أطاحت الصين بالولايات المتحدة وتبوأت المرتبة الأولى كأكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي خلال عام 2020، في ضوء زيادة صادرات التكتل للصين بنحو 2.2% ومع ارتفاع الواردات منها بحوالي 5.6%، وذلك بالتوازي مع انخفاض حجم تجارة الاتحاد مع الولايات المتحدة بضغطٍ من انخفاض كلٍ من الصادرات بحوالي 8.2% والواردات بحوالي 13.2%. وقد تضافرت العديد من العوامل لتصب في مصلحة حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي وثاني أكبر اقتصاد في العالم، من أبرزها: إضرار فيروس كورونا بالاقتصاد الأميركي خلال 2020 مقابل تسجيل نظيره الصيني تعافيًا سريعًا، فضلًا عن حدوث عدة تطورات على صعيد العلاقات الثنائية بين كلٍ من الاتحاد الأوروبي والصين والولايات المتحدة. وفي ضوء ما سبق، يحاول المقال رصد تلك التطورات وتحليل أسباب نمو العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والصين مقابل تراجعها مع الولايات المتحدة.
عصف فيروس كورونا بالاقتصاد العالمي بسبب الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الدول من أجل إبطاء وتيرة انتشار الفيروس، وهو ما ترتب عليه إغلاق حدود الدول وتعطيل حركة التجارة العالمية، وتوقف حركة الطيران والسفر، وكان تأثير الوباء عميقًا في الولايات المتحدة الأميركية، حيث انكمش أكبر اقتصاد في العالم خلال 2020 للمرة الأولى منذ الأزمة المالية بنحو 3.5% على أساس سنوي، في حين يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الأميركي بحوالي 5.1% خلال العام الجاري 2021. أما عن التجارة الخارجية، فيُمكن عرضها على النحو الآتي:
الشكل (1): تطور حجم التجارة الخارجية الأميركية (مليار دولار)
Source: us bureau of economic analysis, Trade in Goods and Services.
يتبين من الشكل السابق تراجع حجم الواردات الأميركية خلال 2020 إلى 2.811 تريليون دولار مقارنة مع 3.105 تريليون دولار خلال 2019، وهو ما يمثل تراجعًا بنحو 9.46% على أساس سنوي، كما هبطت الصادرات الأميركية بحوالي 15.66% على أساس سنوي مسجلة نحو 2.132 تريليون دولار بحلول نهاية العام الماضي مقابل 2.528 تريليون دولار.
وقد انعكس هذا التراجع على عجز الميزان التجاري الذي ارتفع بنسبة 17.6% إلى 679 مليار دولار (أعلى مستوى في 12 عامًا) بسبب تراجع الصادرات بنسبة أكبر من تراجع الواردات.
وقد حدث النقيض بالنسبة للصين التي شهدت نموًا بنحو 2.3% على أساس سنوي خلال 2020، على الرغم من تأثير الوباء على تراجع الإنتاج في أوائل العام الماضي. وعن بيانات التجارة الخارجية، نجد أنها قد ارتفعت بنحو 1.5% إلى 4.65 تريليون دولار، حيث صعدت الصادرات إلى 2.59 تريليون دولار بنسبة نمو بلغت 3.6% على أساس سنوي، بينما انخفضت الواردات بنسبة 1.1% لتصل إلى 2.06 تريليون دولار. ودعم التوسع المستمر في الصادرات الفائض التجاري الصيني ليرتفع إلى أعلى مستوياته منذ عام 2015، كما يتضح من الشكل التالي:
الشكل (2): الفائض التجاري الصيني (مليار دولار)
Source: the General Administration of Customs (GAC) &Statista, trade balance in China.
من الشكل السابق يُمكن القول إن الفائض التجاري الصيني قفز إلى 535 مليار دولار خلال العام الماضي، مرتفعًا بنحو 27% على أساس سنوي مقارنة مع حوالي 422 مليار دولار في 2019.
اتسمت فترة حكم الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترمب” بقيام العديد من الحروب التجارية وفَرْض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من عشرات الدول حول العالم. ويُمكن رصد أبرز التوترات التجارية التي قادها “ترمب” كما يلي:
أ. الحرب مع الاتحاد الأوروبي:
احتدم الصراع التجاري بين الولايات المتحدة وأوروبا منذ تولي الرئيس “ترمب” الحكم، حيث اتجه إلى فرض رسوم جمركية عقابية على واردات الصلب والألمنيوم من أوروبا، مستهدفًا ألمانيا وصادراتها من السيارات، وكذلك فرنسا وصادراتها من النبيذ والأجبان.
وفي مارس 2020، فرضت واشنطن تعريفات جمركية بنسبة 25% على منتجات الاتحاد الأوروبي من النبيذ والأجبان وزيت الزيتون، و15% على طائرات “إيرباص”، كما أعلنت أواخر ديسمبر العام الماضي فرض رسوم جمركية إضافية على منتجات فرنسية وألمانية على خلفية النزاع المستمر حول الدعم الذي يتم تقديمه للشركة الأوروبية لصناعة الطائرات “إيرباص”، ويعتبر هذا القرار هو الأحدث في الخلاف التجاري بين الطرفين منذ عام 2004 بسبب اتّهامات متبادلة بدعم صناعة الطائرات خارج إِطار القواعد القانونية، حيث اتهمت واشنطن كلا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأيضًا إسبانيا بمنح إعانات غير قانونية لدعم إنتاج طائرات “إيرباص”.
ومن الناحية الأوروبية، فرض الاتحاد الأوروبي في نوفمبر 2020 رسومًا جمركية على واردات بنحو 4 مليارات دولار من الولايات المتحدة بعد الحصول على موافقة من منظمة التجارة العالمية ردًا على دعم واشنطن شركة “بوينج” لصناعة الطائرات، وكانت أوروبا قد أعلنت عن فرض ضريبة رقمية على الشركات التكنولوجية، لا سيما الأميركية مثل “جوجل” و”فيسبوك” و”آبل” مما قد يُدر إيرادات سنوية تصل إلى 5 مليارات دولار، ولهذا أطلقت الإدارة الأميركية تهديدات باتخاذ إجراءات عقابية إذا اتخذ الاتحاد الأوروبي هذه الخطوة. أما عن تطور التبادل التجاري بين الطرفين، فيُمكن عرضه على النحو الآتي:
الشكل (3): التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (مليار يورو)
Source: Eurostat, USA-EU – international trade statistics.
يتبين من الشكل السابق انخفاض حجم التجارة الأميركية-الأوروبية بنحو 61.1 مليار يورو من 616.1 مليار يورو خلال عام 2019 وصولًا إلى 555 مليار يورو بنهاية العام الماضي، وذلك بسبب تراجع كلٍ من الصادرات والواردات المتبادلة بينهما خلال 2020، وهو ما انعكس على فائض الميزان التجاري بين الجانبين –الذي يصب لصالح الاتحاد الأوروبي- مسجلًا 150.9 مليار يورو.
ب. الحرب مع الصين:
وقع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض على المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري مع الصين في مطلع 2020 عقب استمرار الحرب التجارية بينهما على مدار عامين متتاليين. وبموجب الاتفاقية، تلتزم الصين بزيادة وارداتها من الولايات المتحدة خلال الفترة 2020-2022 بمقدار 76.7 مليار دولار في العام الأول، و123.3 مليار دولار في العام الثاني، لتسجل 200 مليار دولار بحلول نهاية العام الثالث.
وعلى الرغم من التوصل لتلك الاتفاقية إلا أن وتيرة التوترات التجارية بين الطرفين لم تهدأ خلال العام الماضي، حيث هدد في أغسطس الماضي بسحب عقود الحكومة من الشركات التي تواصل أعمالها في الصين، كما وقع في نوفمبر مرسومًا يقضي بمنع مواطنيه من الاستثمار في مجموعات صينية تتهمها الإدارة الأميركية بدعم النشاطات العسكرية لبكين، وجاء ذلك عقب إصدار بكين أكتوبر الماضي قانونًا جديدًا يقيد الصادرات الحساسة بهدف حماية الأمن القومي. ولم تقتصر الحرب على التوترات التجارية فحسب، بل امتدت لتشمل حروبًا تكنولوجية تمثلت بالأساس في استهداف عدد من عمالقة التكنولوجيا الصينية مثل “هواوي” و”شاومي” و”SMIC”. ومن الممكن بيان أثر الحرب الأميركية-الصينية على حجم التبادل التجاري بينهما من الشكل التالي:
الشكل (4): التبادل التجاري الأميركي-الصيني (مليار دولار)
Source: United States Census Bureau.
من الشكل السابق يتبين انخفاض الواردات الأميركية من الصين بنحو 3.6% من 451.65 مليار دولار خلال 2019 إلى 435.45 مليار دولار خلال 2020، بالتوازي مع ارتفاع صادراتها بنسبة 17.1% خلال الفترة نفسها، مسجلة 124.6 مليار دولار خلال العام المنصرم.
توصَّل الاتحاد الأوروبيّ والصين في الثلاثين من ديسمبر 2020 إلى اتفاق استثماريّ “مبدئي” واسع النطاق بعد 7 سنوات من المفاوضات، وتتضمن الاتفاقية تقديم ضمانات تسهل الإجراءات الإدارية الكاملة أمام الشركات الأوروبية، ومن أهمها الحصول على التراخيص اللازمة للاستثمار في الصين. والتزمت الصين توفير مستوى غير مسبوق من الوصول إلى الأسواق المحلية لمستثمري الاتحاد، مع ضمان توفير معاملة عادلة للشركات الأوروبية حتى تتمكّن من المنافسة. ومن المتوقع أن تفتح هذه الاتفاقية مساحة كبيرة للشركات الأوروبية والصينية لتوسيع أعمالها في أسواق بعضها بعضًا، حيث من المنتظر أن توفر هذه الاتفاقية للشركات الأوروبية فرصًا استثمارية ضخمة في الصين.
وتأتي هذه الاتفاقية في ظل الإدراك الأوروبي بأن الاتفاقية تمنح اقتصاد القارة دفعة كبيرة نحو أكبر الأسواق وأكثرها نموًا في العالم، بالتزامن مع سعي الصين إلى جذب الأوروبيين في ضوء استمرار حربها التجارية مع الولايات المتحدة.
Source: Eurostat, China-EU – international trade statistics.
يتبين من الشكل السابق ارتفاع حجم التجارة الصينية-الأوروبية بنحو 26.4 مليار يورو من 559.6 مليار يورو خلال عام 2019 وصولًا إلى 586 مليار يورو بنهاية العام الماضي، وذلك بارتفاع كلٍ من الصادرات والواردات المتبادلة بينهما خلال 2020. وارتفعت صادرات الاتحاد الأوروبي للصين بنحو 2.1% في حين صعدت قيمة الواردات بحوالي 6.14%، ولذلك ارتفعت قيمة العجز التجاري الأوروبي إلى 181 مليار يورو.
أخيرًا، يُمكن تلخيص عوامل زيادة حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي في ثلاثة عوامل رئيسية، الأول: تراجع الصادرات الصينية للولايات المتحدة بسبب الاتفاق التجاري مما ساهم في توجيه جزء من هذه الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي. الثاني: الخلاف التجاري بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مما ساعد على اتجاه الأول لتعزيز علاقاته الاقتصادية مع الصين. الثالث: تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، مما أسفر عن انخفاض تجارة الولايات المتحدة العالمية وازدهار نظيرتها في الصين التي استطاعت تجاوز تداعيات الجائحة بشكل سريع.