارج دائرتها التقليدية في جنوب شرق آسيا، إنما تعمل الصين منذ فترة على تطوير جانبين يقلقان أميركا والغرب: قوتها العسكرية وقدراتها التكنولوجية.
ربما تكون المعجزة الاقتصادية التي أطلقها الزعيم الصيني الراحل دنغ زياو بينغ قبل نحو نصف قرن وصلت إلى قمة المنحنى فعلا. لكن الصين لم تنفد إمكانياتها على التطور بعد، وتعمل في الآونة الأخيرة على أن تقود الثورة الصناعية الرابعة ببناء اقتصاد رقمي يعتمد على الذكاء الاصطناعي والإنترنت فائقة السرعة.
اعتمدت الانطلاقة الاقتصادية الصينية الأولى نهاية سبعينيات القرن الماضي على فتح الاقتصاد أمام العالم كي يأتي ويصنع في الصين مستفيدا من تسهيلات حكومية وعمالة رخيصة ومدخلات إنتاج متوفرة بسهولة وكلفة أقل. وشهدت الصين عملية تحول كبرى بتحول عمال الزراعة من الريف إلى عمالة صناعية في المدن، وأيضا نمو التجارة الصينية مع العالم كله تقريبا.
ربما تشبع ذلك الآن ووصل إلى قمته، لكن تلك العقود راكمت لدى الصين قاعدة لانطلاقة جديدة: التكنولوجيا الصينية. ففي البداية كانت الصين تجلب الشركات ليس برأسمالها فقط ولكن بخبراتها الصناعية وتطورها التكنولوجي. وبدأ الصينيون في وقت مبكر، ليس فقط نقل التكنولوجيا وتوطينها لديهم فحسب وإنما تطويرها والابتكار فيها عبر التوسع في التعليم والتدريب وتشجيع الأعمال الناشئة.
من الأمثلة على ذلك شركة هواوي الصينية التي تقود نشر شبكة الجيل الخامس للاتصالات حول العالم، رغم الحرب الأميركية والغربية عليها. لكنها تركز أعمالها في الصين، التي بها حاليا ثلاثة أرباع محطات اتصال الجيل الخامس في العالم كله. وبالتالي فسرعة الإنترنت في الصين تفوق أضعاف ما لدى دول الغرب المتقدمة. كما أن الصين هي أكبر بلد في العالم حاليا يستخدم الروبوتات الذكية في الصناعة وكافة نشاطات الاقتصاد الأخرى.
لذا، فإن حديث المحللين الغربيين عن نهاية معجزة التصنيع في الصين استنادا إلى أرقام البطالة بين الشباب التي ترتفع في الصين لا يتسم بالدقة. صحيح أن العمالة الصناعية في الصين تراجعت بنحو عشرين في المئة في السنوات الأخيرة، لكن ذلك لا يعني تراجع التصنيع. بل على العكس، فتطوير آليات الإنتاج والنشاط لم يعد يتطلب عمالة كثيفة. نعم، ربما يخلق ذلك مشكلة مرحلية نتيجة تخريج الجامعات لعدد أكبر مما يحتاجه سوق العمل، لكن توسع الصين في علاقاتها الخارجية واستثماراتها في بلدان مختلفة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية يمكن أن يستوعب قدرا من قوة العمل الصينية الفائضة تلك دون التأثير على نمو النشاط في الصين ذاتها.
ذلك هو ما يقلق أميركا والغرب وتحديدا خشية أن تملك الصين قيادة التطور التكنولوجي في العالم. وليس الحديث عن عدم عدالة العلاقات الاقتصادية والتجارية أو احتمالات الإغراق وعدم شفافية المنافسة إلا شعارات سياسية للتغطية على الدافع الحقيقي وراء الضغط على بكين. ولعلنا نلاحظ أن كافة العقوبات والإجراءات ضد الصين من الإدارة الأميركية الحالية، وحتى من سابقتها برئاسة دونالد ترامب، تستهدف أساسا قطاع التكنولوجيا الصيني. فأغلب القرارات الأميركية ضد الصين، والتي تحاول إلزام حلفاء واشنطن بها، إما لتقييد شركات مثل هواوي حول العالم أو حظر الاستثمارات الأميركية في مجالات التكنولوجيا في الصين ومنها الذكاء الاصطناعي.
ذلك طبعا بالإضافة إلى دفع الشركات الأميركية والغربية إلى مغادرة الصين وإعادة أعمالها هناك إلى أميركا والغرب. وما الحديث عن ضرورة توسيع قواعد سلاسل التوريد كي لا يختنق الاقتصاد العالمي إذا أغلقت الصين اقتصادها كما حدث في أزمة وباء كورونا إلا تبريرا لوقف تقدم الصين. ويرى الأميركيون، معهم بعض الحلفاء الغربيين، أن الفرصة مواتية مع بدء انحدار منحنى المعجزة الاقتصادية الصينية. والأهم هو إجهاض أي محاولة صينية لانطلاقة نحو معجزة جديدة عنوانها التكنولوجيا.
يدرك الأميركيون والغرب أن العقوبات والقيود ربما لا تفلح وحدها في وقف أي انطلاقة صينية محتملة، حتى وإن أبطأت تطور وتقدم بكين. لذا يسعون إلى تشجيع مراكز بديلة تنافس الصين وتقلل من فرص احتكارها للريادة في المستقبل مثل فيتنام والهند. ولعل “التهليل” الأميركي والغربي للهند والتضخيم من إمكانياتها كي تصبح “الصين 2.0” يأتي في هذا السياق.
إلا أن هناك فارقا مهما يجب أن يؤخذ في الاعتبار. نعم يمكن للهند أن تطور قدراتها الاقتصادية وإمكانياتها التكنولوجية مستندة إلى استثمارات أجنبية مباشرة ونقل مراكز سلاسل توريد من الصين إليها، كما أن عدد سكانها يقارب عدد سكان الصين (فوق المليار نسمة). لكن من الصعب على من يبدأ الآن أن يتجاوز من بدء منذ نحو أربعة عقود.