التغير المناخي والوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية: نظرة عامة | مركز سمت للدراسات

التغير المناخي والوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية: نظرة عامة

التاريخ والوقت : الإثنين, 26 فبراير 2018

نظمي الخميس

1 – مقدمة
أصبح تأطير العلاقة بين التغير المناخي وكلٍّ من الوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية من الأمور المستجدة، التي تشغل بال العلماء وصنَّاع القرار حول العالم، فلم يبدأ الاهتمام بالتغير المناخي، إلا في العقود الأربعة الأخيرة. مع ذلك، ما زال الإطار العلمي للتغير المناخي، غير واضح بشكل جلي وواضح لكثير من المتابعين والمهتمين بهذا الشأن. إن الجانب الأهم في هذا الموضوع، هو حل المعضلة التالية: يمثل استخدام الوقود الأحفوري (النفط والغاز الطبيعي والفحم الحجري)، معضلة حقيقية، فهو من جهة، لا غنى عنه للتنمية الاقتصادية في الدول النامية، ولا غنى عنه، كذلك، للمحافظة على التقدم الاقتصادي في الدول المتقدمة، كأفضل مصدر اقتصادي وموثوق وعملي للطاقة. ومن جهة أخرى، فإن استخدامه في مجال الطاقة، يساهم إلى حد كبير في زيادة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، التي تؤدي إلى التغير المناخي وإضعاف قدرة الأرض على توفير متطلبات الحياة كالماء، والغذاء، والصحة، والأرض الصالحة للعيش، كما ألفناها في الماضي.
إن تقييد التنمية الاقتصادية، أو النمو الاقتصادي، ليس خيارًا مطروحًا لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، فعندها لا يكون التحول من استخدام الوقود الأحفوري إلى البدائل الأخرى، ذات التكلفة الاستخدام العالية وغير العملية في كثير من التطبيقات، هو الحل الوحيد. إن البديل العملي لخفض الانبعاثات الصادرة من استخدام الوقود الأحفوري، يتأتى من المزج بين خمس طرق: تقنين وترشيد الطلب على الطاقة، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة، واستخدام تكنولوجيات منخفضة استهلاك الطاقة، واستخدام تكنولوجيات الانبعاثات السلبية التي تلتقط غاز ثاني أكسيد الكربون وتحجزه، واستخدام بدائل للوقود الأحفوري. وتلعب التكنولوجيا دورًا محوريًا في التحول إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات الكربونية، فمزيج الطرق الذي يساهم في خفض الانبعاثات، يعتمد تصميمه بشكل كبير على ابتكار تكنولوجيات جديدة.
يُفترض بأسواق الطاقة، إدراك العلاقة بين التغير المناخي والوقود الأحفوري، إلا أنه لم تظهر، إلى الآن، علاقة سببية واضحة بين التغير المناخي وأسواق النفط، ولكنها بدأت تظهر جلية في أسواق الفحم الحجري والغاز الطبيعي. في هذه المقالة أحاول أن أؤطر العلاقة بين التغير المناخي، وكلٍّ من الوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية.


2 – كيف بدا الاهتمام بالتغير المناخي
كان جوزيف فوريير، العالم الرياضي والفيزيائي الفرنسي الشهير، أول من اكتشف وشرح ظاهرة الاحتباس الحراري، وذلك في عام 1827 عندما قارن تسخين الغلاف الجوي لسطح الأرض بتسخين إناء زجاجي مغلق من الأسفل. وفي عام 1861، كتب العالم السويسري جون تندال، دورية علمية شرح فيها امتصاصية وإشعاع كلٍّ من الغازات والأبخرة للحرارة، ووصفه للغلاف الجوي المحتوي على الغازات الدفيئة “كسد مبني على نهر”، وذلك لاحتجازه الحرارة بينه وبين سطح الأرض، وذلك أثناء دراسته للأنهار الثلجية في جبال الألب.
من الطريف، الإشارة إلى أن فريق علماء عملاق النفط والغاز “إكسون”، كانوا سببًا مباشرًا في تجدد الاهتمام بالتغير المناخي، إلا أنه لم يكن الهدف من الأبحاث واضحًا إلى الآن. لكنَّه كان يتضمن جمع عينات من المحيطات والغلاف الجوي لدراسة تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون خلال فترة زمنية ما. واستنتج الفريق العلمي من هذه الأبحاث، من خلال زيادة تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في هذه الفترة الزمنية، أن الإنسان يؤثر في المناخ عن طريق زيادة انبعاثات هذا الغاز الناتجة من النشاط الاقتصادي البشري. هذا ما صرح به رئيس فريق العلماء جيمس بلاك، أمام لجنة إدارية لشركة “إكسون” في عام 1977، ونشرها في دورية علمية. ولكن لم تنل هذه الدراسة الاهتمام في حينها.
بدأ الاهتمام الفعلي بالتغير المناخي، عندما قامت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، بإنشاء وحدة دراسة المناخ، وعينت على رأسها عالم المناخ الأبرز جيمس هانسون، في الثمانينيات من القرن المنصرم. ومن الدراسات التي أدت إلى فهم أعمق للتغير المناخي، دراسة شارك في إعدادها بالمشاركة مع كاتب آخر، تقوم على دراسة متوسط درجات حرارة سطح الأرض بين عامي 1880 و1985، واستنتجا من خلالها، أن هذا المتوسط ارتفع بمعدل بين 0.5-0.7 درجة مئوية خلال فترة دراسة العينات العلمية. وفي يونيو 1988، صدم جيمس هانسون، العالم بحديثه للجنة استماع في الكونجرس الأميركي، وكان متلفزًا للجمهور أيضًا، عندما بين أن درجة حرارة سطح الكرة الأرضية تزداد نتيجة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الناتجة من النشاط البشري، وربط هذه الزيادة علميًا بظاهرة الاحتباس الحراري. وفي نوفمبر 1988، بدأ الاهتمام العالمي بالتغير المناخي، عندما قامت مجموعة من علماء المناخ من جميع أنحاء العالم، في جنيف في سويسرا، بإنشاء “الهيئة الحكومية للتغير المناخي” كهيئة مستقلة تعنى بتقديم المشورة للحكومات وصنَّاع القرار، وكذلك بدراسة الأسس العلمية للعلاقة بين تسخين كوكب الأرض، وظاهرة الاحتباس الحراري، ودراسة الآثار الاقتصادية المحتملة لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة. وفي أكتوبر1990، أعدت هذه الهيئة تقريرها الأول للأمم المتحدة، مجيبة فيه عن السؤال الأهم: هل تسخن الكرة الأرضية بفعل النشاط البشري؟ في قمة الأرض في “ريو دي جينيرو” عام 1992، تمَّ إقرار إنشاء “مؤتمر الأمم المتحدة الإطاري للتغير المناخي” الذي يعنى بتنسيق الجهود الدولية لاستقرار تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي.
من جهة أخرى، وفي عام 1991 كتب عالم المحيطات الشهير روجر ريفيلي، دورية علمية مشتركة، مع الفيزيائي فرد سنغر، والمهندس الكهربائي جانسي ستار، عنوانها “ماذا يجب أن نفعل إزاء تسخين الأرض: انظر قبل أن تقفز”، حذروا فيها من الآثار الاقتصادية العميقة لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، وأن الخطوات أحادية الجانب قد تؤدي إلى التباطؤ الاقتصادي وخسارة كثير من الوظائف، وسوف يكون المتضرر الأكبر هو الدول النامية، وأن الأساس العلمي لتسخين الأرض غير مؤكد، وأن الانتظار للتأكيد العلمي مبرر، فلا مخاطرة من الانتظار وعدم خفض الانبعاثات في الوقت الراهن. جاء هذا، على الرغم من نظرية روجر ريفيلي، عن زيادة امتصاص المحيطات لغاز ثاني أكسيد الكربون، نتيجة للنشاط البشري، وهو الدارس البارز لظاهرة الاحتباس الحراري طوال حياته العلمية. إن أهمية هذه الدراسة، تكمن في وصف العلاقة بين التغير المناخي والوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية. وفي عام 1992، قام أل غور، نائب الرئيس الأميركي الأسبق، بالرد عليها، وأن الأساس العلمي للربط بين تسخين كوكب الأرض وظاهرة الاحتباس الحراري متين.
3 – الإطار العلمي لظاهرة التغير المناخي
لكي نصل إلى تعريف علمي للتغير المناخي، لا بدَّ من التعريف بكلٍّ من المناخ والطقس. المناخ هو وصف لأربعة عناصر والتأثير المتبادل فيما بينها، وهي: الغلاف الجوي، والمحيطات، وسطح الأرض، والتكتلات الثلجية الكبيرة. أمَّا الطقس، فهو حالة الغلاف الجوي بظروفها الطارئة في منطقة جغرافية ما لفترة زمنية تتراوح بين ساعات إلى أسابيع من حيث: درجة الحرارة، والرطوبة، وسرعة الرياح واتجاهها، وسقوط الأمطار أو الثلوج. ويعرف التغير المناخي على أنه مجمل التغيرات الشاذة في ظروف الطقس الناتجة من تغير ظروف عناصر المناخ الأربعة والتأثير المتبادل فيما بينها لفترة زمنية تتجاوز العقود من الزمن. وقد يحدث التغير المناخي، نتيجة لأسباب طبيعية كتغير شدة الإشعاع القادم من المصدر، أو الشمس، أو البراكين ذات النفث الكبير والمتواصل للحمم والرماد البركانيين، وقد يحدث نتيجة لتغير التركيب الكيميائي للغلاف الجوي بزيادة تركيز الغازات الدفيئة كنتيجة للأنشطة البشرية التي تتسبب في تعزيز ظاهرة الاحتباس الحراري. ويعتقد على نطاق واسع بأن التغييرات المناخية الجلية والمتسارعة الحدوث، منذ بداية النصف الثاني من القرن المنصرم، هي محصلة مباشرة لتعزز ظاهرة الاحتباس الحراري كنتيجة لزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة الصادرة من الأنشطة البشرية منذ بداية الثورة الصناعية، وبدرجة أقل تقلص الغطاء النباتي.
ظاهرة الاحتباس الحراري، هي ظاهرة طبيعية، حيث تحافظ على أن يكون معدل درجة حرارة الكرة الأرضية، أكثر ارتفاعًا بنحو 30 درجة مئوية عن المستوى في حال انعدام الغازات الدفيئة من الغلاف الجوي، مما يجعل جو الأرض، في المجمل، ملائمًا للحياة على سطحها. وتنبعث الغازات الدفيئة، وهي غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروجين، بالإضافة إلى غازات ذات تأثير محدود كبخار الماء والكلوروفلوروكربون، بشكل طبيعي من سطح الأرض، كنتيجة للعمليات الطبيعية وضمن الدورة الطبيعية لكل غاز، إلى الغلاف الجوي لتمكث فترات متفاوتة، بحسب نوعية الغاز. ويمكث غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، بشكل طبيعي، فترة تتراوح بين 5 سنوات إلى 200 سنة، وغاز الميثان حوالي 12 سنة، وغاز أكسيد النيتروجين حوالي 114 سنة، ولكل منها فعالية لحبس الضوء مختلفة، ففعالية غاز الميثان تتراوح بين 28-36 مرة لكل 100 سنة أكثر من غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي يستخدم كمعيار. وأمَّا غاز أكسيد النيتروجين، فتتراوح بين 265-298 مرة، وأيضًا هنالك قدرة معينة لسطح الأرض من الغطاء النباتي والتربة والمحيطات على امتصاص هذه الغازات. وتتكون ظاهرة الاحتباس الحراري كنتيجة للعملية الفيزيائية التي تحبس بها الغازات الدفيئة، جزءًا معينًا من ضوء الشمس، ذي الطول الموجي القصير، الساقط على سطح الأرض والمنعكس منه، بينما يخترق الجزء المتبقي الغلاف الجوي إلى الفضاء الخارجي. إن احتباس هذا الجزء من ضوء الشمس، يؤدي إلى ارتفاع معدل درجة حرارة سطح الكرة الأرضية. لقد تكيفت الكائنات الحية، بما فيها الإنسان، مع ارتفاع معين لدرجات الحرارة، نتيجة التركيز الطبيعي للغازات الدفيئة في الغلاف الجوي.
إن زيادة تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي على التركيز الطبيعي، يؤدي إلى تغير الصفات الفيزيائية والكيميائية للمحيطات، وسطح الأرض، والتكتلات الثلجية الكبيرة، والتأثيرات التبادلية فيما بينها، ويؤدي بالنتيجة إلى تغيرات شاذة في ظروف الطقس. والتأثيرات التبادلية تنتج من أن التأثيرات الأولية في عناصر المناخ، تثير إمَّا تضخيمًا، أو تحجيمًا للتأثيرات فيما بينها، أو ما يسمى بالتأثيرات الارتدادية، فعندما يتضخم يكون التأثر الارتدادي إيجابيًا، وعندما يتقلص يكون التأثر الارتدادي سلبيًا، وقد يوجدان معًا، وينتهي تأثيرهما بالوصول إلى نقطة توازن، تكون افتراضية على العموم لتواصل تغير الصفات والتأثيرات الارتدادية على المدى الزمني للدراسة. إن دراسة التأثيرات الارتدادية من الأمور الأساسية في علم المناخ، ولكنها من الأمور الصعبة والمعقدة في نفس الوقت. ومن الأمثلة المهمة على التأثيرات الارتدادية، زيادة تبخر مياه المحيطات، نتيجة لارتفاع معدل درجة الحرارة على سطح الكرة الأرضية، فمن جهة تؤدي زيادة التبخر إلى زيادة تركيز بخار الماء، الذي يعتبر من الغازات الدفيئة، في الغلاف الجوي ما يساهم في ارتفاع معدل درجة الحرارة. ومن جهة أخرى، تؤدي زيادة التبخر بشكل كبير إلى تكوين السحب، ربما في مكان آخر، التي تحجب أشعة الشمس عن أجزاء من المحيطات وتقلل التبخر، وإن بدرجة مختلفة عن زيادة التبخر. إن محدودية قدرتنا على نمذجة مثل هذه التأثيرات وتأطيرها ضمن التغير المناخي، تساهم في الحد من قدرتنا على فهم الآثار السلبية له، وتجعلنا غير متيقنين بدرجة كافية ببرنامج تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة. ومن الصعوبات التي تحد من إدراكنا لهذه الآثار وتزيد حالة عدم اليقين، بطء استجابة عناصر المناخ لزيادة تركيز الغازات الدفيئة وارتفاع معدل درجة الحرارة، وكذلك مقاومتها للتغير، مما يترتب على ذلك تأجيل لاستجابة وتفاعل كلٍّ من النظامين البيئي والاقتصادي.
يشكل غاز ثاني أكسيد الكربون – حاليًا – حوالي 70% من تركيز الغازات الدفيئة، وهو الغاز الأكثر انبعاثًا ونموًا، نتيجة النمو في استخدام الوقود الأحفوري، وبسبب ذلك وامتلاكه لكل من خاصيتي الدفيئة والمكوث لفترة طويلة في الغلاف الجوي، يعتبر الغاز الأكثر تسببًا في التغير المناخي. ولهذا الغاز دورة طبيعية، يتم فيها تبادل الغاز بين الغلاف الجوي، وكلٍّ من الغطاء النباتي، والتربة الأرضية، وأيضًا المحيطات. إن زيادة تركيز هذا الغاز في الغلاف الجوي كنتيجة للنشاط البشري، وخصوصًا استخدام الوقود الأحفوري، يؤدي إلى اختلال في دورته الطبيعية، فلا يستطيع كلٌّ من الغطاء النباتي، والتربة الأرضية، والمحيطات، امتصاص الكمية الفائضة في الغلاف الجوي، فيمكث حتى يتحلل كيميائيًا لفترة قد تصل إلى 200 سنة، كما أُشير سابقًا. وجدير بالذكر، يقلل ارتفاع متوسط درجة الحرارة سطح الأرض، قدرة التربة الأرضية والمحيطات على امتصاص الغاز فيما يعد مثالاً للتأثر الارتدادي الإيجابي، بالإضافة إلى زيادة نسبة الحموضة في كليهما مما يجعلهما أقل ملاءمة للكائنات الحية ذات القدرة المحدودة على التكيف.
مما يجعل التغير المناخي أمرًا ملحًا، بشكل كبير، على الأجندة الدولية، هو أن بعض النتائج السلبية، إمَّا أن تكون غير قابلة للرجوع للحالة العادية، أو أنها قد تستغرق زمنًا طويلاً للرجوع. ويعمل المجتمع الدولي على تجنب الوصول إلى أن يكون مجموع هذه النتائج لا يؤثر سلبًا في الحياة على كوكب الأرض بشكل يهدد الوجود البشري بشكل خاص، والتنوع البيئي بشكل عام، أو ما يطلق عليه بنقطة اللاعودة. من جهة أخرى، ما زال هناك خلاف يستقطب المجتمع الدولي عن ماهية نقطة اللاعودة، وعن مبدأ التكيف مع الظروف المستجدة، أو تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة من النشاط البشري.


4 – النتائج المباشرة لارتفاع متوسط درجة حرارة سطح الأرض
من الممكن تلخيص الآثار السلبية لارتفاع متوسط درجة حرارة سطح الأرض، الذي يؤدي إلى تغير المناخ، في إضعاف قدرة الأرض على توفير متطلبات الحياة كالماء والغذاء، والصحة، والأرض الصالحة للعيش، كما ألفناها في الماضي. إن حجم وطبيعة النتائج المباشرة المستقبلية للتغير المناخي، يعتمدان على التفاعل التبادلي المباشر بين عناصر المناخ، الذي يعتمد بدوره على كلٍّ من التركيز الحالي للغازات الدفيئة وفعالية احتباسها للحرارة، ونمو أو انحسار الانبعاثات، والزمن والتركيز، الذي تصل فيه الغازات الدفيئة مداها الأقصى، وبالطبع ماهية وقوة التأثيرات الارتدادية. إن متوسط ارتفاع درجة سطح الأرض، يعد مؤشرًا مقبولاً لحد ما، للآثار السلبية للتغير المناخي المحدقة بقدرة الأرض على توفير متطلبات الحياة. وهنا لا بدَّ من التشديد على أننا نتحدث عن متوسط ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض، فربَّما لا تتغير درجة الحرارة في مكان ما، وقد تزيد في أماكن أخرى بأكثر من المعدل، ولكن في المحصلة يزيد متوسط ارتفاع درجة الحرارة.
كما ذكر آنفًا، فإن التفاعل التبادلي المباشر بين عناصر المناخ، يشكل حجم التغير المناخي وطبيعته. وعندما يزيد متوسط ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض، تذوب التكتلات الثلجية الضخمة، والثلوج على سفوح الجبال، وتنحسر الثلوج في البحار، مما يؤدي إلى زيادة مستوى البحر إلى اليابسة؛ مما يتسبب في سيول عارمة، وتآكل لليابسة، خصوصًا عند السواحل، وبالتالي زيادة الغطاء المائي المالح. فمثلاً، تشير صور الأقمار الصناعية إلى انحسار حجم التكتلات الثلجية الضخمة في جرين لاند، والتي تكونت على مدى آلاف السنوات، بنسبة 30% بين عامي 1979 و2006، حيث زاد معدل ذوبان الجليد على معدل التكوين بفعل ارتفاع درجة الحرارة بمعدل 2.5 درجة مئوية. كما زاد مستوى البحر حوالي 10 سنتيمترات في الفترة بين عامي 1993 و2013، أي بنمو قدره 0.5 سنتيمتر/ العام، ومن المتوقع أن يتسارع هذا النمو ليؤدي إلى ارتفاع بحوالي مترين عن المستوى الطبيعي بنهاية القرن الحالي إذا استمر نمو انبعاثات الغازات الدفيئة عند مستواها الحالي، حيث ستغرق معظم المدن الساحلية حول العالم.
إن زيادة تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، بالتزامن مع ارتفاع درجة الحرارة، تؤدي إلى زيادة امتصاص المحيطات لهذا الغاز، وإن 30% إلى 40% تقريبًا يتم امتصاصه عن طريق المحيطات، وهو ما ينتج عنه زيادة حموضة مياه المحيطات وقلة نسبة الأوكسجين فيها. إن زيادة حموضة المياه تؤدي إلى زيادة قابلية تآكل الكائنات الحية التي تحتوي على كربونات الكالسيوم والمعرضة مباشرة للمياه كالأصداف البحرية والمرجان. ومن الجهة المقابلة، تؤدي زيادة تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون إلى زيادة التمثيل الضوئي في النباتات البحرية. ولكن بحساب الفوائد والمضار، يبدو أن التغير المناخي، سيؤدي إلى اختلال كبير في التنوع البيولوجي للمحيطات، وتهديد كبير للسلاسل الغذائية لمعظم الكائنات البحرية.
ومن النتائج المباشرة لارتفاع درجة الحرارة، إثارة أحوال طقسية بالغة الحدة على مستوى المناطق الجغرافية، كزيادة حدة الرياح الموسمية، وتعاظم ظاهرة النينو؛ حيث أصبحت ظواهر كالأعاصير تُحث بشكل أكثر حدة وبوتيرة أكبر. أيضًا، من هذه الأحوال، زيادة درجة الحرارة عن الوضع المألوف؛ مما يتسبب في وفيات بشرية في بعض المناطق، وكذلك تغير وتيرة وكمية الأمطار من منطقة إلى أخرى، إذ إن انحسار الأمطار في مناطق معينة، يتسبب في الجفاف، وضعف المحاصيل الزراعية، وحرائق الغابات، أو زيادة الأمطار التي قد تتسبب في السيول العارمة والوفيات.
من جهة أخرى، سوف يؤدي التغير المناخي إلى تأثر النشاط البشري الاقتصادي والاجتماعي. إذ إن الأنشطة الزراعية، والسياحية، والصناعية مثلاً، التي تعتمد على توفر المياه، سوف تتأثر إلى حد كبير. وتشير الدراسات الاقتصادية والاجتماعية إلى احتمال كبير، بأن يؤدي التغير المناخي إلى إثارة أحداث مأساوية في المناطق المتضررة، كتفشي المجاعة والأمراض والفقر والحروب المناطقية، وإلى هجرات سكانية إلى المناطق الأقل تضررًا، من الأرياف إلى المدن تحديدًا، مما يجعل نظام الأمن الوطني والإقليمي والدولي أكثر هشاشة وعرضة للفوضى والاضطرابات.
5 – الحل: استقرار تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى ما قبل الثورة الصناعية
الحل لتجنب مواجهة الوصول إلى نقطة اللاعودة، بسبب التغير المناخي، يكمن في إيجاد برنامج من انبعاثات الغازات الدفيئة يؤدي إلى تقليصها بشكل متدرج، ومن ثم استقرار تركيزها في الغلاف الجوي عند مستوى ما قبل الثورة الصناعية، والأخذ بالحسبان، قدرة الأرض على امتصاص الغازات الدفيئة ومدة مكوثها في الغلاف الجوي. ويمكن تشبيه هذه العملية بمحاولتنا ملء حوض بسائل عند مستوى معين، وبإمكانية وجود مخرج للسائل في الحوض الذي يخرج الماء بمعدل ثابت. الحالة الأولية، هي أن مستوى السائل في الحوض أعلى من المستوى المطلوب، وما نستطيع عمله هو تغيير معدل ضخ السائل للحوض ببرنامج ما، بالتأكيد أقل من معدل الإخراج، بحيث يصل مستوى السائل في الحوض إلى المستوى المطلوب.
يعتقد علماء المناخ بإمكانية استقرار تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى 280 جزءًا من المليون، في نهاية القرن الحالي، أي عند مستوى ما قبل الثورة الصناعية، إذا ما تمَّ ذلك وفق برنامج صارم لخفض الانبعاثات، وهو البرنامج الأقل كلفة ويوازن بين كلٍّ من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويعتقد علماء المناخ بأن نقطة اللاعودة، هي ألا يتجاوز ارتفاع متوسط درجة حرارة سطح الأرض، درجتين مئويتين، بحيث يصل تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى 450 جزءًا من المليون عند منتصف القرن، عن طريق خفض نمو الانبعاثات من مستوى 2.7 جزء من المليون/ العام تدريجيًا من مستوى 42 جيجا طن/ العام (مستوى عام 2015)، بحيث يبلغ المستوى مداه في العقد القادم. ويشدد علماء المناخ على عدم تجاوز تركيز 450 جزءًا من المليون عند منتصف القرن لتجنب نتائج لا يُحمد عقباها. ويتطلب هذا، خفض الانبعاثات بمعدل 4%-7%/ العام من مستوى الانبعاثات بعد عام 2050. إن تأخير هذا البرنامج، سيتطلب خفض الانبعاثات بمعدل أكبر بسبب ضعف امتصاصية المحيطات والتربة كلما زاد متوسط درجة حرارة سطح الأرض على درجتين مئويتين.
لن يحقق هذا البرنامج هدفه في خفض الانبعاثات والتكيف مع آثارها، دون تضافر دولي متناغم وملزم للجميع، يأخذ في الاعتبار، الظروف الخاصة لكل دولة، ومرحلة التنمية التي تمر بها، والتقدم التكنولوجي وإمكانية الاستفادة منه لدعم التنمية. لذلك لا بدَّ من تعاون دولي في مجال خفض الانبعاثات والتكيف مع آثارها بين الدول المتقدمة والنامية لاستغلال التكنولوجيا والممارسات الكفوءة في الاستهلاك والإنتاج، لتحقيق هذا الهدف.


6 – معضلة التغير المناخي والوقود الأحفوري وكلٍّ من التنمية والتقدم الاقتصاديين
يمثل استخدام الوقود الأحفوري (النفط والغاز الطبيعي والفحم الحجري)، معضلة حقيقية، فهو من جهة، لا غنى عنه للتنمية الاقتصادية في الدول النامية، ولا غنى عنه للمحافظة على التقدم الاقتصادي في الدول المتقدمة، كأفضل مصدر اقتصادي وموثوق وعملي للطاقة. ومن جهة أخرى، فإن استخدامه في مجال الطاقة، يساهم إلى حد كبير في زيادة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، التي تؤدي إلى التغير المناخي. وتشكل الانبعاثات الصادرة من الوقود الأحفوري، حوالي الثلثين من مجمل انبعاثات الغازات الدفيئة، حيث يعتبر استخدام الوقود الأحفوري، سببًا رئيسيًا لزيادة تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي منذ بداية الثورة الصناعية. ويعتبر الوقود الأحفوري المصدر الرئيسي للطاقة لعقود قادمة، فلا بديل اقتصادي وعملي له على المدى المنظور، فما زالت البدائل الأخرى، كالطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة، بالتكنولوجيات المتاحة، غير قادرة على استبدال الوقود الأحفوري بشكل تام، وسوف يؤدي استخدامها إلى إبطاء عجلتي التنمية والتقدم الاقتصاديين، أو حتى توقفهما. ومن جهة أخرى، فإن الوقود الأحفوري كعنصر غير متجدد، لن يكون معدل نضوبه، بالتكنولوجيات المتوفرة، متناسبًا مع معدل انخفاض الانبعاثات المطلوب، مما يقتضي أن يظل جزء كبير منه تحت سطح الأرض، أو غير مستغل اقتصاديًا.
لقرن ونصف بنت الاقتصاديات المتقدمة، ازدهارها الاقتصادي على الوقود الأحفوري، المتوفر بتكلفة منخفضة اقتصاديًا، والقابل للنقل من مكان لآخر لارتفاع قيمة الطاقة به في مقابل كلٍّ من الحجم والوزن. وتدخل الطاقة والوقود الأحفوري في جميع الأنشطة الاقتصادية، فهي تستخدم في توليد الكهرباء والمواصلات والنقل والاستخدامات الخاصة في الصناعة والزراعة. فلا يمكن تخيل اقتصاديات الدول المتقدمة دون الاعتماد عليه، فإن تخليها عن الوقود الأحفوري التام أو الكبير، دون تبعات اقتصادية خانقة، سوف تمر اقتصادياتها بمرحلة من التباطؤ أو الركود أو الانكماش الذي قد يستمر لعقود، تفقد معها هذه الاقتصاديات تنافسيتها، وقد لا يكون تحولها إلى اقتصاديات تعتمد على الخدمات بالأمر اليسير أو المضمون، وأن الاستخدام الكفؤ لمصادر الطاقة البديلة في الإنتاج والاستهلاك، لن يكون بديلاً اقتصاديًا للوقود الأحفوري بالتكنولوجيات المتاحة في الوقت الراهن، وفي الوقت الذي تستخدم فيه بدائل الوقود الأحفوري المرتفعة التكلفة، سوف تفقد هذه الاقتصاديات تنافسيتها. أمَّا الدول الصاعدة والنامية، فإن تخليها عن الوقود الأحفوري، يعني أن لحاقها بالاقتصاديات المتقدمة، سيصبح أمرًا مستحيلاً، وأن انتقالها للطور الصناعي سيتباطأ بشكل كبير، إن لم يتوقف تمامًا. لذلك، فإن التخلي عن الوقود الأحفوري، هو أشد ضررًا على اقتصادياتها مقارنة بالاقتصاديات المتقدمة. إن القول بإمكانية الاستغناء عن الوقود الأحفوري تمامًا، على المدى المنظور، غير مسؤول، ولا أساس اقتصادي يدعمه.
7 – نظرة إلى تكلفة استقرار تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي
إن البديل العملي لخفض الانبعاثات الصادرة من استخدام الوقود الأحفوري، يتأتى من المزج بين خمس طرق: تقنين وترشيد الطلب على الطاقة، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة، واستخدام تكنولوجيات منخفضة استهلاك الطاقة، واستخدام تكنولوجيات الانبعاثات السلبية التي تلتقط غاز ثاني أكسيد الكربون وتحجزه، واستخدام بدائل للوقود الأحفوري. تلجأ الاقتصاديات المختلفة إلى اختيار مزيج من هذه الطرق الخمس بنسب مختلفة، بما يتلاءم وحالة اقتصادها، إذ إن لتخفيض الانبعاثات كلفة لا بدَّ من تقدير أثرها على الاقتصاد وقدرته التنافسية، كذلك لا بدَّ أن تشمل تكلفة خفض الانبعاثات الصادرة من استخدام الوقود الأحفوري، تكلفة تطوير التكنولوجيات، والوقت اللازم لتطويرها.
إن تقدير المزيج الأصلح من الطرق الخمس، لا بدَّ أن يراعي ثمانية أمور: أولاً، خفض الانبعاثات الصادرة من استخدام الوقود الأحفوري، هو إجراء عالمي الطابع، حيث يختص أثره بكل سكان المعمورة، ولا يفرق بين المتسبب للانبعاثات وغيره. بالإضافة إلى ذلك، ما زال المتسبب للانبعاثات لا يحاسب على فعله، أو ما يطلق عليه “بالمنتفع المجاني”. ثانيًا، عملية استقرار تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى ما قبل الثورة الصناعية، قد تستهلك قرنًا من الزمان، فهي ستختص بأجيال لم يكن لها يد، أساسًا، في زيادة هذه الانبعاثات. ثالثًا، إن تكلفة خفض الانبعاثات الصادرة من استخدام الوقود الأحفوري لن تتوزع بشكل متساوٍ، ولا دفعها على أساس درجة التسبب فيها، أو درجة الانتفاع بها. رابعًا، إن تبني سياسات خفض الانبعاثات الصادرة من استخدام الوقود الأحفوري، لا بدَّ أن تسن بشكل متناغم من جميع الدول، حتى لا تتجه الاستثمارات التي تعتمد بشكل مكثف على الوقود الأحفوري، إلى المناطق المتساهلة في سنها، فتفقد الدول التي تسنها تنافسيتها، أو ما يطلق عليه “بالتسرب الكربوني”. خامسًا، إن تكلفة خفض الانبعاثات الصادرة من استخدام الوقود الأحفوري سوف يتحملها، في النهاية، المستهلك الفرد، المختلف تأثيرها عليه بشكل كبير، سواء على الأبعاد الاقتصادية أو الاجتماعية المختلفة. سادسًا، لا يمكن أن يكون توزيع تكلفة خفض الانبعاثات على أساس حدي، أو طن مكافئ ثاني أكسيد الكربون، لاختلاف التكنولوجيات المستخدمة والظروف الخاصة بكل متسبب في الانبعاثات. سابعًا، إن الظروف الخاصة لكل دولة، أو منطقة جغرافية، أو قطاع اقتصادي، أو كل متسبب في الانبعاثات، تجعل توزيع التكلفة أمرًا بالغ الصعوبة، وتجعل سن قوانين خفض الانبعاثات عن طريق السياسات السوقية أو غيرها، مليئًا بالاستثناءات التي تضر بأساس سنها. ثامنًا، لا يمكن وضع نظام تحفيز وعقوبات لدرجة التزام الدول بخفض الانبعاثات المقرر. إن لم توزع التكلفة بشكل عادل وعميق، فسوف يكون هنالك رابحون وخاسرون، ولن يكون خفض الانبعاثات المقرر، مشجعًا للتطبيق، وقد يقرر الخاسرون التخلي عن تطبيقه.
8 – الوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية
إن علاقة الوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية، وثيقة وقوية. بدأت هذه العلاقة عندما استطاع الإنسان استبدال المجهود البشري بالآلة كنتيجة لابتكار استخدام الوقود الأحفوري لتشغيلها في بداية الثورة الصناعية. واستطاع الإنسان عن طريقها، تطوير هذا الابتكار والبناء عليه، وابتكار طرق أخرى للوصول لاستخدام الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء، ووسائط النقل الحديثة، والاستخدامات المختلفة في مجالات الصناعة والزراعة، وكذلك الخدمات. بالإضافة إلى هذه العلاقة العضوية، هنالك علاقة تناسبية، فكلما زاد عدد السكان، زاد النشاط البشري، ويزداد معه استهلاك الوقود الأحفوري. أيضًا، يرتبط استهلاك الوقود الأحفوري بطور التنمية الاقتصادية في اقتصاد ما، فيبلغ الاستهلاك أوجه، عندما تكون التنمية في طور التصنيع، وتقل بشكل كبير في طوري الزراعة والخدمات. بالإضافة إلى ذلك، يمثل التنوع الاقتصادي وطبيعته، عاملاً مهمًا لتحديد العلاقة بين الوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية، فالصناعات كثيفة الطاقة والاعتماد على النقل والخدمات اللوجستية، بشكل كبير، تقوي هذه العلاقة.
إن تقييد التنمية الاقتصادية، أو النمو الاقتصادي، ليس خيارًا مطروحًا لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، فعندها لا يكون التحول من استخدام الوقود الأحفوري إلى البدائل الأخرى، هو الحل الوحيد. وفي المقابل، إن خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، لا بدَّ أن يوضع كهدف من أهداف كلٍّ من التنمية والنمو الاقتصاديين، بحيث توضع استراتيجيات التنمية والنمو الاقتصاديين لتقلل الانبعاثات، من غير أن يقيد ذلك مجمل الأنشطة الاقتصادية. فمن ضمن هذه الاستراتيجيات، لا بدَّ من وضع استراتيجية وطنية للتحول إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات الكربونية، وذلك بتصميم برنامج يتكون من مزيج الطرق الخمس الآنفة الذكر.
9 – المشكلة في تخفيض الانبعاثات وليس في استخدام الوقود الأحفوري: دور التكنولوجيا
تلعب التكنولوجيا دورًا محوريًا في التحول إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات الكربونية، فمزيج الطرق الذي يساهم في خفض الانبعاثات، يعتمد تصميمه، بشكل كبير، على ابتكار تكنولوجيات جديدة. فزيادة كفاءة استخدام الطاقة، تتم عن طريق إعادة تصميم الآلة أو الجهاز المستهلك للوقود الأحفوري، بحيث تقلل الطاقة المهدرة، كما في تصميم محركات السيارات والأجهزة المنزلية، أو أن يتم الاستفادة منها في تطبيق آخر، كاستخدام الغاز في كلٍّ من توليد الكهرباء وتحلية المياه. وأيضًا، تستخدم التكنولوجيا في ابتكار آلات أو أجهزة منخفضة استهلاك الطاقة، تكون بديلاً عمليًا، كالمصابيح الليزرية.
ومن التكنولوجيات الواعدة، التي ما زالت في مرحلة التطوير، استخدام تكنولوجيات الانبعاثات السلبية التي تلتقط غاز ثاني أكسيد الكربون، ومن ثم تحجزه، أو أن يتم استغلاله في تطبيقات صناعية أخرى. ويعتبر التقاط ثاني أكسيد الكربون من محطات توليد الكهرباء، من أكثر التطبيقات ملاءمة لهذه التكنولوجيا بوضعها الحالي من التطور، وكذلك علاقة الجدوى الاقتصادية وحجم المنشأة. إن ابتكار تكنولوجيا قادرة على التقاط الكربون وحجزه على نطاق صغير، وبتكلفة منخفضة وموثوقية عالية، سيعدُّ خرقًا كبيرًا. في حين لا يزال استخدام الطاقات المتجددة كبدائل الوقود الأحفوري، غير مجد اقتصاديًا في مجالات توليد الكهرباء من دون تطوير تكنولوجيا تخزين الطاقة الكهربائية. إن تشكيل مزيج الطرق الذي يساهم في خفض الانبعاثات والانتقال إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات الكربونية، سوف يعتمد بشكل أساسي على المنافسة بين هذه التكنولوجيات؛ للوصول إلى حلول موثوقة وعملية ومنخفضة التكلفة.


10 – اتفاقية باريس للتغير المناخي
العمل على استقرار تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، عند مستوى ما قبل الثورة الصناعية، يتطلب تجاوبًا فعالاً على مستوى التحدي من قبل المجتمع الدولي، بأخذ خطوات مبرمجة واستراتيجية، لا تستثني أحدًا، وتراعي مسؤوليات وإمكانيات الدول المختلفة، وتوازن بين إمكانية التكيف مع التغير المناخي في المرحلة الانتقالية، وبين متطلبات خفض الانبعاثات. إن كسر الجمود في مفاوضات مؤتمرات المناخ بين الدول، وعلاج مشكلة المستهلك المنتفع، وجعل الجميع رابحين في الاتفاق، لهو من صميم عمل المؤتمر العالمي للتغير المناخي.
إن الاستفادة من تجارب الماضي في عقد الاتفاقيات، كما حدث في “بروتكول كيوتو” بعدم إشراك جميع الدول وتحديد مقدار الخفض دون مناقشة الأنشطة الاقتصادية التي سببت الانبعاثات، لها أثر في نجاعة الاتفاقيات، وهذا ما هدفت إليه اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015. وتمنهجت هذه الاتفاقية حول ضم جميع الدول لها، ومراعاة ما تستطيع كل دولة القيام به، وما يمكن أن تقوم به لاحقًا، للوصول لاتفاقية شاملة على أساس الدرجتين المئويتين. لهذا الغرض، استُحدث مفهوم “الإسهام الوطني المحدد” الذي تحدد فيه الدول من تلقاء نفسها، مدى ما يمكن أن تسهم فيه لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة.
إن ما نتج من “الإسهام الوطني المحدد” لجميع الدول من خفض للانبعاثات، لم يرقَ، حتى الآن، إلى المستوى المطلوب على أساس الدرجتين المئويتين، فما زالت هناك فجوة كبيرة لا بدَّ من جسرها. لذلك، فإن اتفاقية باريس، ما هي إلا خطوة أولى للوصول لهذا الهدف. ضمن هذا المسعى، هدفت الاتفاقية إلى وضع إطار زمني على أساس دوري لمناقشة “الإسهام الوطني المحدد”، والوصول بمجموعه إلى الهدف المنشود. وفي هذا الإطار، تتحمل الدول المتقدمة، وهي المتسببة في التغير المناخي، مسؤولية كبيرة في تحمل جسر الفجوة ومساعدة الدول النامية على الإيفاء بالتزاماتها.
11 – خاتمة
إن زيادة تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي على التركيز الطبيعي، يؤدي إلى تغير الصفات الفيزيائية والكيميائية للمحيطات، وسطح الأرض، والتكتلات الثلجية الكبيرة، والتأثيرات التبادلية فيما بينها، ويؤدي بالنتيجة إلى تغيرات شاذة في ظروف الطقس تضعف قدرة الأرض على توفير متطلبات الحياة كالماء، والغذاء، والصحة، والأرض الصالحة للعيش. ومن جهة أخرى، تدخل الطاقة والوقود الأحفوري في جميع الأنشطة الاقتصادية، فهي تستخدم في توليد الكهرباء، والمواصلات والنقل، والاستخدامات الخاصة في الصناعة والزراعة، فعلاقة الوقود الأحفوري والتنمية الاقتصادية، علاقة وثيقة وقوية. وإن تقييد التنمية الاقتصادية، أو النمو الاقتصادي، ليس خيارًا مطروحًا لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، فعندها لا يكون التحول من استخدام الوقود الأحفوري إلى البدائل الأخرى، هو الحل الوحيد.
إن ما نتج من “الإسهام الوطني المحدد” لجميع الدول من خفض للانبعاثات، لم يرقَ، حتى الآن، إلى المستوى المطلوب على أساس الدرجتين المئويتين، فما زالت هناك فجوة كبيرة لا بدَّ من جسرها. إن خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، لا بدَّ أن يوضع كهدف من أهداف كلٍّ من التنمية والنمو الاقتصاديين، بحيث توضع استراتيجيات التنمية والنمو الاقتصاديين لتقليل الانبعاثات، من دون أن يقيد ذلك، مجمل الأنشطة الاقتصادية. تلعب التكنولوجيا دورًا محوريًا في التحول إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات الكربونية، فمزيج الطرق الذي يساهم في خفض الانبعاثات، يعتمد تصميمه، بشكل كبير، على ابتكار تكنولوجيات جديدة.

متخصص في السياسات الاقتصادة للنفط والطاقة*

@knadhmi

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر