عبّر الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيرس” في ديسمبر 2019 عن خطورة التغيرات المناخية معتبرًا أن العالم يواجه أزمةً مناخيةً عالميةً، قائلًا: “لم تعد نقطة اللاعودة بعيدةً، بل باتت أمامنا، وتتجه بسرعة نحونا”. وفي هذا الإطار، تسعى هذه الورقة للوقوف على حدود وطبيعة العلاقة بين التغيرات المناخية والصراعات المسلحة، وتحديد الأبعاد الأمنية لهذه الظاهرة، وما يمكن أن تلعبه من دورٍ في تأجيج وتفاقم الصراعات سواء الداخلية أو الخارجية.
أثارت تداعيات التغيرات المناخية على ظاهرة الصراعات المسلحة جدلًا واسعًا حول طبيعة العلاقة واتجاهات التأثير، لا سيما في ظل تعدد واختلاف طبيعة الصراعات المسلحة، وأسبابها، وكيفية إدارتها، ومالاتها المحتملة. ويمكن بلورة ذلك الجدل في اتجاهين رئيسيين، يمكن الوقوف عليهما على النحو التالي:
- الاتجاه الأول: ينظر هذا الاتجاه لنمط وطبيعة العلاقة بين الطرفين بوصفها علاقة تأثير مباشر؛ حيث انطلق هذا الاتجاه من فرضية وجود علاقةٍ قويةٍ ولصيقةٍ بين التغيرات المناخية من ناحية، واندلاع الصراعات وتفاقمها وزيادة حدتها من ناحيةٍ أخرى. ووفقًا لهذا الاتجاه، هناك علاقةٌ طرديةٌ موجبةٌ بين التغيرات المناخية والصراعات المسلحة؛ فكلما ارتفعت وتزايدت حدة التغيرات المناخية، تنامت ونشبت الصراعات العنيفة على المستويين الداخلي والدولي.
فقد تؤثر التغيرات المناخية على تصاعد العنف والصراع داخل المجتمعات؛ إذ أن ندرة الموارد الطبيعية، والمياه العذبة، والأراضي الصالحة للزراعة، وارتفاع درجات الحرارة، وهطول الأمطار، قد تقود إلى البحث عن سبلٍ لضمان واستدامة العيش والبقاء، ومن ثمَّ زيادة وارتفاع حدة المنافسة بين الأطراف الداخلية، وبخاصةٍ في المناطق التي يعتمد اقتصادها بالأساس على الموارد الطبيعية، الأمر الذي قد يؤول إلى صراعٍ داخليٍ عنيف. وقد تكون التغيرات المناخية سببًا مباشرًا في نزاعٍ أو صراعٍ دوليٍ وبخاصةٍ في حالات الصراع على الموارد المشتركة أو العابرة للحدود.
- الاتجاه الثاني: يرفض أنصار هذا الاتجاه العلاقة المباشرة بين التغيرات المناخية والصراعات المسلحة؛ ويرون أن التغيرات المناخية أحد دوافع ومحفزات الصراعات، وليست سببًا مباشرًا فيه؛ بمعنى أنها تتفاعل مع عددٍ من العوامل والدوافع الأخرى التي تؤدي إلى النزاع، ومن بينها: غياب التنمية الاجتماعية، وتفاقم الاوضاع الاقتصادية، وضعف وهشاشة المؤسسات، بالإضافة إلى تراجع دور الدولة وقدرتها على احتواء الازمات.
وفي المقابل، اعتبر البعض أن التغيرات المناخية سببٌ في التعاون والتكامل وتجنب النزاع؛ وقد دلل هؤلاء على ذلك بزلزال “تسونامي” في عام 2004 وما أفرزه من تعاونٍ وتكاتفٍ لمواجهة أضراره بين دول جنوب شرق آسيا بشكلٍ خاص، والمجتمع الدولي بشكلٍ عام. ووفقًا لهذا الاتجاه، فإن التغيرات المناخية لا تمثل في حدِّ ذاتها سببًا صريحًا لاندلاع الصراعات، ولكنها تؤثر في بعض العوامل المحفزة والمؤججة له، بوصفها عاملًا مضاعفًا للتهديد. وفي المقابل، قد تكون سببًا في دفع التعاون بين مختلف الأطراف أيضًا.
تصاعد النقاش حول التأثيرات الأمنية للتغيرات المناخية وحدود ارتباطها بالصراعات المسلحة -سواء بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر- في أعقاب انعقاد اجتماع مجلس الأمن بشأن التغيرات المناخية في عام 2007. فقد مثّل هذا الاجتماع تحولًا في الاطروحات المتعلقة بالتغيرات المناخية؛ لتتجلى الأبعاد الأمنية في صميم النقاشات المعنية بتلك الظاهرة، بعد أن كانت مقتصرةً بشكلٍ مباشرٍ على الأبعاد الفنية-البيئية، لتنظر غالبية دول العالم للتغيرات المناخية باعتبارها تهديدًا للأمن العالمي.
وهو ما أشارت إليه الدراسة المعنونة “التغيرات المناخية والأمن” الصادرة عن المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي GIZ))، والتي أشارت إلى تأثر عددٍ من المناطق بهذه الظاهرة، حيث ستصبح مشكلة توفير المياه وتأثيرها على الإنتاج الزراعي وظاهرة التصحر والتغيرات التي قد تطرأ على التربة ضمن العوامل التي تفاقم من الصراعات المحتملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ومن ناحيةٍ أخرى، سيؤدي انخفاض منسوب المياه وتقلص المساحات الزراعية -بجانب تزايد أعداد السكان وارتفاع مستوى سطح البحر- إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي، ومن ثمَّ تنامي حدة الصراعات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى. وفي الوقت ذاته، خلصت الدراسة إلى أن منطقة آسيا والمحيط الهادي قد تتأثر بصورةٍ حادةٍ بفعل الظواهر المناخية شديدة التقلب، والانصهار الجليدي، وغيرها.
كما اشارت الدراسة إلى أن الوصول غير المتكافئ للموارد، بجانب النمو المضطرد، وغياب قدرات الدولة على الحكم، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الصراعات في ظل التغيرات المناخية المتسارعة في منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي. كل هذه الأمور تؤكد على المخاطر الأمنية الناجمة عن التغيرات المناخية. وهو ما يستدعى مزيدًا من التكاتف والتكامل الدولي للحد من تبعات هذه الظاهرة، وبخاصةٍ وأنها باتت تمثل تهديدًا للأمن القومي واستقرار المجتمعات.
يمكن الوقوف على أبرز مظاهر ومجالات وحدود تأثير التغيرات المناخية على الصراعات المسلحة على النحو التالي:
- نشوب الصراعات والاحتراب الداخلي: تؤدي التغيرات المناخية وما يصاحبها من ارتفاع درجات الحرارة، وحالات الجفاف، وهطول الأمطار، والصراع على الموارد إلى تصاعد حدة الصراعات المسلحة، الأمر الذي قد يتحول لاحقًا إلى حربٍ أهليةٍ تمتد تداعياتها لتطال الاستقرار الداخلي. ويمكن ملاحظة هذا النمط من التأثير في عددٍ من الصراعات، يأتي في مقدمتها الصراع الممتد في نيجيريا بين الرعاة البدو والمزارعين على الموارد.
فقد تسبب هذا الصراع في مقتل أكثر من 3600 شخص خلال ثلاث أعوامٍ فحسب، وفقًا للتقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية في نهاية 2018. كما بلغ هذا الصراع ذروته في النصف الأول من العام ذاته، ليسجل ما يزيد عن 1300 ضحيةً وفقًا لمجموعة الأزمات الدولية، وهو ما يتجاوز 6 أضعاف التداعيات الناجمة عن عمليات تنظيم “بوكو حرام” في نيجيريا في المدة نفسها.
وقد ذهلت بعض التحليلات إلى أن الحرب الأهلية السورية لا تعدو كونها نتاجًا للتغيرات المناخية؛ فقد شهدت سوريا حالةً من الجفاف الشديد بين عامي 2006 و2011 ما تسبب في اهدار ما يقرب من 75% من أراضيها الزراعية، فضلًا عن نفوق 85% من ماشيتها، وهجرة نحو مليون ونصف سوري من الريف إلى المدن والمراكز الحضرية. وقد شكلت تلك العوامل -بالتضافر مع الدوافع السياسية والاجتماعية- ما آلت إليه الأوضاع الحالية في الساحة السورية.
في الوقت ذاته، أكد عددٌ من التحليلات ارتباط جذور الصراع في دارفور بالتغيرات المناخية؛ في ظل انخفاض هطول الأمطار بنسبة 30%، وتراجع الإنتاج الزراعي بنسبة 70%، وارتفاع درجة الحرارة بنحو 1.5 درجة، الأمر الذي ساهم في تفاقم حدة الصراع. وهو ما عبر عنه الأمين العام السابق للأمم المتحدة “بان كي مون” الذي رأى أن الصراع في دارفور هو أول صراع ناجم عن التغيرات المناخية في العالم. ففي رؤيته، يعد الصراع أزمةً بيئيةً، ساهمت التغيرات المناخية في تفاقمها.
الذي ساهم في تفاقم حدة الصراع. وهو ما عبر عنه الأمين العام السابق للأمم المتحدة “بان كي مون” الذي رأى أن الصراع في دارفور هو أول صراع ناجم عن التغيرات المناخية في العالم. ففي رؤيته، يعد الصراع أزمةً بيئيةً، ساهمت التغيرات المناخية في تفاقمها.
- تنامي الحروب والصراعات المناخية: يمكن أن تساهم التغيرات المناخية في اشعال فتيل الصراعات والنزاعات المستقبلية، حيث يدفع البعض بأن الصراعات القادمة ستكون صراعاتٍ وحروبٍ مناخيةٍ بالدرجة الأولى، الأمر الذي يمكن أن يساهم في تأجيج الصراعات لتأخذ نمطًا مغايرًا عن الصراعات الآنية.
وقد أوضحت الدراسة المعنونة “المناخ كعامل خطر للصراعات المسلحة”، المنشورة بمجلة “Nature” في يونيو 2019، أن 20% من صراعات القرن الفائت تأثرت بالتغيرات المناخية. كما يتوقع تزايد هذه النسبة مستقبلًا في ظل مزيدٍ من التقلبات المناخية والتي من شأنها أن تزيد من مخاطر الصراعات والحروب المناخية.
كما أظهرت دراسة نشرتها مجلة “Annual Review of Political Science” في مايو 2019 أن الزيادة في درجات الحرارة أثرت بشكلٍ كبيرٍ في اندلاع وتفاقم حدة الحروب الأهلية في إفريقيا والصحراء الكبرى خلال الفترة من 1981 و2002. وقد خلصت الدراسة أيضًا إلى أن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ستزيد من اندلاع الحروب الأهلية بنحو 50% بحلول عام 2030.
في الوقت ذاته أشار عددٌ من الدراسات إلى أن ارتفاع درجات الحرارة بنسبة 4% سوف يزيد من تأثير المناخ على النزاعات بنسبة 26%. وهو ما يعني تزايد التأثير بمعدلٍ يصل إلى 5 أضعاف التأثير الحالي. وفي الوقت ذاته، وفي حالة تحقيق الهدف المُعلن من اتفاق باريس، سيتضاعف تأثير التغيرات المناخية على الصراعات المستقبلية. وكل ذلك يؤول إلى نتيجةٍ مفاداها أن التأثيرات المستقبلية والمحتملة على الصراعات القادمة بفعل التغيرات المناخية سوف تزداد بشكلٍ كبيرٍ، الأمر الذي قد يدعم الفرضية الرامية إلى وصف النزاعات والصراعات القادمة بـــالصراعات المناخية.
- هشاشة الدولة ومؤسساتها: لا شك أن التغيرات المناخية قد تتسبب في تفاقم عدم الاستقرار، فضلًا عن تنامي الاضطرابات الاجتماعية، وغياب قدرة الدولة على توفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها. وعليه، قد تتسبب هذه العوامل في تفاقم غضب المواطن على الحكومة ومؤسساتها، ومن ثمَّ زعزعة الاستقرار ونشوب مزيدٍ من الصراعات، وقد يصل الأمر لسقوط بعض الدول. وقد برز ذلك بصورةٍ واضحةٍ خلال تبني مجلس الأمن القرار رقم 1249 في مارس 2017، وهو القرار المتعلق بالصراع في بحيرة تشاد.
فقد أقر القرار آنذاك بأن التغيرات المناخية تعتبر عاملًا مساهمًا في عدم الاستقرار ومن ثمَّ نشوب الصراع. من ناحيةٍ أخرى، اعتبر عددٌ من الدراسات أن أحداث عام 2011 ارتبطت بشكلٍ أو بآخر بالتغيرات المناخية. كما ترتبط التغيرات المناخية بالبلدان والدول الضعيفة، الأمر الذي يظهر بشكلٍ واضحٍ في منطقة القرن الإفريقي؛ إذ أوضح مؤشر الدول الهشة أن دول هذه المنطقة (الصومال، واثيوبيا، وإريتريا، وكينيا، والسودان، وجنوب السودان) من أشد البلدان ضعفًا في العالم.
مجمل القول، كلما زادت هشاشة الدول وفقدت القدرة على السيطرة، تأثرت بالتغيرات المناخية. وهو ما يؤدي إلى مزيدٍ من الصراعات بسبب حالات الجفاف وعدم القدرة على إدارة الموارد. وعلى الرغم من تباين وجهات النظر والنقاشات حول حدود وطبيعة التأثير وحجم الترابط بين التغيرات المناخية والصراعات المسلحة، إلا أن المؤشرات والدلائل كافّةً تشير إلى أن العالم سيواجه عددًا من التحديات الأمنية والبيئية وجملةً من الأزمات الحادة جرّاء التغيرات المناخية.