البنك المركزي | مركز سمت للدراسات

الانكماش لا يلغي المشاكل التي يسببها التضخم

التاريخ والوقت : الخميس, 10 ديسمبر 2020

فرانك شوستاك

 

من خلال طرق التفكير الشائعة، يتركز دور البنك المركزي في التأكد من أن الاقتصاد يتبع مسار النمو الاقتصادي المستقر والأسعار، حيث يُنظر إلى الاقتصاد على أنه أشبه بمركبة فضائية تنزلق أحيانًا من هذا المسار.

وباتباع هذه الطريقة من التفكير عندما يتباطأ النشاط الاقتصادي ويبتعد عن مسار النمو الاقتصادي المستقر والأسعار المستقرة، فمن واجب البنك المركزي دعمه بالدفعات اللازمة، مما يعيده إلى مساره الصحيح. ويتم الدفع عن طريق سياسة نقدية فضفاضة، تتضمن خفض أسعار الفائدة ورفع معدل نمو المعروض النقدي.

وبخلاف ذلك، عندما يُنظر إلى النشاط الاقتصادي على أنه “قوي للغاية”، فمن أجل منع “الإنهاك”، يجب على البنك المركزي “تهدئة” الاقتصاد من خلال تبني موقف نقدي أكثر تشددًا؛ وهو ما يرقى إلى رفع أسعار الفائدة وتباطؤ الحقن النقدي. ويُعتقد أن الموقف الأكثر تشددًا سيضع الاقتصاد على مسار نمو اقتصادي مستقر وأسعار مستقرة.

ومن ثَمَّ، فباتباع طريقة التفكير هذه، من المنطقي للغاية بالنسبة للبنك المركزي أن يراقب الاقتصاد طوال الوقت وإجراء التعديلات اللازمة من أجل إبقائه على مسار نمو مستقر. ويبدو أيضًا كما لو أن الموقف النقدي الأكثر تشددًا يمكن أن يوازن آثار الموقف النقدي المتساهل السابق.

لماذا لا يمكن للموقف النقدي المتشدد أن يمحو آثار الموقف المرن؟

لا يمكن للموقف النقدي الصارم التراجع عن سلبيات الموقف الفضفاض السابق. ولا يمكن للموقف المحكم بشدة عكس التخصيص الخاطئ للموارد الذي يحدث خلال تلك الحالة الفضفاضة وذلك وفقًا لما ذكره “بيرسي إل جريفز جونيور”، بخصوص أسباب الأزمة الاقتصادية، والكثير من المقالات الأخرى الخاصة بحالة الكساد الكبير. هنا يمكن الإشارة إلى أن الانكماش لا يمكن أبدًا أن يصلح الضرر الناتج عن التضخم السابق عليه.

وغالبًا ما يتم تشبيه هذه العملية بسائق سيارة قام بدهس شخصٍ ثم حاول معالجة الموقف من خلال دعم الضحية في الاتجاه المعاكس. إذ يؤدي التضخم إلى تشويش التغييرات في الثروة والدخل بحيث يصبح من المستحيل التراجع عن الآثار الناجمة عنه. وبالتالي، فإن التلاعب الانكماشي لكميات النقود يعد مدمرًا بشدة لعمليات السوق وذلك على أساس أسعار السوق غير المقيدة، ومعدلات الأجور وأسعار الفائدة، والتلاعبات التضخمية لكمية المال.

من المرجح أن يؤدي الموقف النقدي الصعب إلى تقويض تداعيات الفقاعات المختلفة في اتجاه حدوث تشوهات متعاقبة، وبالتالي إلحاق الضرر بمُوَلِّدِي الثروة. ولا يزال الموقف الأكثر تشددًا هو تدخل البنك المركزي، وبهذا المعنى فمن الصعب تخصيص الموارد بما يتماشى مع أولويات المستهلكين القصوى، وهو ما لا يعني أن الموقف الأكثر تشددًا يمكن أن يعكس الضرر الناجم عن السياسة التضخمية.

إن تحرير الاقتصاد من تدخل البنك المركزي في سياسات أسعار الفائدة وعرض النقود من شأنه أن يوقف عملية تدمير الثروة. إذ سيؤدي هذا إلى تعزيز عملية تكوين الثروة الحقيقية. ومع وجود مجموعة أكبر من الثروة الحقيقية، سيكون من الأسهل بكثير استيعاب الموارد المختلفة غير المخصصة. ويلاحظ أنه من المحتمل أن يكون استيعاب بعض الموارد، بسبب طبيعتها، أصعب بكثير. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يختفي الطلب على بعض السلع الرأسمالية وبعض المهارات البشرية أو يضعف بشكل كبير في بيئة السوق الحرة الجديدة.

هل يمكن لسياسات البنك المركزي أن تبقي الاقتصاد على مسار نمو مستقر؟

يرى معظم الخبراء أن العقبة الرئيسة أمام السير في طريق النمو المستقر واستقرار الأسعار تنتج عن تذبذب قيمة الأموال الفيدرالية حول سعر الفائدة المحايد، الذي يتم الاحتفاظ به بشكلٍ يتوافق مع الأسعار المستقرة والاقتصاد المتوازن. هنا، فمن المفترض أن يستهدف صناع السياسة الفيدرالية بنجاح معدل الأموال الفيدرالية نحو سعر الفائدة المحايد. ووفقًا لهذا الرأي، فإن المصدر الرئيس لعدم الاستقرار الاقتصادي هو التغير في الفجوة بين سعر الفائدة في سوق المال وسعر الفائدة المحايد.

وفي إطار هذا التفكير، يتم تحديد سعر الفائدة المحايد عند تقاطع منحنيي العرض الكلي والطلب الكلي. فإذا انخفض سعر الفائدة في السوق إلى ما دون معدل الفائدة المحايد، فسوف يتجاوز الاستثمار المدخرات؛ مما يعني أن إجمالي الطلب سيكون أكبر من إجمالي العرض. وإذا افترضنا أن الطلب الزائد يتم تمويله من خلال التوسع في القروض المصرفية، فإن هذا سيؤدي إلى إنشاء أموال جديدة، وهو ما يقود بدوره إلى رفع المستوى العام للأسعار.

وبخلاف ذلك، إذا ارتفع سعر الفائدة في السوق عن سعر الفائدة المحايد، فستتجاوز المدخرات حجم الاستثمار، وسيتجاوز إجمالي العرض الطلب الكلي، وسوف ينكمش مخزون المال، كما ستنخفض الأسعار. ومن ثَمَّ، فعندما يتماشى سعر الفائدة في السوق مع سعر الفائدة المحايد، فإن الاقتصاد سيكون في حالة توازن ولا توجد ضغوط صعودية أو هبوطية على مستوى السعر.وبالتالي، فإن المشكلة الرئيسية في هذا المقام تكمن في أنه لا يمكن ملاحظة سعر الفائدة المحايد. وهو ما يطرح التساؤل: كيف يمكن للمرء أن يعرف إن كان سعر الفائدة في السوق أعلى أو أقل من سعر الفائدة المحايد؟

وعلى الرغم من أنه لا يمكن ملاحظة سعر الفائدة المحايد، فإن الاقتصاديين يرون أنه يمكن تقديره بوسائل غير مباشرة مختلفة. ومن أجل استخراج معدل الفائدة المحايد غير القابل للرصد، يستخدم الاقتصاديون الآن أساليب رياضية معقدة مثل “نموذج كالمان”. وفي عملية محاولة التأكد من مسار النمو المستقر، يفترض الاقتصاديون وجود منحنيات العرض والطلب الإجمالية. إذ يولد تقاطع هذه المنحنيات ما يسمى بالتوازن الذي من المفترض أن يتوافق مع مسار نمو الاستقرار الاقتصادي. لكن قانون العرض والطلب كما قدمه الاقتصاد الشعبي لا ينشأ من حقائق الواقع، بل من البناء الخيالي للاقتصاديين. ولم تنشأ أي من الأرقام التي تدعم منحنيات العرض والطلب في العالم الحقيقي؛ كل ذلك يُعدُّ محض خيال. ومع ذلك، يناقش الاقتصاديون بشدة جملة الخصائص المختلفة لهذه المنحنيات غير المرئية وآثارها على سياسات الحكومة والبنك المركزي.

لماذا التوازن العام يبدو خيالاً؟

إن وجود توازن عام كما هو موضح في التقاطع بين منحنى عرض الاقتصاد الكلي مع منحنى طلب الاقتصاد الكلي، يبدو أمرًا مشكوكًا فيه. فالاقتصاد على هذا النحو لا يوجد بمعزل عن الأفراد. ومن ثم، فإن الشيء غير الموجود لا يمكن أن يسعى إلى نوع من التوازن العام، ذلك أن مفهوم التوازن يُعدُّ مناسبًا بالنسبة للأفراد فقط.

بجانب ذلك، فإن التوازن في سياق السلوك الواعي والهادف للفرد ليس له علاقة بالتوازن الخيالي كما يصوره الاقتصاد الشعبي. إذ يتم تحقيق التوازن عندما تتحقق أهداف الأفراد. فعندما ينجح مورد في بيع عرضه بسعر يحقق ربحًا، في هذه الحال يقال إنه وصل إلى وضع توازني. وبالمثل، فإن المستهلكين الذين اشتروا هذا العرض قاموا بذلك من أجل تحقيق أهدافهم. ومرة أخرى، فإن كل فردٍ في سياقه الخاص يسهم في تحقيق توازنه كلما وصل إلى هدفه.

ويلاحظ أنه في حالة عدم وجود تدخل من البنك المركزي، فإن سعر الفائدة الذي سيتم تحديده سوف يتماشى مع الأهداف المختلفة للأفراد. وسيعكس سعر الفائدة هذا أهداف الأفراد وليس رغبات مخططي البنوك المركزية. وبالتالي، قد يكتشف بعض الأفراد أن سعر الفائدة الذي يتعين عليهم دفعه أقل بكثير مما هم على استعداد لدفعه. وبالنسبة لبعض الأفراد الآخرين، قد يتضح أن سعر الفائدة في السوق الحرة مرتفع جدًا. وبالتالي، سيكونون خارج نطاق السوق. وفي هذه الحالة سيكون الإقراض   هو الذي يحدد سعر الفائدة في السوق، وليس تقاطع منحنيي العرض والطلب.

والآن، فبمجرد تنفيذ السياسات لتحقيق معدل الفائدة المحايد، الذي من المفترض أن يعكس ما يسمى بالتوازن العام كما هو محدد بواسطة النماذج الرياضية، فمن المحتمل أن يكون هذا متناقضًا مع ما كان يمكن أن يؤسسه السوق الحرة. وهو ما سيؤدي، نتيجة لذلك، إلى سوء تخصيص الموارد وإضعاف عملية تكوين الثروة الحقيقية، أي الإفقار الاقتصادي. ومن خلال تحديد المعدل المستهدف للأموال الفيدرالية، يدعي صانعو السياسة الفيدرالية أن لديهم معلومات رقمية حول معدل الفائدة الذي يتوافق مع مسار النمو الاقتصادي المستقر والأسعار المستقرة. هنا يمكن القول بأن فشل الاقتصادات المخططة مركزيًا مثل الاتحاد السوفييتي السابق إنما هو شهادة على أن محاولة السلطات المركزية دفع الاقتصاد نحو مسار النمو كما يمليه البيروقراطيون الحكوميون تؤدي إلى كارثة اقتصادية.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: مؤسسة مايزيس للأبحاث Mises Institute

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر