الاقتصاد السعودي المتوازن في ظل جائحة كورونا | مركز سمت للدراسات

الاقتصاد السعودي وجائحة “كورونا”.. إجراءات متوازنة رغم المصاعب

التاريخ والوقت : الأحد, 3 مايو 2020

 

لم تترك أزمة جائحة “كورونا” أحدًا من اقتصادات العالم إلا وأصابته بتداعيات طالت كافة جوانبه. وبطبيعة الحال لم يسلم الاقتصاد السعودي من تلك العاصفة بجوانبها المتعددة. وهو ما فرض على الحكومة السعودية موقفًا صلبًا وإجراءات صارمة في مواجهة تلك الجائحة، التي لم يسلم منها أيٌ من دول العالم. كما عبر وزير المالية السعودي في مداخلته الأخيرة مع قناة العربية، حيث أشار إلى عدد من الإجراءات الصارمة التي اتخذتها المملكة لمواجهة التأثيرات المؤلمة للأزمة على اقتصاد المملكة. وقد بدت تلك التدابير واقعًا لا مفر منه، حيث أضحت أكثر إلحاحًا لتحقيق أقصى درجات الملاءمة المالية، لمواجهة الآثار المترتبة على انخفاض عائدات النفط وتداعياتها على الاقتصادات العالمية والخليجية، رغم قسوة وشدة التداعيات المترتبة عليه. ففي حين اضطرت كافة دول العالم إلى تقديم حوافز اقتصادية، واتخاذ إجراءات صارمة، تراوحت بين خفض أسعار الفائدة، وتقديم الدعم للمواطنين، كما هو الحال بالعديد من دول العالم التي تزاحم فيها مقدمو طلبات الإعانة لمستويات قياسية، جاء موقف المملكة الصلب بمواجهة تلك الجائحة، الذي استفاد من القدرات التراكمية للاقتصاد السعودي.

تأثير الأزمة على الاقتصاد السعودي

لم يسلم الاقتصاد السعودي من الآثار السلبية على كافة قطاعاته شأنه في ذلك شأن كافة اقتصادات العالم، وهو ما عكسه الأداء الاقتصادي، حيث يتوقع أن يزداد عجز الموازنة بنسبة 9% من الناتج المحلي الإجمالي GDPقابلة للزيادة بعد أن وصل إلى 43.1 مليار ريال وفقًا لوزارة المالية. وهو ما توازى مع انخفاضٍ ملحوظٍ في الإيرادات نتيجة لانخفاض أسعار النفط، الذي فرض ضرورة التعامل معه بكفاءة عالية في ظل جائحة كبرى لم يشهدها العالم من قبل؛ لذا، يجب أن تتخذ المملكة تلك الإجراءات الصارمة والضرورية، وهو ما فرض ضرورة الحد من النفقات وتوجيه جزء منها للرعاية الصحية، لا سيَّما مع تراجع احتياطيات المملكة التي انخفضت بنحو 27 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الجاري، وبلوغ إجمالي الأصول الأجنبية للمملكة أدنى مستوياتها خلال عشر سنوات، حيث وصل إلى 464 مليار دولار. كما تراجعت الإيرادات نتيجة لانخفاض عائدات النفط خلال الربع الأول من العام الجاري بنسبة 25%، إذ بلغت الإيرادات النفطية للمملكة 128.77 مليار ريال بانخفاض تجاوز 40 مليار ريال عن نفس الفترة من العام السابق، في حين تراجعت عائدات القطاع غير النفطي من 76.3 مليار ريال عام 2019 إلى 63.3 مليار ريال في العام الجاري.

وفي أعقاب أزمة أسعار النفط العالمية، ومساعي المملكة لضبط السوق العالمي، والتي انتهت باتفاق بين المنتجين العالميين يضمن خفض الإنتاج بمقدار 10 ملايين برميل يوميًا، اتجهت أسعار النفط العالمية للانخفاض، وبخاصة نفط غرب تكساس الذي هبط إلى ما دون الصفر، نتيجة لانهيار الطلب العالمي على الطاقة. وهي الأزمة التي دفعت أسعار النفط العالمي لمواصلة الانخفاض، في ظل أزمة فيروس كورونا. لذلك فقد بات من المحتمل أن نشهد صدمة في الإيرادات، ما يعني ضرورة الاحتياط من “السيناريو الأسوأ” الذي قد يفرض المزيد من تقليص المصروفات، وهو ما حذَّر منه الوزير السعودي في لقائه المتلفز.

تدابير مواجهة جائحة “كورونا”

كانت المملكة العربية السعودية من أوائل الدول التي اتخذت إجراءات احترازية هامة فيما يخص القطاع الاقتصادي بجانب القطاع الصحي. لذلك قدمت الحكومة السعودية مثالاً يحتذى به في إدارة الأزمات، إذ اتخذت سلسلة من الإجراءات الصارمة لمنع انتشار الفيروس، فما إن بدأت حالات الإصابة في الظهور بالمملكة، سارعت الحكومة لتطويق تلك الأزمة منذ بدايتها وذلك من خلال عدد من التدابير التي بدأت بفرض الحجر الصحي على أكبر نطاق ممكن، وأعقب ذلك عملية إغلاق محلي واسع النطاق، شملت منع التجول بين المواطنين في كلٍ من مكة والمدينة، ثم اتساع نطاق تلك التدابير ليشمل عددًا أكبر من مدن المملكة. وقد أثبتت تلك الإجراءات للعالم أن المملكة كانت أكثر عزمًا وحزمًا في احتواء المرض. فانطلقت كل أجهزة الدولة لاحتواء الأزمة، واتخذت كامل الاحتياطات والتدابير الاستباقية، مؤكدة أنها لن تتهاون بصحة المواطن. وهو ما أكده وزير المالية والاقتصاد السعودي، محمد الجدعان، حيث تشكلت لجنة عليا يرأسها ولي العهد محمد بن سلمان، للتعامل مع أزمة “كورونا”، لاتخاذ الإجراءات الاحترازية وتوفير التمويل اللازم للقطاع الصحي، وتعزيز الاقتصاد ودعم القطاع الخاص الأكثر تأثرًا من انتشار الوباء. فقد تمَّ تخصيص أكثر من 14 مليار ريال، أي حوالي 3.7 مليار دولار، بجانب صناديق توفير الدعم الإضافي للقطاع الخاص في ظل انتشار الجائحة، كما أصدر الملك سلمان أوامر بتسريع سداد مستحقات القطاع الخاص، حيث سُدد أكثر من 200 مليار ريال للقطاع، أي حوالي 53 مليار دولار.

بجانب ذلك، قدمت الحكومة السعودية حزمًا تحفيزية بقيمة 180 مليار ريال لدعم الاقتصاد، وشكّلت مجموعة فرق لمواجهة جائحة “كورونا” على الصعيدين الاقتصادي والصحي، فضلاً عن عدة إجراءات بهدف الحفاظ على وظائف القطاع الخاص وتوفير الموارد المالية والصحية، ومن هنا يتضح أن المملكة تنظر في مجموعة كبيرة جدًا من الخيارات والمبادرات لمواجهة الأزمة.

إدارة متوازنة للأزمة

الملاحظ على ما سبق، أن إدارة الحكومة السعودية لأزمة جائحة “كورونا” وتداعياتها ارتكزت على إدراك عميق ورؤية متوازنة، ورغبة في عدم الإخلال بنظامها المالي وسياساتها النقدية. فقد التزمت المملكة بالحفاظ على التمويل العام في ظل ما تمتلك من قوة مالية لازمة لاحتواء أية تداعيات قد تطرأ على بنود الإيرادات في الموازنة. وهو ما يعفي المملكة من اللجوء لأية تدابير استثنائية والاستدانة، سواء من الداخل أو الخارج، وصولاً لأقل مستوى ممكن من التأثيرات التي باتت قدرًا محتومًا على كافة بلدان العالم أن تتحمله، لا سيَّما في ظل أزمة أسعار النفط التي لا تقل خطورة عن أزمة وباء “كورونا”. فتهاوي أسعار النفط كان بمثابة ضربة قاصمة للاقتصاد العالمي، إذ انخفض سعر برميل النفط الأميركي إلى ما دون الصفر للمرّة الأولى في التاريخ، بفعل تداعيات الإغلاق العالمي الناتج عن فيروس “كورونا”، وهو ما يعني أن بائعي النفط يدفعون للمشترين لكي يحرّروهم من براميل النفط المكدّسة. لذا، فقد كان على المملكة التفكير بشكل إبداعي في أية اجراءات أو تدابير تتخذها لمواجهة تداعيات هذه الجائحة. لهذا، فقد تنبهت سريعًا لضرورة معالجتها مبكرًا من أجل الحفاظ على مواطنيها.

ثبات الموقف السعودي رغم الأزمة

ومع تنامي القلق الناجم عن تلك الأزمة، توالت نواقيس الخطر التي دقَّت للتحذير من أزمة عالمية تتجاوز في نطاقها أزمة الكساد الكبير التي شهدها العالم عام 1929، ذلك أن طول فترة الأزمة ينعكس بالضرورة على النمو العالمي، حيث يتوقع أن ينخفض بمعدل 1.5% في عام 2020 نتيجة تعليق المصانع نشاطها وبقاء العمال في المنازل في محاولة لاحتواء الفيروس. رغم ذلك، فإن قوة الموقف المالي السعودي، المتحرر من أعباء الدين الحكومي، تجعل المملكة تقف على أرض صلبة فهي تدير ماليتها العامة بشكل جيد، كما أن لديها احتياطات كافية استخدمتها لتغطية عجز الميزانية (حيث استخدمت أكثر من تريليون ريال خلال الأربع أو الخمس سنوات الماضية)، ومن المعروف أن الاستثمارات لها عوائد هامة وتستخدم في حالة الأزمات، وتلك الأزمات أحيانًا تخلق فرصًا جيدة للاستثمار. وهو ما دعم بدوره الحكومة السعودية في الإجراءات الجريئة المستندة على مضامين “رؤية المملكة 2030″، التي تسهم في إعادة النظر في السياسات المالية للمملكة والنشاط الاقتصادي ككل تعزيزًا للارتقاء الاجتماعي والاقتصادي بالمملكة.

نتائج

في ضوء ما سبق نخلص إلى ما يلي:

أولاً: إن بعض الإجراءات التي اتخذتها المملكة وستتخذها ستكون “مؤلمة”، لكن من المؤكد أنها ستكون في مصلحة المواطن التي تضعها المملكة نصب أعينها وتجعلها في المقام الأول، وهو ما سيجعلها تخرج من الأزمة أقوى من السابق. فالعالم لن يعود كما كان سابقًا، إذ إن هناك تغيرًا كبيرًا في الأنشطة الاقتصادية والتكاليف والأسعار، وهناك تحديات كبرى تهدد الاقتصاد العالمي، فكل دول العالم ستراجع مصروفاتها وستعاني اقتصاديًا.. فالتحديات المالية كبيرة والمشوار طويل.

ثانيًا: إن الإصلاحات الاقتصادية الهامة التي اتخذتها المملكة خلال الأعوام الأربعة الماضية وفقًا لـ”رؤية المملكة 2030″، قد ساعدت وستساعد على إيجاد حلول مناسبة للتعامل مع تلك الأزمة والخروج منها بأقل الخسائر. ذلك أن الحفاظ على القوة الشرائية للمواطنين أحد أهم النقاط التي سيتم مراعاتها في الإجراءات الترشيدية نظرًا لأهميتها الكبيرة في هذا الوقت لتنشيط حركة الاقتصاد وتنويع مصادره.

ثالثًا: تمتلك المملكة العربية السعودية دعامة مالية وقطاعًا اقتصاديًا قادرًا على إدارة الأزمة المالية بحكمة وكفاءة عالية إلى حين استعادة الاقتصاد العالمي والوطني عافيته مرة أخرى.

رابعًا: إن رفع قيمة الضريبة الانتقائية على بعض السلع غير الأساسية (مثل التبغ والمشروبات الغازية.. وغيرها) قد يكون أحد الخيارات المتاحة أمام المملكة أيضًا.

خامسًا: من المتوقع أن تلجأ المملكة لخفض الإنفاق على بعض البنود مثل السفر والانتدابات بالإضافة إلى المشاركة في بعض المعارض والمؤتمرات والمناسبات غير الهامة، وهو ما أكده حديث وزير المالية.

سادسًا: ستكون سياسة الترشيد وشد الحزام حاضرة أيضًا في بعض المشاريع التي يمكن تأجيلها، أو إعادة جدولتها بحيث تستغرق وقتًا أطول في التنفيذ، أو تعليقها لبعض الوقت.

وحدة الدراسات الاقتصادية*

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر