التطرف يخيم على أندونيسيا المتسامحة | مركز سمت للدراسات

التطرف يخيم على أندونيسيا المتسامحة

التاريخ والوقت : الإثنين, 3 ديسمبر 2018

محمد أبو الفضل

 

الإسلام في أندونيسيا حفر لنفسه مكانة تبدو مختلفة عن غيره في كثير من دول العالم، فهو يتجاوز حدود العبادات المعروفة، ويتخطى الوقوف عند كثير من الأمور الشكلية التي يتمسك بها الآن عدد كبير من الجماعات الإسلامية.

ونجح قادة كبار في أن يطوّعوا منظومة القيم الواسعة في الدين الحنيف، لتتناسب مع البيئة المحلية، التي تتكون من ثقافات منحدرة من منابع متعددة وديانات أربع رئيسية، الإسلام والمسيحية، ثم البوذية والهندوسية. الأمر الذي أرسى لبناته ما يعرف بأصحاب السنن التسعة، التي وضعها تسعة من الآباء المؤسّسين أو الأولياء الذين دخل الإسلام أندونيسيا وانتشر على أيديهم، قبل حوالي خمسة قرون.

وهذه السنن هي التي تحدّد الروافد الأساسية لشيوع ظواهر مثل التسامح والمحبة والاعتدال في هذا البلد، الذي تقطنه غالبية مسلمة، جعلت من أندونيسيا أكبر بلد مسلم في العالم. ويعيش في أندونيسيا نحو 230 مليون نسمة من المسلمين، يلتزمون بالمبادئ الخمسة المعروفة بـ”بانكسيلا”، والتي وضعها الرئيس أحمد سوكارنو كعقيدة للدولة الناشئة لتجمع الأندونسيين على مختلف مشاربهم؛ وهذه المبادئ تفسّر سر التعايش والرضا والمساواة والانسجام والمحبة التي تحياها دولة أندونيسيا، وهي: توحيد الإله والعدالة الإنسانية والوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية والشورى.

هذه السبيكة التي حفظت للدولة تماسكها ووحدتها أصبحت الآن مهددة، من قبل بعض الجماعات الراديكالية التي بدأت تتسرب إليها، عبر قنوات مختلفة، ضمن مناخ عام من التطرف يسود الكثير من الدول العربية والإسلامية. وتمكّنت بعض الحركات من تجنيد عدد من المواطنين، بطريقة لا تتناسب إطلاقا مع درجة التسامح المعهودة، حتى أن هناك حوالي 700 أندونيسي ضمن كوادر تنظيم داعش الآن، تخشى الدوائر الأمنية من أن يتحولوا في أيّ لحظة إلى قنابل موقوتة تنفجر في صدر أندونيسيا.

المشكلة ليست في هؤلاء، فهذه النسبة تعدّ ضئيلة بالنسبة إلى عدد السكان هناك، لكن الخطورة تكمن في عدم توقف حركة تجنيد المواطنين لصالح جهات متباينة، وحسب كلام أحد المصادر الدبلوماسية لـ”العرب”، تحوّلت أندونيسيا إلى فضاء أمني وسياسي كبير، لا تلعب فيه فقط حركات إسلامية لينة أو متشددة، بل نزلته بعض الدول، أملا في استقطاب عناصر تنفّذ أجندتها، ومحاولة التأثير على القرار السياسي في بلد عملاق اقتصاديا، يحتل المرتبة الـ15 في ترتيب الدول ذات الاقتصاد القوي عالميا، كما أن تأثيراته الممتدة تصل إلى بعض الدول المجاورة، خاصة الجارتين ماليزيا وسنغافورة.

جبهات خارجية متصارعة

الواقع أن هناك ثلاث جبهات خارجية، لديها مشروعات سياسية مغلفة بأطر إسلامية، بدأت تظهر بصماتها على الساحة، وكل جهة (دولة)، حسب كلام الدبلوماسي، عندها من الروافد المحلية ما يمكن أن يساعدها على أن تكون لها عناصر تنفّذ أجندتها السياسية، في العلن أو من وراء ستار.

* جبهة تركيا وقطر: تعزف هذه الجبهة على وتر توظيف جماعة الإخوان المسلمين، ذات الجذور الممتدة في أندونيسيا، وربما تكون عناصرها غير مؤثرة سياسيا بصورة كبيرة، لكن بفضل الدعم الوارد إليها من الخارج، بدأت تتزايد مكونات قوتها، والتي يعكسها حزب “العدالة والرفاهية”، الذي يعد الجناح السياسي للجماعة هناك، وله نحو 5 بالمئة من عدد مقاعد نواب البرلمان (العدد الإجمالي 500 عضو).

