الانقسام الأخطر في العالم | مركز سمت للدراسات

الانقسام الأخطر في العالم

التاريخ والوقت : الأربعاء, 27 مارس 2019

كشمير هي المكان الوحيد في العالم الذي يشهد نزاعًا حدوديًا بين اثنتين من القوى النووية.

 

جون فيفر

 

في إحدى روايات الرعب القيمة وعنوانها (مدينة ديفي)، يتصاعد الحقد الطائفي بين الهند وباكستان حتى يصل البلدان إلى حد التهديد بالأسلحة النووية. وكما كتب مؤلف الرواية “مانيل سوري”، فإن “القنابل النووية تشبه رقائق البطاطس”، ولا يكتفي أحدٌ بواحدةٍ فقط؛ فكلا البلدان يتوقعان سيناريو هجوم من الطرف الآخر، وهو ما يدفع البلد المعتدى عليه إلى استخدام جميع أسلحته دفعةً واحدةً”.

ويصاب سكان كلتا المدينتين بالذعر، إذ يفرُّ السكان بكثافة سواء بالطائرة أو بالقطار، أو حتى سيرًا على الأقدام، أمَّا الأثرياء فيتكدسون على أرصفة السفن التي تستعد للسفر. بينما يتمكن رجلٌ وامرأةٌ من اجتياز هذه الفوضى بحثًا عن مكان يعبران فيه عن عواطفهما، حيث يتولد بينهما علاقة عاطفية. لقد كانا يأملان في ألا تسقط القنابل. لكن حادثًا ما يقع بالفعل، حيث تطلق باكستان صاروخًا بطريق الخطأ على بومباي، لترد الهند بغارات على مدينة كراتشي. وفي تقييمه للأضرار الناجمة عن تلك الأحداث يقول إحدى شخصيات الرواية وهو السيد “تشيريو” Cheerio: “قد تظنني ذات دم بارد، لكن ذلك واحد من أفضل النتائج الممكنة فيما يتعلق بالتكلفة البشرية؛ فقد أصيبت إحدى المدينتين أو كلتاهما، كما أنهما باتتا خاويتين، هل لك أن تتخيل ذلك ولو بشكل ضئيل؟ لقد كان واردًا أن يتبدل الأمر حاليًا أو مستقبلاً، فقد مضت الأمور بعيدًا. لقد كانت جميع عمليات المحاكاة للحروب التي رأيتها ذات نتائج متوقعة ومغايرة للطريقة التي بدت عليها”.

“مانويل سوري” متخصص بالأساس في علم الرياضيات، بالإضافة إلى كونه كاتبًا، لذا فهو على دراية بعلم الاحتمالات. فالدمار الذي أحدثه التبادل النووي في رواية (مدينة ديفي) أمر فظيع، حيث انطوى على حرقٍ وإشعاعٍ وأضرارٍ طالت البيئة كلها. لكن “رَميَةً” من النرد النووي من شأنها أن تحدث نتائج أسوأ بكثير.

ومن ثَمَّ، يفكر كلٌ من الهند باكستان، بل وبقية دول العالم في هذا السيناريو “الأسوأ” خلال الآونة الأخيرة. وفي المجمل، فإن منطقة شبه الجزيرة الكورية ليست هي المكان الأكثر احتمالاً لنشوب حرب نووية. لكن الأمر لا يبدو كالذي عاشته أوروبا خلال الحرب الباردة، ولا يشمل ذلك المخبأ السري للقنابل الهيدروجينية بإسرائيل. فإذا اندلعت الحرب النووية، فسيكون ذلك نتيجة لسوء تقدير الحسابات من جانب الهند وباكستان. فهناك متعصبون بكلا الجانبين ممن يهتمون فقط بقهر منافسيهم بأي وسيلة. وعلى عكس ما حدث بالرواية، فإن خفض النزاع الكارثي الحالي ليس بالأمر الحتمي.

الانتقام التكافلي

دخلت الهند وباكستان في عملية شدٍّ وجذبٍ حول إقليم كشمير منذ انفصالهما عقب الاستقلال في 1947، وخاضت الصين أيضًا حربًا مع الهند حول جزء من أراضيها، لتبقى كشمير هي المكان الوحيد بالعالم الذي يشهد نزاعًا حدوديًا من ثلاث قوى نووية.

وفي أكثر المناطق اشتعالاً للصراع، تتعرض منطقة “جامو وكشمير” شمالي الهند لحركةٍ انفصاليةٍ تدور في فلك الطرف الديني تجاه نحو نصف مليون جندي هندي، حيث شهدت المنطقة ثلاث حروب بين الهند وباكستان، فضلاً عن مناوشات مستمرة تندلع فيما بينهما، ما أودى بحياة 70 ألف شخص.

وفي إطار التمرد ضد سيطرة الهند على هذا الجزء من كشمير، قام أحد الانتحاريين بمهاجمة وحدة عسكرية هندية، الشهر الماضي، ما أسفر عن مقتل 40 شخصًا. وكردٍّ على ذلك، شنَّت الهند أول هجوم على حدودها مع باكستان منذ نحو 50 عامًا، فقصفت معسكرًا للمسلحين، لتردَّ عليه باكستان بإلقاء القنابل داخل الأراضي الهندية. ويبدو أن ذلك الهجوم لم يسفر عن أية خسائر، إلا أن الهند ادعت عكس ذلك.

وخلال اشتباكات لاحقة، أسقطت باكستان إحدى المقاتلات الهندية، وأسرت قائدها. لكن باكستان، وفي خطوة تبعث على الأمل، أعادت الطيار إلى الهند “كبادرة للسلام”. ومع ذلك، ردَّ رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” بلهجة تهديد قائلاً: “إن الهجمات التي شنتها الهند كانت مجرد تهديد، لكن الآن علينا أن نجعل تلك التهديدات حقيقية”.

ومع ذلك، لا يبدو أن ثمة هجمات أخرى وشيكة؛ فقد توعدت باكستان بمتابعة المتطرفين، بل إنها اتخذت بعض الخطوات في هذا الاتجاه. وكما أوضحت مجلة “الإيكونومست”، فإن “العلاقات بين الهند وباكستان تعود إلى حالة الازدراء المفرط ووصلت إلى حافة الهاوية بعد أسبوع من التصعيد العسكري”. ومع ذلك، فمن الخطأ الاعتقاد بأن كل شيء على ما يرام في شبه القارة الهندية.

إشارات المستقبل

يتبنى الحزب الحاكم في الهند بقيادة “ناريندرا مودي” رؤية قومية هندوسية متشددة. وقد تعززت هذه القومية بدرجة كبيرة منذ أربع سنوات عندما فاز حزب “بهاراتيا جاناتا” بالأغلبية البرلمانية.

لكن بمجرد وصوله إلى السلطة، تراجع “مودي” عن إثارة مشاعر أتباعه المتشددين. وفي هذا يكتب “ماكس فروست” في مجلة “المصلحة الوطنية” National Interest:

“لقد قام السياسيون الهنود بفرض القومية الهندوسية المتشددة من خلال قوانين حماية الأبقار المتشددة، وتغيير أسماء المدن الإسلامية، وتعيين عدد من متشددي التيار القومي الهندوسيين في مناصب عليا. وهو ما يفسر قيام مودي بتعيين الراهب الهندوسي يوجي أديتياناث Adityanathحاكماً لأكثر الولايات الهندية سكانًا. ومن المأثور عن أديتياناث قوله: (الهندوس يستعدون للحرب الدينية)، كما أنه وصف المسلمين بـ(محصول للحيوانات التي يجب إيقافه)”.

واستهدف القوميون الهندوس الدستور الهندي، الذي يمنح ولاية “جامو وكشمير” ذات الغالبية المسلمة وضعًا خاصًا يتمتع بمزيد من الحكم الذاتي. لذلك، وعلى سبيل المثال، لا يستطيع المواطنون الهنود في مناطق أخرى من البلاد أن يشتروا العقارات في المقاطعة، وهو ما يتيح  لها الاحتفاظ بغالبية المسلمين. لكن كبار المسؤولين بحزب “بهاراتيا جاناتا” يسعون لإلغاء المادة (370) من الدستور.

من المتوقع أن تشهد الهند انتخابات في الشهر المقبل، حيث يسعى “مودي” لولاية ثانية. ونتيجة لعدد كبير من المشاكل التي تواجه البلاد، فمن المتوقع أن تشهد صناديق الاقتراع ردَّ فعل عنيفًا. وكان الردُّ العدائي على باكستان قد عزَّز رصيد “مودي” الانتخابي. ووفقًا للمحلل السياسي “يوجندرا يادوف”Yogendra Yadav، فمن المحتمل أن يخسر حزب “مودي” نحو 100 مقعد على الأقل في الانتخابات المقبلة. لكن في الوقت الراهن يسود انطباع بأن الأمور قد تحسنت بالنسبة لحزب “بهاراتيا جاناتا”.

وفي الوقت الذي وعدت باكستان بملاحقة المتشددين المشتبه بهم في أراضيها، يجد رئيس الوزراء “عمران خان” نفسه في موقف صعب. إذ إن البلاد تعاني حالة إفلاس في الواقع، وقد لجأ للحصول على مساعدات من دول مثل المملكة العربية السعودية، وتبنى مقاربة أكثر توافقًا مع طالبان كسبيل لإنهاء الحرب في أفغانستان، والحد من المشكلات العابرة للحدود. بجانب ذلك، فإن الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترمب، لم تبدِ الكثير من الود. ومع أن الصين تحتفظ بعلاقات أفضل نسبيًا مع إسلام أباد، إلا أنها تقوم بعمل انتقائي جدًا في الضغط على حليفتها للقضاء على التطرف. ثم إن “بكين” تعتبر بعض الفصائل المتطرفة ذات منفعة في تعزيز النفوذ الصيني بأفغانستان، فضلاً عن تعطيل دور منافسها الرئيسي في المنطقة، أي الهند.

برلين الجديدة

تشير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن إدارة ترمب ليست في وضع يتيح لها القيام بدور الوسيط بين الهند وباكستان، وذلك بالنظر إلى الميل الواضح للهند، حيث تسعى لخدمة مصالحها التجارية. وفي هذا السياق، تعدُّ شبه القارة الهندية ساحة للصراع بين الولايات المتحدة والصين، فبينما تمَّ تبني مبادرة “الحزام والطريق” في باكستان، تضغط الولايات المتحدة على الهند من أجل الانضمام إلى استراتيجية الاحتواء ضد إيران.

وعلى هذا، فقد تشكل الهند وباكستان تكرارًا لتجربة التحديث التي شهدتها ألمانيا في أعقاب الحرب الباردة. ومن ثَمَّ، فإن كشمير، هي برلين الجديدة، إذ إنها مقسمة، ومتوترة، ومليئة بالمشكلات، وقد وجدت قوتان عظميان تتنافسان في “لعبة الظل”، ووضعت لهذه اللعبة المواجهة العسكرية والديناميكية الخاصة بها؛ وهو ما يعبر عنه “أرزون تارابورا” في كتابه (حرب على الصخور) بالقول: “أبدت الهند رغبة شديدة لفرض أعباء على باكستان، وبخاصة فيما يتعلق بالمخاطر. ومن المحتمل ألا تردع الممارسات الهندية باكستان، رغم أن الأزمة المقبلة أكثر خطورة. فالهند ربَّما ترى حاليًا إمكانية ضرب جارتها، واستيعاب الرد الباكستاني، وتحقيق وضع آمن بالنسبة لها مستقبلاً. لكن مع تزايد قلق باكستان حاليًا بشأن إمكانية الردع، فإن هذه الأزمة من شأنها أن تحفز كلا الجانبين على اتخاذ إجراءات أكثر خطورة في المرات القادمة”.

ربَّما تتصاعد مثل هذه الأعمال الخطيرة إلى حدِّ التهديد النووي، وهو ما يجعل عواقب التبادل النووي أسوأ بكثير مما يتم تصويره في رواية (مدينة ديفي). فإذا كان الجانبان لا يستخدمان سوى جزء من ترسانتهما النووية، فإن ذلك سيؤدي إلى قتل ملايين الأشخاص في شبه القارة الهندية، فضلاً عن تأثيرات كارثية في كافة أنحاء العالم. فربَّما يستقر فصل الشتاء النووي، ويؤدي الجوع والجفاف والمرض الناتج عنه إلى مقتل ما يصل إلى ملياري شخص.

والآن، وبعد أن مرت الأزمة الحادة، يتعين على الجهات الفاعلة إقليميًا أن تعمل على نزع فتيل النزاع النووي الأخطر في العالم. وينبغي أن تبدأ تلك الجهود بكشمير نفسها. ولحسن الحظ، فإن المهمة الصعبة والمتمثلة في التوصل إلى حل مشترك لهذه المشكلة، تمَّ تنفيذها بالفعل في منتصف العقد الأول من القرن العشرين؛ وهو ما يؤكده “أحمد رشيد” بأن الوفدين البريطاني والباكستاني قد وافقا على فكرة “مراقبة الحدود” في الأجزاء التابعة لسيطرة الهند وباكستان بإقليم كشمير، وهي الفكرة التي وصفت بأنها “آلية مشتركة” تهدف إلى الإشراف على الحقوق السياسية والاقتصادية لأبناء إقليم كشمير على جانبي الخط الحدودي.

وهكذا يبدو أن “خان” بات مستعدًا لإعادة النظر في هذا الاتفاق، في حين لن يتزحزح “مودي” إلا بعد الانتخابات. أمَّا العنصر المفقود في هذه المرحلة، فهو الضغط الوافد من خارج شبه القارة الهندية. ومن ثَمَّ، فإن موقف إدارة ترمب، وكذلك العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، تشكل عقبات كبيرة في هذا السياق. وكذلك ربَّما يتسع إدراك الهند وباكستان عما يذهب إليه مؤيدوهما، وهو ما يعكس وضع الحضارات القديمة التي نجت من العديد من العواصف السابقة، وهو ما يفرض عليهما التعاون المشترك لتجنب الشتاء النووي.

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: مجلة “السياسة الخارجية تحت المجهر” Foreign Policy in Focus

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر