سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. تامر هاشم
يبلغ تعداد الشعب الكردي حوالي 30 مليون نسمة، وهو بذلك أكبر شعب لا يمتلك دولة، وهو معروف في التاريخ الإسلامي، على أنه من الشعوب الآرية، إخوة الفرس، والطاجيك، والأفغان، وهم يسكنون نفس البقاع. ولقد ذكرهم عدد كبير من المؤرخين، ومنهم ابن بطوطة الذي وصفهم بالقوة والبأس الشديد.
ويمتد فضاء الأرض الكردية ليطال أربع دول: سوريا والعراق وإيران وتركيا. أما الفضاء البشري للشعب الكردي – إلى جانب الدول السابقة – فيمتد ليطال أرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا، حيث يعيش فيها نحو 200,000 كردي. وأبعد من ذلك، فإن هناك نحو مليون ونصف مليون كردي، هاجروا إلى دول أخرى، وبخاصة إلى أوروبا. ففي ألمانيا وحدها، التي فيها عدد كبير من المقيمين الأجانب، يقترب عدد الأكراد فيها من نحو 800,000.
ويتميز الوجود الكردي في العالم، بأنه منظم ومسيَّس، وذلك لحيوية القضية الكردية لدى العقل الجمعي للأكراد، أيًّا كانت الجنسية التي يحملونها، أو محل الإقامة. وقد تبلورت قدرتهم التنظيمية العالية بشكل جلي وواضح، إبان أحداث اقتحام تنظيم “داعش” لمدينة عين العرب (كوباني) في أواخر عام 2014. فقد وجهت الجاليات الكردية في العالم، نداء لاعتصام سلمي في عدد من العواصم الأوروبية والآسيوية والإفريقية في اليوم الأول من نوفمبر 2014، تضامنًا مع مدينة (كوباني) الكردية السورية – ذات الأهمية المفصلية في الوجدان الكردي عامة، والكردي السوري خاصة -التي كان يحاول تنظيم “داعش” السيطرة عليها. وقد صدرت توجيهات رسمية للتظاهر بشكل حضاري، منها: التركيز على الشعارات القصيرة باللغات المحلية والإنجليزية، والتركيز على القضية الكردية، وأن الشعب الكردي يحارب الإرهاب نيابة عن العالم، وكذلك التركيز على كردستانية الحراك، والابتعاد عن الانتماء الحزبي، وعرض صور المأساة الكردية في (كوباني)، ووحشية تنظيم الدولة الإسلامية.
وقد شكلت أحداث سقوط المدينة (عين العرب) في يد تنظيم الدولة، نقطة تحوُّل في التعاون العسكري بين وحدات حماية الشعب الكردية السورية -الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي – والبيشمركة العراقية، هذا من جانب. ومن جانب آخر، بداية تشكُّل لهوية كردية انفصالية في مثلث كوباني – القامشلي – عفرين الذي يطالب الآن بحكم ذاتي.
وبالنسبة للدول التي تقع داخل حدودها السياسية، أرضي إقليم كردستان، وهي: تركيا وسوريا والعراق وإيران، فقد كانت تسعى لمقاومة فكرة الهوية المميزة، والحيلولة دون حمل الأكراد للسلاح، ناهيك عن التعاون العسكري العابر لحدود خطوط التقسيم بين الدول الأربع.
وتُعتبر تركيا أول الدول التي انتفضت ضد التعاون العسكري للفصائل العسكرية الكردية؛ لأنها ستكون من أوائل المتضررين، حيث تُعتبر تركيا الدولة الكبرى لتركُّز الأكراد؛ إذ إنهم يمثلون حوالي 25% من إجمالي تعداد الشعب التركي، ويصل عددهم إلى حوالي 18 مليون نسمة في الدولة التركية، أي حوالي 56% من عدد الأكراد في العالم. كما أن الصراع المسلح بين الأتراك والأكراد، منذ الثمانينيات من القرن الماضي وحتى الآن، قد راح ضحيته ما يزيد على 45 ألف قتيل، مع نزوح ما يزيد على ثلاثة ملايين شخص بسبب النزاع المسلح، وفقدان 17 ألف شخص، إضافة إلى تدمير حوالي أربعة آلاف قرية.
ورغم أن حزب العدالة والتنمية، نجح في إيقاف الصراع بين الطرفين، على اعتبار أن المظلة الإسلامية التي يتبناها الحزب، تصلح للجميع، فإن أحداث الانقلاب الفاشل جاءت لتخلط الأوراق مرة ثانية، مع إقدام السلطات على اعتقال قادة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي كان حلقة وصل بين الحكومة التركية والأكراد؛ وباعتقال أعضائه ومعاداتهم من قبل الحكومة، فإنه لا توجد أي فرصة للحوار السياسي بين الطرفين، فضلًا عن توقعات باستمرار المواجهات العسكرية المحتدمة منذ عام 2015.
أمَّا إيران، التي يعيش فيها أكثر من 7 ملايين كردي، مقسمين في ثلاث محافظات، وهي: كردستان، وإيلام، وأذربيجان الغربية، ومن أجل تأمين نفوذها المتصاعد في العراق وسوريا، وصولاً إلى الحدود التركية، فقد قامت ببناء تحالف يضم حزب العمال الكردستاني التركي(PKK)، وحزب الاتحاد الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، وميليشيا الحشد الشعبي الشيعي العراقي. إلا أن حزب الاتحاد الكردستاني الذي يعاني الضعف، لم تجد قياداته المنقسم بعضها على بعض، خيارًا لها سوى دعم الاستفتاء. كما أن الأحزاب والشخصيات الكردية الإيرانية، رحَّبت بالاستفتاء المزمع إجراؤه في 25 من الشهر الجاري في كردستان العراق. وأصدر الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، أكبر الأحزاب الكردية، بيانًا أعلن فيه دعمه للاستفتاء، مؤكدًا “حق الشعب الكردي في تقرير مصيره”. وقال الديمقراطي الكردستاني الإيراني، الذي تأسس قبل حوالي 70 عامًا، ويناضل من أجل حقوق الأكراد في إيران، إن “الأكراد شعب واحد قسَّمهم الاستعمار على أربع دول مجاورة من دون إرادتهم”.
رد الفعل الإيراني، لم يكن على مستوى الحدث، ولم يكن ملائمًا، حيث استخدمت الورقة الطائفية. فقد قالت مصادر كردية، إن قائد “فيلق القدس”، التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، هدَّد الأكراد بهجوم من قبل الحشد الشعبي إذا لم يوقفوا الاستفتاء في إقليم كردستان العراق، المزمع إجراؤه في 25 سبتمبر الجاري. ونقل موقع “المونيتور” عن مصدر مقرب من الاتحاد الوطني الكردستاني، أن سليماني زار كردستان أخيرًا، وأبلغ قيادات الاتحاد المقربة من طهران، بأن “إيران منعت – لحدِّ الآن – تدخل الحشد الشعبي في كركوك، وأنها لن توقف الحشد إذا نفَّذ هجومًا على كردستان”.
وفي العراق، استمر خلط الأوراق على هذه الجبهة أيضًا، فالتهديد الرئيس للأكراد، جاء من نور المالكي، صاحب السياسات المساندة والداعمة لهيمنة إيرانية، ليس على العراق فحسب، ولكن على المنطقة. فقد أكد نوري المالكي لسفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى بغداد، دوغلاس ألن سيليمان، أن بلاده لن تسمح بقيام إسرائيل ثانية شمال العراق.
وأخيرًا في سوريا، فإن التحالف الأمريكي الكردي في أحسن أحواله. كما أن الأكراد هناك، نجحوا في تحويل سوريا إلى فيدرالية، وقد حدَّد ما يعرف بـ”اتحاد شمال سوريا” الكردي، مواعيد إجراء أول انتخابات على مستوى الإدارات المحلية والمناطقية التي يديرها على طول الحدود مع تركيا.
خلاصة ما سبق، تقود إلى نتيجة مفادها أن أكراد العراق المدعومين من أكراد دول الجوار، ماضون في تنفيذ الاستفتاء، وهذا الاستفتاء سيؤدي إلى انبعاث القومية الكردية من جديد. وذلك يعود بالأساس إلى السياسات القومية، أو الطائفية التي استخدمتها الدول الأربع، تجاه تطورات القضية الكردية.
والسؤال هنا: إذا كان الاستفتاء سيحدث لا محالة، فما هي توقعات تطور القضية الكردية في المستقبل؟
لا يمكن – بأي حال من الأحوال – التنبؤ بمستقبل القضية الكردية في ظل حالة السيولة الدولية والإقليمية الراهنة، ولكن يمكن تحديد بعض العوامل التي يُحتمل أن تؤثر في تطورات تلك القضية.
يشير الواقع الراهن، إلى أنه لا يمكن تكرار أحداث ثورة “درسيم – تونجلي” عام 1937، التي قام بها أكراد تركيا كردِّ فعل على سياسات التهجير القسري التي قامت بها تركيا الأتاتوركية – التي تمَّ قمعها بالقوة العسكرية، والتي تبنى فيها الغرب، الرؤية التركية التي تقوم على أنه (يجب على المدنية أن تحارب البربرية). فالأكراد لن يستقلوا الآن، والدول الأربع لن تبادر بحرب تؤجج الشعور القومي لـ30 مليون مواطن، والغرب لن يسمح بحرب جديدة تنتج “دواعش” من نوع جديد.
أهم عامل سيؤدي دورًا مؤثرًا في تطور الأوضاع هناك، هو العامل الاقتصادي. فبشكل عام، يعدُّ إقليم كردستان العراق، منطقة استراتيجية وجيوبولوتيكية، بالغة الأهمية؛ نظرا لأنه يحتوي على المعادن الثمينة والمواد الأولية الباهظة الأسعار، كالنفط، والحديد، واليورانيوم، والذهب، والفحم الحجري، والكبريت، والأحجار الكريمة، إضافة إلى أنه يعدُّ منطقة تمركز المصالح الحيوية في المنطقة. وبالنسبة إلى كردستان العراق خاصة، فهو يطفو على بحر من النفط، حيث يقع فيه أهم حقول العراق، إضافة إلى أن كردستان العراق، يمتلك احتياطيًا نفطيًا كبيرًا يبلغ – حسب الدراسات الحديثة – حوالي نصف احتياطي النفط العراقي، الذي هو ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم.
هذا الوضع، سيجعل من القضية الكردية، شأنًا عالميًا، تهتم بتطوراته الدول الكبرى، وبخاصة روسيا التي نجحت – بالفعل – في الولوج إلى سوق النفط الكردستاني حديثًا، من خلال اتفاق شركة النفط الروسية العملاقة “روسنفت” في 2 يونيو 2017، على استكشاف وتطوير خمسة حقول في إقليم كردستان العراق، مع سعيها لأن تصبح لاعبًا رئيسًا في واحدة من أحدث المناطق النفطية وأسرعها نموًا في العالم. ووقعت “روسنفت” مع حكومة إقليم كردستان العراق، اتفاقات تقاسم إنتاج لخمس مناطق امتياز، وقالت الشركة الروسية إنها ستستهدف التنقيب عن الغاز أيضًا في المستقبل. وقال إيجور سيتشن، الرئيس التنفيذي لـ”روسنفت”، وأحد أقرب الحلفاء للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن الشركة توسع التعاون مع كردستان، بعدما وقعت في وقت سابق هذا العام، اتفاق تمويل مسبق بضمان مبيعات النفط الكردية لمصافي “روسنفت” في ألمانيا.
ليس الروس فقط مهتمين بالإقليم، فالأوروبيون – أيضًا – لهم وجهة نظر أخرى، فقد أعلن ثلاثة وثلاثون برلمانيًا للاتحاد الأوروبي يوم الخميس 21/9/2017، دعمهم لاستفتاء استقلال إقليم كردستان، مطالبين الاتحاد الأوروبي بعدم التأكيد على سيادة وحدة الأراضي العراقية فقط، بل يجب احترام مطالب الكرد أيضًا. وأشاروا إلى تجربة إدارة كردستان بتأسيس نموذج سياسي، فيه حقوق جميع المكونات والمساواة بين المرأة والرجل. كما أن “الكرد كان لهم دور كبير في مواجهة داعش، وقدموا تضحيات كبيرة في سبيل ذلك”، لافتين إلى أن “كردستان احتضنت 1.8 مليون نازح عراقي ولاجئ سوري”. وأضافوا أنهم “مطمئنون بأن كردستان قوية وديمقراطية ستصبح سببًا للاستقرار في الشرق الأوسط”. كما طالب البرلمانيون الأوروبيون “الجهات التنفيذية في الاتحاد الأوروبي بوضع استراتيجية جديدة في العراق على أسس الواقع الجديد في العراق”.
أخيرًا.. بالنسبة إلى التهديدات العسكرية الإيرانية والتركية للإقليم، فإن وجود المصالح الاقتصادية بين الأطراف، سيقلل من الخيارات المتاحة أمام كلٍّ من طهران وأنقرة. فحجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا، بلغ عام 2013 نحو 12 بليون دولار، 70 % منه مع إقليم كردستان. في حين تسعى تركيا لرفع الرقم إلى 15 بليون دولار خلال عام 2014، وهو رقم مقارب لما تسعى إيران لتحقيقه، وفق وزير الاقتصاد الإيراني، علي طيب نيا، الذي يؤكد أن حجم التبادل التجاري العراقي – الإيراني وصل حتى نهاية العام الماضي إلى 12 بليون دولار، نصفه تقريبًا كان مع إقليم كردستان. وتتطابق الأرقام مع ما تقدره تقارير المنتدى الاقتصادي في كردستان، الذي يقدِّر حجم الواردات من إيران وتركيا بنحو 14 بليون دولار، بينما تقتصر صادرات كردستان على النفط ومصادر الطاقة، ولا تزيد قيمة السلع غير النفطية على 100 مليون دولار.
إن الخطر الرئيس، ينبع من سعي الدولتين (تركيا وإيران) إلى توريط العراق في مواجهة مسلحة مع إقليم كردستان العراق، باستخدام قوات الحشد الشعبي (خيار نور المالكي). هذا الخيار، سيعقِّد الأمور أكثر، ويفتح باب تسريع عجلة التحولات السياسية بطريقة لن تستطيع دول الشرق الأوسط السيطرة عليه.
وفي هذا المجال، نستحضر تحذير البروفيسور ويليام تومسون، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد، لكلٍّ من إيران وتركيا في كتابه “القومية والإسلام”، الصادر في عام 1925: “أنه من المؤكد تمامًا أن قادة كلٍّ من تركيا وإيران لم يأخذوا في اعتبارهم، أن درس تجزئة بولونيا، قابل للتطبيق بالنسبة لأوضاع بلادهم أيضًا، هذا التقسيم الذي أثار لأول مرة المسألة القومية. إنهم لم يفكروا بعمق في أساس وجودهم الخاص ومبرراته”.
أكاديمي وباحث في العلوم السياسية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر