سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ميتشل أورينستين
لقد أسيء تفسير الانتخابات الرئاسية في بولندا في الصحافة الأجنبية. فبينما كانت الانتخابات تدور، في ظاهرها، كحرب ثقافية بين نصف بولندا التقليدي والقومي ونصفها الآخر الأصغر سنًا والأكثر ليبرالية، نجد أن السبب الحقيقي لإعادة انتخاب “أندريه دودا”.
في إطار العبارة الخالدة للاستراتيجي والسياسي الأميركي “جيمس كارفيل”، “إنه الاقتصاد يا غبي”، نما الاقتصاد البولندي بقوة في ظل حكومة القانون والعدالة (PiS)، بمعدل 5% سنويًا حتى تباطأ بفعل أزمة “كوفيد – 19”. ومع هذا النوع من النمو القوي، كان من المفترض أن يتمتع أي سياسي في السلطة بفرصة جيدة لإعادة انتخابه. علاوة على ذلك، قام حزب “القانون والعدالة” بسن سياسات اجتماعية واقتصادية مكَّنَت العديد من البولنديين الذين أصابتهم السوق الحرة من تحقيق ما يعتبرونه أسلوب حياة من الطبقة المتوسطة، مما يعني القدرة على تغطية نفقاتهم وحتى إمكانية أخذ الإجازة المناسبة وقتما يشاؤون؛ بل ليس من المستغرب على الإطلاق أن يصوت البولنديون لـ”دودا” على منافسه “رافال ترزاسكوفسكي”، الذي يمثل حزب المنبر المدني الليبراليCivic Platform، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في بولندا في 13 يوليو الماضي. واستنادًا إلى الأداء الاقتصادي وحده، كان من المفترض أن تكون هذه الانتخابات ذات نتائج ساحقة.
هنا نشير إلى حقيقة أن المواقف الانتخابية كانت متقاربة، إذ فاز “دودا” بنسبة 51% من الأصوات مقابل 49% لـ”ترزاسكوفسكي”، فيما يعكس عدم الرضا على نطاق واسع عن السياسات الثقافية غير الشعبية لحزب القانون والعدالة وليس التأييد. ويحشد حزب القانون والعدالة قاعدته بمجموعة من السياسات القومية المحافظة، بما في ذلك التشكيك في الانتماء لأوروبا، ومعارضة حقوق المثليين، وسياسات الإعلام والعدالة التي تهدد الديمقراطية التي تثير غضب العديد من البولنديين. ناهيك عن نظرية مؤامرة “سمولينسك” القائلة بأن روسيا والحكومة السابقة تآمرا لقتل رئيس سابق، وهو ما كان يعد في حقيقة الأمر حادث تحطم طائرة عرضيًا. إن إطعام اللحوم الحمراء للقاعدة الشعبية واتباع سياسة تتسم بجنون العظمة من شأنها أن تُقَسِّم بولندا إلى بولنديين “حقيقيين” و”بولنديين من أسوأ الأنواع” وهنا يدور النقاش حول ما كان يمكن أن يعدُّ انتصارًا سريعًا في فترة قصيرة جدًا.
باختصار، يجعل معظم المحللين الغربيين السياسة البولندية عائدة إلى الوراء، إذ لم يفز “دودا”؛ لأنه حشد أغلبية تقليدية محافظة. ذلك أنها ليست أغلبية، فقد كان ناخبو اليمين القومي الكاثوليكي في صَفِّه بالفعل. وكاد “دودا” يخسر لأنه قوّض هذه المجموعة التي تشكل ما يقرب من ثلث الناخبين البولنديين، وذلك من خلال بقائه وفيًا لأيديولوجية هذه المجموعة، إذ كاد يفقد زمام المبادرة التي بنيت على سياسات اجتماعية واقتصادية ذات شعبية كبيرة.
وبسبب سوء الفهم هذا، يتم تصوير بولندا حاليًا على أنها دولة يدعم فيها 51٪ من الناس رؤية قومية محافظة تؤكد على “السيادة” البولندية والاستقلال عن الاتحاد الأوروبي للقيم الأخلاقية ما بعد الحداثة. لكن وفقًا لاستطلاعات الرأي العام، فإن هذا مجرد هراء.
ويعتبر البولنديون من أكثر “الأوروبيين” حماسة في أوروبا، ما يعني أنهم يدعمون بقوة عضوية بولندا في الاتحاد الأوروبي، وكذلك منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو التحالف الأمني متعدد الجنسيات الذي تقوده الولايات المتحدة. وفي استطلاع أجري شهر مارس 2020 من قبل” وكالة المسح البولندية” الرائدة، أيد 89% من البولنديين عضوية الاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، يعتقد 55% من البولنديين أن عضوية الاتحاد الأوروبي “لا تقيد بشكل مفرط سيادة بولندا واستقلالها”، كما جادلت حكومة حزب القانون والعدالة المتشككة في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يدعمها فيه نحو 35% فقط. وقد تقلص هذا العدد تحت حكم حزب القانون والعدالة، رغم سيطرته على وسائل الإعلام الحكومية لأغراض دعائية.
وعندما يقول سياسيو حزب القانون والعدالة إن الاتحاد الأوروبي يهدد العائلات التقليدية في بولندا بقيم “ما بعد الحداثة” مثل حقوق وزواج المثليين، ويقترح تعديلًا دستوريًا لمنع تبني المثليين، قد يفترض المرء أن حوالي ثلث البولنديين فقط يؤمنون بهذا ويدعمونه. وعندما أجري الاستطلاع في عام 2019 بشأن ما إذا كان يجب “التسامح” مع المثلية الجنسية، قال 24% فقط من البولنديين إنه لا ينبغي ذلك. في حين قال 54% من البولنديين إن هذا انحراف عن القاعدة ولكن يجب التسامح معه، بينما قال 14% إن المثلية الجنسية أمر طبيعي. يشير هذا الاستطلاع، كحد أقصى، إلى أن ثلث البولنديين فقط يعارضون حقوق المثليين. بينما يؤيد الغالبية العظمى (68%)، حقوق المثليين في بولندا، بل إن هذا العدد آخذ في الازدياد.
كما يدعم البولنديون الديمقراطية بقوة. فقد وجد استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” في ربيع وصيف 2019، أن 85% من البولنديين يدعمون التحول إلى نظام متعدد الأحزاب في مرحلة ما بعد الشيوعية. والمثير للدهشة أن البولنديين يصنفون استقلال القضاء باعتباره الجانب الوحيد الأكثر أهمية للديمقراطية، وهو الحال نفسه بالنسبة لمعظم البلدان الأوروبية الأخرى، إذ قال 72% من البولنديين إنه أمر مهم. أيضًا هناك إشكالية المساواة بين الجنسين، التي يؤيدها 69% من البولنديين. علاوة على ذلك، يشعر البولنديون في الغالب بالرضا عن الديمقراطية في بلادهم، ذلك أن 66% منهم راضون و31% غير راضين، على غرار ألمانيا أو هولندا.
ورغم الجدل الحاد حول استقلال القضاء الذي أثار رد فعل سلبيًا في الاتحاد الأوروبي، لا يرى معظم البولنديين أن حكومة حزب القانون والعدالة معادية للديمقراطية. وبالطبع، ترى أقلية كبيرة من ناخبي البرنامج المدني الليبراليين جهود حزب القانون والعدالة لتطهير القضاء من “الشيوعيين” على أنها محاولة للسيطرة على المحاكم بطرق صحيحة. وفي الوقت نفسه، تزايد رضا البولنديين عن الديمقراطية بين عامي 2009 و2019، على الأرجح لأن سياسات حزب القانون والعدالة جعلت الناس العاديين أفضل حالاً. وهنا يثار التساؤل: هل الديمقراطية مسألة إجرائية فيما يتصل بكيفية عمل المؤسسات الحكومية، أم أنها موضوعية فيما يتصل بما إذا كانت الأغلبية تستفيد من سياسة الحكومة؟ هنا يبدو أن معظم البولنديين أقل انزعاجًا بشأن الأسئلة الإجرائية ويخلطون بين الديمقراطية والحكومة التي تعمل على تحسين رفاهيتهم.
لكنالسؤال الأكثر أهمية في استطلاع الرأي، والذي ينبغي التركيز عليه هو الذي يتصل بما إذا كان المرء يريد فهم الجاذبية الاقتصادية لحزب القانون والعدالة، وما إذا كان الناس يعتقدون أنهم يعيشون في مجتمع حكم الأقلية. وللإجابة عن هذا السؤال، يلاحظ أن النتيجة بدت مختلفة، إذ أشارت الغالبية إلى تغير الأوضاع بشكلٍ كبير في ظل قانون القانون والعدالة، مع اتجاه عدد من البولنديين إلى أنها أوليجاركية مع “نخبة صغيرة في القمة، وقلة قليلة من الناس في الوسط، ومعظم الناس يعيشون في المستويات الدنيا”، فقد انخفضت النسبة التي أيدت ذلك الرأي من 31% في 2013 إلى 13% في 2019. وفي غضون ذلك، ارتفعت النسبة المئوية التي تنظر إلى بولندا على أنها مجتمع من الطبقة المتوسطة، “إذ يوجد معظم الناس في الوسط”، من 14% في عام 2013 إلى 28% في عام 2019، لتصبح الأكثر شعبية من بين الخيارات الخمسة المقترحة. وقد كانت الإجابة الثانية الأكثر شيوعًا عبر عنها 23%، معتبرين أن المجتمع كان هرمي البنية، وقد انخفضت تلك الإجابة من 33% في عام 2009.
لقد فاز حزب القانون والعدالة في هذه الانتخابات بسياسات اقتصادية انتشلت ملايين البولنديين، ولا سيَّما في المدن الصغيرة والمناطق الريفية من الفقر، ومكنتهم من تحقيق حياة الطبقة الوسطى.
وكان الابتكار المميز لهذا الحزب هو سياسة “500 إضافية لكل أسرة” Family 500 plus، التي تدفع لجميع وحدات الأسرة البولندية (بما في ذلك العائلات ذات العائل الواحد والمثليين) 500 زلوتي (حوالي 130 دولارًا) شهريًا لكل طفل إضافي. في بلد يبلغ متوسط الأجر فيه 4000 زلوتي شهريًا، وهو ما يعدُّ أمرًا مهمًا، خاصة بالنسبة للعائلات الأشد فقرًا التي تعيش في المدن الصغيرة والمناطق الريفية. وتظهر استطلاعات الرأي أن 68% من البولنديين يتفقون مع حكومة حزب القانون والعدالة. إنها السياسة الاقتصادية الأكثر شعبية للحكومة. كما دعم أداء الحزب الزيادات في سن التقاعد، وأنشأ مزايا جديدة للعلاج والأدوية لكبار السن، وأطلق برنامج “إسكان ميسور التكلفة”، واستخدم أصحاب العمل المحدود لعقود “غير مرغوب فيها” قصيرة الأجل، وأعلن عن إعفاءات ضريبية جديدة للشباب لتشجيعهم على البقاء في بولندا.
وفي المقابل، يخشى العديد من البولنديين اليوم حزب “المنبر المدني” الذي يتزعمه “رافال ترزاسكوفسكي”، وخاصة فيما يتعلق بسياسته الاقتصادية. إذ ينظر الناخبون من سنوات إلى رؤيته التي تركز على سياسات السوق الحرة التي بدت وكأنها تثري النخبة المتعلمة تعليمًا عاليًا في المراكز الحضرية الكبرى، ولكنها تركت الجميع في أوضاع مزرية. وقامت الحكومات المتعاقبة لحزب المنبر المدني ومن خلفها بالقضاء على دولة الرفاهية، ورفع سن التقاعد، وجادلوا بأن زيادة الإنفاق الاجتماعي ستؤدي إلى إفلاس البلاد.
وعندما أعلن حزب القانون والعدالة عن سياسة “500 إضافية لكل أسرة”، اعتبر حزب المنبر المدني أنها ستكون كارثة مالية وتدمر اقتصاد بولندا. كما أنه لم يقم بأية مبادرة من هذا القبيل. وفي الواقع، ونتيجة للنمو المرتفع وتحسن تحصيل الضرائب، انخفض عجز الميزانية البولندية.
ولا عجب إذًا أنه رغم الدعم النشط أو الضمني للغالبية العظمى من البلاد للقيم الاجتماعية الليبرالية، فقد خسر المرشح الرئاسي لحزب المنبر المدني، إذ صوّت الناخبون البولنديون في الطبقة الوسطى الذين لم يقتنعوا تمامًا بالقومية الكاثوليكية التقليدية لحزب القانون والعدالة، ولم يكونوا منضمين تمامًا إلى ليبرالية النخبة في المدينة الكبيرة في البرنامج المدني بأموالهم. وفي هذه الانتخابات، رفض الكثيرون منحه أصواتهم وصوتوا لصالح حزب القانون والعدالة، متوقعين مستقبلًا اقتصاديًا أكثر ديمقراطية، آملين أن تهدأ السياسات الثقافية المجنونة لموسم الانتخابات بعد ذلك، بينما تلتهم قاعدة حزب القانون والعدالة اللحوم الحمراء وتذهب إلى الفراش راضية.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر: مؤسسة أبحاث السياسة الخارجية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر