سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. علي الدين هلال
تابع العالم على مدى الأسابيع الماضية المظاهرات المنددة بالتمييز العنصرى والتفرقة بين البشر على أساس اللون فى الولايات المُتحدة وعدد من دول العالم. وكان من مظاهرها الدعوة إلى إزالة التماثيل التى أُقيمت لتخليد ذكرى أفراد دافعوا عن العبودية أوبرروا الأفكار العُنصرية والتمييزية. فأحيانًا، حطم المتظاهرون هذه التماثيل. وأحيانًا أخري، لطخوها بالألوان والدهانات. وأحيانًا ثالثة، قامت السُلطات المسئولة باتخاذ قرار بنقل التمثال من مكانه وحفظه فى أحد المتاحف.
وإذا كانت ما قامت به تلك المُظاهرات والمسيرات تهدف إلى تصحيح التاريخ ومراجعته وفقا لقيم العدالة والمساواة والأخوة الإنسانية، فان هناك أخرى مناقضة لذلك تماما. وتذكرت ما حدث فى بلاد أخرى قريبة منا، عندما قامت الجماعات التكفيرية والمتطرفة بالعدوان على التاريخ، وذلك بتدمير آثار تاريخية تعتبر جزءا من تاريخ الحضارة الإنسانية وتراثها الدينى والثقافي. وشمل هذا العدوان آثار الحضارات القديمة السابقة على ظهور الأديان السماوية، وامتد ليشمل الآثار المسيحية والإسلامية. ويُمكن رصد هذه الاعمال فى كل مكان ترعرعت فيه تلك الجماعات، ومنها أفغانستان تحت حكم حركة طالبان، والعراق وسوريا فى فترة سيطرة تنظيم داعش الإرهابى على أجزاء من اقليمهما، و ليبيا ودول الساحل وغرب إفريقيا على يد تنظيمات داعش وبوكو حرام وأنصار الله. والأحداث محزنة ومريرة، وسوف أركز هنا على ما حدث فى أفغانستان والعراق وسوريا.
ففى أفغانستان، قامت طالبان فى 2001 بتدمير تمثالين أثريين لبوذا فى منطقة وادى باميان وسط أفغانستان شمال غرب العاصمة كابول. كان هذان التمثالان تحفة هندسية ومعمارية، فهما منحوتان على منحدرات جبلية ويرجع تاريخهما الى القرن السادس الميلادى فبنى التمثال الأصغر فى عام 507 والأكبر فى عام 554. تمت عملية التدمير تدريجيا منذ سيطرة طالبان على وادى باميان فى 1998. ففى العام نفسه تم تدمير رأسى التمثالين بحجة مخالفة الشريعة الإسلامية. وبعدها بعامين، قامت الحركة بتدمير التمثالين بالديناميت وأعقبه إطلاق مدافع الدبابات لقذائفها لتحطيم ما تبقى منهما، واستخدمت الألغام الأرضية لتدمير الجزء السفلى منهما.
وعندما ذاع خبر نية طالبان القيام بذلك، انتقدت المراجع و المؤسسات الإسلامية فى العالم هذا الإجراء. وفى مصر، اعترض عليه كل من شيخ الازهر والمفتي، وسعى الأزهر لإرسال وفد لإثناء قادة طالبان عن هذا العمل المنافى لمبادئ الإسلام وقيمه وشريعته. ولكنهم مضوا فى طريقهم غير عابئين بتلك الاعتراضات، وبلغ التطرف بزعيم الحركة الملا عمر إلى التصريح فى مارس 2001 بأنه يجب أن يكون المسلمون فخورين بتحطيم الأصنام، ويجب أن يحمدوا الله أننا قد دمرناها لهم.
وفى العراق، قام تنظيم داعش بتجريف آثار الحضارة الآشورية. ومنها تحطيم أجزاء كبيرة من جدار مدينة نينوى التى كانت عاصمة للدولة الاشورية فى بعض الفترات، وتمثال الثور المجنح الذى شيده الملك سرجون الثانى فى القرن الثامن قبل الميلاد، والموجود بمتحف الموصل. ووصل التدمير إلى مدينة نمرود التاريخية بالقرب من الموصل والتى تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وشمل العُدوان الكنائس والأضرحة المسيحية فتم تدمير دير مار إيليا وهو أقدم دير فى العراق. وامتد إلى المساجد والآثار الإسلامية، فدُمِر مسجد القبة الحسينية فى الموصل ومسجد سعد بن عقيل فى مدينة تلعفر، ومسجد الأربعين صحابى فى تكريت والذى بُنى على مقابر ضمت رفاة أربعين صحابيًا اُستشهدوا عام 11 هجريًا فى عهد الخليفة الثانى عمر بن الخطاب. كما قام التنظيم بتدمير العديد من المقابر والأضرحة التاريخية مثل مرقد الإمام عون الدين، حفيد الخليفة الرابع على بن أبى طالب الذى بُنى عام 646 هجريًا، والذى يعد أحد الآثار القليلة التى نجت من همجية الغزو المغولي، ومقبرتى النبى دانيال فى كركوك، والنبى يونس فى الموصل مع أن كل مقبرة كان قد أقيم عليها مسجد.
وفى سوريا، قام تنظيم داعش بهدم البوابة الآشورية القديمة فى مدينة الرقة، والتى تعود الى القرن الثامن قبل الميلاد، وتمثال حداتو وهو أحد آلهة الآراميين، وتدمير آثار مدينة تدمر التاريخية التى تعود إلى العصر الروماني، ففى عام 2015 هدموا معبد بيل، وفي2016 دمرواالرواق العظيم الذى يؤدى إلى قوس النصر الذى شُيد فى نهاية القرن الثانى الميلادي. واستخدمت داعش مكان مسرح تدمر القديم كساحة لإعدام مخالفيها فى الرأي. ودمرت معبد بعلشمين الكنعانى الذى شيد فى القرن الثانى قبل الميلاد، وتم تحويله إلى كنيسة فى القرن الخامس الميلادي.
أدانت منظمة اليونسكوهذه الأعمال لأن الآثار التى تم تدميرها تعتبر جزءا من التراث العالمى الذى ينبغى الحفاظ عليه. وجاء فى البيان الذى أصدرته إيرينا بوكوفا السكرتيرة العامة للمُنظمة تعليقا على تدمير آثار مدينة النمرود أنه لا يسعنا التزام الصمت. إن التدمير المتعمد للإرث الحضارى يعتبر جريمة حرب. وناشدت الزعماء السياسيين والدينيين فى منطقة الشرق الأوسط التصدى لهذه الأعمال البربرية.
وجدير بالذكر، أن الاثار المنهوبة من العراق وسوريا وجدت طريقها للبيع من خلال صفحات ومجموعات مغلقة على الفيس بوك. كما تم تهريبها من خلال تركيا لتظهر فى أحد مزادات بيع الآثار فى لندن وزيورخ وبعض المدن الألمانية. وكان عائد بيع الآثار أحد مصادر تمويل داعش والتنظيمات الإرهابية فى المنطقة العربية.
وشتان بين ما تنادى به مظاهرات حياة السود مهمة والتى تسعى إلى رفع الظلم التاريخى الذى وقع عليهم، وجرائم التنظيمات التكفيرية المتطرفة التى دمرت جزءا من التاريخ الثقافى والحضارى للبشرية باسم دعاوى ضالة ومنحرفة. الأول، يدعو الى التقارب والتآخى بين كل البشر بغض النظر عن الاختلافات بينهم فى اللون والعرق والدين. والثاني، يؤكد مشاعر عدم التسامح والتعصب والعنف وعدم قبول الآخر المختلف.
فسبحان الله
المصدر: صحيفة الأهرام
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر