لكن البلدين تجاوزا تلك الأزمة بعد أحداث 11 سبتمبر، حينما بادرت الصين إلى التعاطف مع الولايات المتحدة والوقوف معها.

كانت جمهورية الصين (تايوان حاليا) تشغل مقعد دولة الصين قبل عام 1971، لكن الموقف الأميركي، والغربي عموما، غير الحازم تجاه الاعتراف بتايوان كدولة عضو في الأمم المتحدة، قد مكَّن الدولة الشيوعية الأكبر في العالم، من الاحتفاظ بحقها في استعادة تايوان، رغم أنها لم تسعَ إلى ذلك جديا بسبب الظروف الدولية غير المواتية.

وبعد أن حُلَّت مشكلة مقعد الصين في الأمم المتحدة، لصالح الصين الشعبية، أقدم الرئيس الأميركي ريتشارد نكسن على زيارة الصين، ما قاد إلى انفراج العلاقات بين البلدين. وكانت الولايات المتحدة حينها تحاول أن تكسب الصين إلى جانبها في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وكذلك لإيجاد حل لتورطها في فيتنام، إذ كانت الصين تقف مع فيتنام الشمالية، بينما تدعم الولايات المتحدة فيتنام الجنوبية.

تلا زيارة نكسن تحسنا تدريجيا في العلاقات بين البلدين، والذي قاد في النهاية لأن تكون الصين الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة، خصوصا بعد تبنيها اقتصاد السوق الذي مكَّنها من أن تصبح دولة ثرية وعظمى، وبالتحديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وعدم تمكن روسيا من الحلول محله كدولة عظمى.

ومقابل ذلك، سمحت الصين بأن تبقى تايوان دولة مستقلة فعليا، وتغاضت مرحليا عن توطيد علاقاتها مع الولايات المتحدة، التي تطورت إلى تحالف عسكري، إذ يجري البلدان مناورات عسكرية دورية في بحر الصين الجنوبي لتأكيد تلك العلاقة الوثيقة. وقد أقرت الولايات المتحدة في العام الماضي بيع أسلحة ومعدات عسكرية متطورة لتايوان بكلفة 1,8 مليار دولار ضمت صواريخ هجومية وأجهزة استطلاع ومتطورة. كما يتعاون الأميركيون والتايوانيون لمكافحة الهجمات السبرانية الموجهة ضد المؤسسات التايوانية، والتي يُعتقد بأن الصين تقف وراءها.

لكن بقاء تايوان خارج الأمم المتحدة، يجعل الموقف الأميركي في الدفاع عن تايوان قلقا، إن سعت الصين لضمها، خصوصا وأنها جزء من الصين رسميا حسب القرار 2758. بل أن التايوانيين أنفسهم يعترفون بأن تايوان جزء من الصين، لكنهم لا يعترفون بشرعية سيطرة الحزب الشيوعي على البر الصيني. لا شك أن الأميركيين الآن يشعرون بأنهم ارتكبوا خطأ عام 1971، بتساهلهم في قضية عدم اعتراف الأمم المتحدة بتايوان كدولة مستقلة.

العلاقات الصينية الأميركية تدهورت كثيرا منذ تولي الرئيس السابق دونالد ترامب السلطة عام 2017، كما ازدادت القضايا الخلافية بين البلدين تعقيدا وحِدَّة، خصوصا بعد أن ضاعف الرئيس ترامب التعرِفات الجمركية على البضائع الصينية ومنع امتلاك الصين أو مواطنيها، حصصا أكثر من النصف في أسهم الشركات الأميركية، بل منع حتى تصدير الأجهزة المتطورة في مجالات محددة إلى الصين.

ومنذ مجيء الرئيس جو بايدن إلى السلطة مطلع العام الحالي، كانت هناك محاولات لتسوية الخلافات بين البلدين، رغم تمسكه بكل الإجراءات التي اتخذها سلفه، لكن الخلافات، على ما يبدو، أعقد من أن تحل بهذه السرعة، فشقة الخلاف اتسعت كثيرا، وبدأت الصين تتخذ خطوات أكثر جرأة من ذي قبل، خصوصا في محاولة السيطرة على بحر الصين الجنوبي، والتدخل في شؤون تايوان وتعديل القوانين في هونغ كونغ كي تجعلها منسجمة مع القوانين في البر الصيني، الأمر الذي يراه الغربيون بأنه إخلال بالاتفاق المعقود بين بريطانيا والصين حول هونغ كونغ. يضاف هذا إلى قضايا حقوق الإنسان التي يثيرها الأميركيون والصينيون في مفاوضاتهم.

لكن الوضع في أفغانستان، بعد الانسحاب الأميركي السريع منها، تطلب أن يتعاون البلدان لاتخاذ مواقف متقاربة، خصوصا وأن الصين تجاور أفغانستان، وأن لكلا البلدين مصلحة في تحقيق الاستقرار فيها، كي لا تكون مأوى للحركات الإرهابية العالمية. لذلك أجرى الرئيس بايدن مكالمة هاتفية مع الرئيس الصيني، شي جينبينغ، في العاشر من سبتمبر الجاري، وهي المكالمة الثانية له منذ توليه السلطة، لبحث هذه المسألة، وقضايا أخرى ثنائية إضافة إلى التغير المناخي ومكافحة جائحة كورونا.

وتأتي مكالمة الرئيس بايدن مع الرئيس الصيني في أعقاب فشل الوفدين المتفاوضين، الأميركي والصيني، في الاتفاق على أسس مشتركة للحوار، بسبب تشدد الموقف الصيني حسب المصادر الأميركية. الوفد الأميركي يتهم الصين باتخاذ مواقف مبدئية ديماغوجية غير عملية، ولا تخدم التقارب بين البلدين، بينما يتهم الصينيون الأميركيين بالتدخل في شؤون الصين الداخلية. الأمر الذي دفع الرئيس الأميركي لأن يتكلم مع أعلى سلطة في الصين كي يحرك المفاوضات من جديد.
لكن الصين عادت إلى التفاخر بكون الرئيس بايدن هو الذي بادر إلى مهاتفة الرئيس الصيني، وعزت السبب، حسبما أفادت جريدة “غلوبال نيوز” الصينية الصادرة باللغة الإنجليزية، والمقربة من الحزب الشيوعي الصيني، إلى “قلق واشنطن المتنامي والحاجة لتعاون الصين معها في قضايا التغير المناخي ومكافحة كوفيد 19 والشؤون الأفغانية”.

يبدو أن الصين ترى أن الولايات المتحدة أصبحت ضعيفة، في ضوء انسحابها من أفغانستان، وربما لهذا السبب أصرت على مواقفها المبدئية المتشددة، في محاولة لتحسين موقفها التفاوضي حول القضايا الثنائية العالقة بين البلدين.

صحيح أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، بالطريقة التي حصل فيها، لا يليق بالولايات المتحدة كدولة عظمى، وهو غير متسق مع التزاماتها تجاه أفغانستان، ووعودها بإقامة حكم ديمقراطي ينصف الأفغان جميعا، إلا أنه ليس دليلا على ضعفها، وإنما حصل نتيجة لخطأ في الحسابات، وبالتحديد بسبب غموض الاتفاق مع طالبان وعدم وجود آليات محددة تلزم الحركة بتنفيذه، وكذلك بسبب التوقعات الخاطئة للمسؤولين الأميركيين الجدد لما يحصل بعد الانسحاب.

لا شك أن الانسحاب أضر بسمعة الولايات المتحدة وبثقة حلفائها بها. فقد عبرت المحيطات من أجل أن تطيح بطالبان وتقيم حكومة ديمقراطية محلها. ولكن، بعد عشرين عاما من محاولات التأسيس لنظام عصري في البلاد، تخللها إنفاق ترليونيْ دولار، ومقتل 7500 أميركي، اضطرت لأن تعيد طالبان إلى السلطة بشروطٍ لم تفِ طالبان بمعظمها.

لكن المسكوت عنه هو الجانب الآخر من المعادلة، فخروج الولايات المتحدة من أفغانستان حرَّرها من مشكلة تؤرقها منذ عشرين عاما، ووفَّر لها 300 مليون دولار يوميا، حسب تقديرات مجلة فوربس الاقتصادية الأميركية، وأنقذ جنودها من هجمات متكررة لطالبان كلفتها 2500 قتيل بين جنودها، وما يقارب 4000 بين المتعاقدين المدنيين الأميركيين، حسب مجلة فوربس.

وفي الوقت نفسه فإن أفغانستان، التي كانت مشكلة أميركية فحسب، أصبحت الآن مشكلة دولية، تؤثر على الدول المجاورة لأفغانستان، بما فيها خصوم الولايات المتحدة الثلاثة، الصين وروسيا وإيران. لقد أصبحت الولايات المتحدة في وضع أفضل ماديا وعسكريا، رغم تراجع موقفها المعنوي، بينما أصبح خصومها الآن يتعاملون مع مشكلة جديدة على حدودهم، ولابد لهم من أن يجدوا حلولا لها، أما عبر استمالة طالبان والتأثير عليها أو مواجهتها عسكريا أو فرض عقوبات اقتصادية عليها. وخلاصة القول إن حل المشكلة الأفغانية وتجنب أضرارها، سوف يتطلب التعاون مع الولايات المتحدة التي تعرف البلد جيدا، ولها أصدقاء فيه، ومازالت على تواصل مع جميع القوى الأفغانية، بما فيها طالبان التي أبرمت معها اتفاق الانسحاب.

من المتوقع أن تتوصل الولايات المتحدة والصين إلى حلول للمشاكل القائمة بينهما، لكن تلك الحلول تتطلب وقتا وتنازلات من الطرفين. الصين تحتاج لأن تتعامل بواقعية مع الولايات المتحدة، بدلا من الإصرار على موقف “القوي المنتصر”، لأن هذا الموقف ليس حقيقيا، ولن يستطيع الحزب الشيوعي الصيني أن يسوقه للعالم أو إلى الشعب الصيني، فالجميع يعلم أن الولايات المتحدة مازالت القوة الأعظم في العالم، اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا، والمسيطرة على النظام المالي العالمي، الذي لا يمكن تجاوزه بسهولة.

الصين بحاجة إلى استيراد الأجهزة المتطورة من الولايات المتحدة، وبحاجة لأن تزيد من صادراتها التي تضررت كثيرا من التعرِفات التي فرضها الرئيس ترامب عليها، والتي تمسك بها خصمه الرئيس بايدن. الاقتصاد الصيني يتراجع، فبعد معدلات النمو العالية السابقة، التي تجاوزت 10%، أشارت البيانات الأخيرة إلى انخفاض معدل النمو إلى 6%، ومازال في اتجاه تنازلي.

وسوف تحتاج أيضا لأن تتخلى عن طموحاتها في السيطرة الكاملة على بحر الصين الجنوبي، وتتوقف عن تهديد تايوان، وتتقيد بالاتفاق المعقود بينها وبين بريطانيا بخصوص هونكونغ. بينما تحتاج الولايات المتحدة إلى تعاون الصين فيما يتعلق بالتغير المناخي، الذي أصبح يؤثر على الولايات المتحدة أكثر من غيرها، وفي مكافحة جائحة كورونا التي انطلقت منها. كما تحتاج إلى إعادة العلاقات الاقتصادية مع الصين إلى سابق عهدها كي تتمكن من إنعاش الاقتصاد الأميركي الذي يترنح تحت وطأة كورونا. كل هذه القضايا تحتاج إلى تعاون وثيق بين الدولتين العظميين.

مبادرة الرئيس الأميركي لحل الخلافات مع الصين لا تدل على ضعف الموقف الأميركي في أعقاب الانسحاب من أفغانستان، والذي بدا لكثيرين وكأنه هزيمة للولايات المتحدة وانتصار لطالبان، بينما الحقيقة أنه خيار أميركي اتفق عليه الجمهوريون والديمقراطيون، وقد حصل وفق اتفاق مسبق أُبرِم عام 2020، وهو إجراء رحب به معظم الأميركيين، رغم استيائهم من الطريقة التي حصل بها، لأنه وفَّر عليهم أموالا طائلة هم بأمس الحاجة إليها، وأنقذ حياة جنودهم ومتعاقديهم.

التشدد الصيني الحالي لا ينم عن جهل بقدرات الولايات المتحدة، بل يهدف إلى كسب مواقف تفاوضية معها، فالصينيون يعلمون جيدا أن الولايات المتحدة مازالت تمسك بمعظم مصادر القوة في العالم، وهم يحتاجون إلى التفاهم والتعاون معها كي يواصلوا تقدمهم الاقتصادي ويدعموا نفوذهم العالمي.

والأميركيون يعلمون أيضا بأن الصين قوة عظمى ومتنامية لا يمكن تجاهلها، وإن كانت قد تنازلت سابقا في بعض مواقفها، فإنها الآن تمتلك القدرة الاقتصادية والعسكرية على تعزيز مواقفها ودعم اقتصادها ونفوذها. الدولتان العظميان سوف تتعاونان، فلا طريق أمامهما سوى التعاون والتفاهم، لكن التقارب يحتاج إلى تنازلات حقيقية من أجل التوصل حلول مرضية للجانبين، ومثل هذه الأمور تتطلب صبرا ومفاوضات مكثفة، ويبدو أنها على وشك الانطلاق.