ونجح هذا الفصيل في الاستفادة مما يحدث للإخوان في مصر تحديدا، وقدم صورة غير حقيقية للأزمة السياسية التي تسبب فيها الإخوان في مصر، بطريقة جعلت فئات كثيرة من المواطنين تبدو مقتنعة بأن هناك “مظلومية” تعرضوا لها.

حتى أن السيدة زنوبيا ابنة الرئيس الأندونيسي الأسبق عبدالرحمن وحيد (أحد قادة جبهة العلماء) أبدت ارتياحا لما سمعته حول حقيقة ما يمارسه الإخوان من عنف في مصر، وأن المحاكمات القضائية التي تجري لقياداتها قانونية وغير مسيّسة، بما فيها أحكام الإعدامات الأخيرة.

بدت زنوبيا، التي يتم تجهيزها للقيام بدور سياسي كبير، على غرار ميغاواتي سوهارتو (بنت الرئيس الأندونيسي الأسبق) التي تولت رئاسة البلاد عقب إزاحة الرئيس وحيد بعد عامين فقط من حكمه (1999-2001)، مقتنعة عندما قلت لها “أحكام الإعدام أضرت بالنظام المصري، فكيف تكون سياسية، هل يوجد نظام في العالم يؤذي نفسه”.

ولا تتوقف التحركات التركية والقطرية، عند الدعم المادي والإعلامي، لكنها تصل إلى حد توفير فائض كبير من الدعم المعنوي (غير المعلن)، للوصول إلى التأثير على القرار السياسي مستقبلا، خاصة أن التوجّهات الرسمية في جاكرتا ضدّ سياسات أنقرة والدوحة في الملف الإخواني وتعارضها، وهي أقرب لموقف النظام المصري، الذي وضع الجماعة في خانة التنظيمات الإرهابية.

بالتالي يمنح التأييد في هذه الحالة درجة من الثقة في تحمل الضغوط التي يتعرض لها حزب “العدالة والرفاهية” من قبل كثير من النخب والأحزاب السياسية في أندونيسيا، التي تعرف جيدا طبيعة وأغراض المشروع السياسي للإخوان، والذي يتنافى مع الخصال الخمس لـ “بانكسيلا” (PANCASILA).

ما يعني أن اشتداد عود الجماعة في المعارضة، سوف يجعلها رقما يؤثر سلبا على الميراث الكبير من التسامح، الذي على أساسه قامت دولة أندونيسيا، وبموجبه حافظت على وحدتها وتماسكها. من هنا يمكن فهم أسباب التصدي للإخوان، من جانب “نهضة العلماء” التي تضم تحت جناحيها نحو 70 مليون عضو، ولها 20 بالمئة من أعضاء البرلمان، وينتمي إليها ست من الوزراء في الحكومة الحالية، إلى جانب يوسف كلا نائب رئيس الجمهورية.

ولا تزال الجمعية تخوض معركة خفية لكسر عظم الجماعة (الإخوان) سياسيا، مستغلة الثقل المادي والمعنوي الذي تمتلكه وسط الجماهير، لوقف زحف المزيد من تدخلات كل من تركيا وقطر، انطلاقا من عالمية التنظيم الدولي للإخوان.

المثير للانتباه في مسألة الخلاف المحتدم بين الطرفين، أن “نهضة العلماء” تملك شبكة عنكبوتية تبدو متشابهة مع التركيبة الهرمية المعقدة التي تقوم عليها جماعة الإخوان، بمعنى أن هناك قيادات مركزية وتراتبية إقليمية وشعبا كثيرة منتشرة في جميع أنحاء البلاد، وحتى تاريخ النشأة متقارب، فـ”نهضة العلماء” تأسست في يناير 1926، وبعد عامين جرى الإعلان عن تأسيس جماعة الإخوان، والأشد غرابة أن مقر “نهضة العلماء” في جاكرتا قريب الشبه بمقر الإخوان في حي المقطم بالقاهرة، مع اختلاف بسيط في عدد الطوابق، ومع ذلك تظهر علامات الخلاف واضحة بين الجانبين في معظم القضايا السياسية، ويصل الصدام إلى ذروته في رفض الخصوصية التي يحاول كل طرف ترويجها عن نفسه بشأن النظرة لمستقبل الإسلام في أندونيسيا.

* جبهة إيران: رصدت دوائر أمنية في أندونيسيا، تسارع في وتيرة التشيّع في أكبر دولة سنية في العالم. ولاحظت السلطات المهتمة في أندونيسيا انتشار التشيع بالأساس في بعض القرى الفقيرة في أنحاء مختلفة في البلاد، وجرى رصد تدفق أموال بصور ملتوية، كما لوحظ توسع في طباعة الكتب الشيعية باللغة الأندونيسية (الهارسا).

وقد فسر مصطفى بشري، الرئيس العام للهيئة الشورية لجمعية “نهضة العلماء”، هذه الظاهرة بتوظيف حالة الغرام المعروفة لدى الأندونيسيين بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والتي جعلت قطاعا كبيرا من المواطنين يميلون إلى التصوّف بالفطرة وبحكم البيئة المحلية المتسامحة أصلا، والتي تتسق مع السمو الروحي لدى الصوفية.

وقال محمد إمدادالرحمن، مساعد سكرتير الجمعية، إن الصراع الخفي بين قوى عربية وإيران على محاولة التواجد على الساحة الأندونيسية، ليس فقط لأنها أكبر دولة مسلمة، لكن لأنها مرشحة أن تكون لها تأثيرات كبيرة على موازين سياسية واقتصادية في المستقبل، ناهيك عن امتلاكها لنموذج إسلامي خاص بها يوصف في كثير من الأدبيات السياسية الآن بـ”الإسلام الأندونيسي”، وينتظره أفق إيجابي خارج البلاد، لا سيما أنه أصبح يحظى بدرجة من الانتشار في دول مجاورة، وهناك نواة لفروع خارجية عدة.

من هذه الزاوية، يمكن أن يشكّل هذا الإسلام الأندونيسي السنّي تهديدا مباشرا على المشروع الإيراني (الشيعي)، الذي يجد فرصة للتمدّد في ظل غياب المشروعات الإسلامية الأخرى (المناوئة)، على هذا الأساس بدأت أندونيسيا تتحول إلى ملعب فسيح، تتصارع فيه جهات مختلفة، ويصعب أن تكون طهران وعناصرها بعيدة عنه.

* المملكة العربية السعودية: هي الجبهة الثالثة التي نجحت خلال الفترة الماضية في أن يكون لها موطئ قدم شعبي لافت، بحكم مكانة السعودية في العالم الإسلامي.

وثقل السعودية المحوري، مستمد من انتماء كثير من عناصر جمعية “المحمدية” في أندونيسيا إلى السلفية، ويبلغ عدد أعضاء هذه الجمعية نحو خمسين مليون مواطن، الأمر الذي منحها وزنا سياسيا، وضعها في مناكفة دائمة مع جمعية “نهضة العلماء”، التي تمثل الجناح الأكثر تسامحا في البلاد، والتي تخوض حربا ضد التطرف بكل أنواعه.

في هذا السياق، أكد يحيى ثقوف، سكرتير عام جمعية “نهضة العلماء” لـ”العرب”، أن الراديكالية أضحت تهدد المبادئ التي تقوم عليها الدولة، ويعتقد أن هذا المرض طارئ، لكن من الواجب اجتثاثه قبل استفحاله، والتأثير على القيم المجتمعية الراسخة.

الحرب ضد الراديكالية

مع أن حكم الرئيس جوكو ويدودو يسعى حاليا إلى أن يكون قريبا من جميع الفرقاء، إلا أن موقفه الثابت من مكافحة التشدد، وضعه في خلاف مع بعض الجماعات ذات التوجهات المتطرفة، بروافدها الداخلية والخارجية، لذلك يخوض الآن معركة ضد هؤلاء، ورغم أن جمعية “نهضة العلماء” لم تكن مؤيدة له وقت انتخابه منذ نحو عام، إلا أن الوقوف ضد الجماعات الراديكالية والتكفيرية ساهم في تقريب كثير من المسافات بينهما.

ولا يخلو الأمر أيضا من تفاهمات في ملفات وقضايا سياسية أخرى، دعما وتأييدا لخصوصية نموذج “الإسلام الأندونيسي” الذي تبدو جاكرتا راغبة في تصديره للعالم، كوجه حضاري من الممكن أن يلقى قبولا، حيث يقوم على عدم الخصام مع الآخر، وتوسيع نطاق التفاهم حول النقاط المشتركة، ما يمنحه مزايا نوعية في مواجهة التيارات الإسلامية المتشددة أو حتى تلك التي تزعم أنها تقدم رؤية معتدلة

 

المصدر: صحيفة العرب

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر