سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
هشام محمود
في ستينيات القرن المنصرم ظهر للمرة الأولى مصطلح “الصناعات الإبداعية” باعتباره تخصصا مستقلا في الدراسات الاقتصادية، بعد ذلك غاب المصطلح نسبيا لأعوام من التداول ليعاود الظهور وبقوة قبل 20 عاما تقريبا، وليضع نفسه عند تقاطع الأفكار الاقتصادية مع الإبداع والقيم الاجتماعية القائمة على تحفيز المعرفة والمواهب وبالطبع المفاهيم المتعلقة بالاستدامة.
كان المصطلح قبل 20 عاما يصف مجموعة من الأنشطة بعضها من بين الأقدم في التاريخ كالموسيقى مثلا والبعض الآخر ظهر إلى الوجود بفضل التكنولوجيا الرقمية كألعاب الفيديو على سبيل المثال.
وأخذ المؤمنون بالمصطلح في التركيز على الأنشطة الاقتصادية التي تهتم بتوليد واستغلال المعرفة والمعلومات، ومع مرور الوقت وأعوام من البحث والنقاش أخذ الخبراء في أوروبا يستبدلونه من حين إلى آخر بمصطلح “الصناعات الثقافية” ليتسع نطاقه ويضم بين طياته صناعة الإعلانات والهندسة المعمارية والفن والحرف اليدوية والتصميم وصناعة الأزياء والسينما والموسيقى والمسرح، وأخيرا البرمجيات وصناعة ألعاب الفيديو والتلفزيون والراديو.
أعوام قليلة أخرى واتسع المفهوم وتحول من “الصناعات الإبداعية” إلى “الاقتصاد الإبداعي”، حتى بات يعرف بين الاقتصاديين في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي باسم “الاقتصاد البرتقالي”.
ولكن أيا كان اللون الذي سيتصف به هذا الاقتصاد، فالأمر المؤكد أن الاقتصاد الإبداعي تزداد أهميته لتحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطنين، فالإبداع البشري هو المورد الاقتصادي الذي لا ينضب بالنسبة لأغلب الاقتصاديين، خاصة مع تزايد القناعة بأن القرن الـ21 سيعتمد بشكل متزايد على توليد المعرفة من خلال الإبداع والابتكار.
لأعوام طوال لم يتم قياس المساهمة الحقيقية “للاقتصاد البرتقالي” في الناتج القومي الإجمالي بشكل دقيق، ولكن مع تزايد مساهمته في النمو الاقتصادي في الأعوام الأخيرة، ولاحقا ومع تفشي وباء كورونا بات هناك إدراك أوسع نطاقا بين الاقتصاديين والخبراء بحاجة المستهلكين الماسة إلى كثير من الأفرع والأنشطة التي تنضوي تحت الاقتصاد الإبداعي، وقد عزز هذا من الاهتمام به، حيث من المرجح أن تقوم أجزاؤه المتعددة بدور مركزي في كيفية تفاعل المواطنين مع بعضهم بعضا.
كان الفضل لبريطانيا في القيام بأول محاولة لقياس حجم هذا القطاع وتأثيره المباشر في اقتصادها، وذلك في 1998 عندما نشرت الحكومة البريطانية ما اعتبر حينها خريطة أدرج فيها 13 مجالا يتضمنها الاقتصاد الإبداعي، باعتبارها مجالات تعتمد على الإبداع الفردي والمهارة والموهبة ولديها في الوقت ذاته القدرة على تكوين ثروة من خلال حقوق الملكية الفكرية.
أما الأنشطة الـ13 فكانت “الإعلان، الهندسة المعمارية، وسوق الفنون والتحف، والحرف اليدوية، والتصميم، وتصميم الأزياء، والأفلام، والبرامج الترفيهية التفاعلية، والموسيقى، والفنون المسرحية، والنشر، والبرمجيات، والتلفزيون والراديو”، وكانت أولى المفاجآت أنه تم الاكتشاف حينها أن هذا القطاع يولد فرص عمل تبلغ ضعف متوسط فرص العمل في الاقتصاد البريطاني ككل.
ويصبح التساؤل: ما حجم ومساهمة الاقتصاد الإبداعي على المستوى العالمي؟
وفي هذا الإطار، تقول لـ”الاقتصادية” الدكتورة روزي ماكين أستاذة الاقتصاد الحديث في جامعة لندن، “يسهم الاقتصاد الإبداعي بما يزيد قليلا على 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتختلف مساهمته من دولة إلى أخرى ولكن يتراوح عامة بين 2 و7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني، ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة تولد صناعات الاقتصاد الإبداعي عائدات سنوية تبلغ 2.25 تريليون دولار وتشكل 30 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم، ما يقرب من نصف العاملين من النساء، وتوظف هذه الصناعات عددا أكبر من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 29 عاما مقارنة بأي قطاع آخر، ويشكل التلفزيون والفنون المرئية أكبر صناعات الاقتصاد الإبداعي من حيث الإيرادات، بينما الفنون المرئية والموسيقى هي أكبر الصناعات من حيث التوظيف”.
تحتل الولايات المتحدة مقدمة القائمة الدولية للبلدان التي يحظى فيها الاقتصاد الإبداعي بمكانة خاصة عالمية للدول التي تهتم اهتماما خاصا بهذا الاقتصاد. فقد ولد التوظيف في الفنون والثقافة ما يزيد قليلا على 400 مليار دولار في الأجور لأكثر من 5.1 مليون أمريكي في 2017، إضافة إلى ذلك بلغ الناتج الاقتصادي في قطاعات الاقتصاد الإبداعي نحو 920 مليار دولار، بنسبة 4.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بما في ذلك نحو 33 مليار دولار فائض تجاري لتصدير الأعمال الفنية والسلع والخدمات الثقافية بما فيها الأفلام وألعاب الفيديو.
وصدرت الولايات المتحدة بما يعادل 78 مليار دولار من السلع والخدمات الفنية والثقافية واستوردت ما قيمته تقريبا 45.3 مليار دولار وفقا لبيانات مكتب التحليل الاقتصادي في وزارة التجارة الأمريكية، وفي ولاية شيكاغو وحدها وفر الاقتصاد الإبداعي 660 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، و13 مليار دولار من الأجور، وأسهم بـ144 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي.
أما في الصين فقد أسهمت القطاعات الإبداعية بما يزيد على 460 مليار دولار في الاقتصاد الوطني، أي ما يوازي نحو 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ووفقا لتقديرات 2018 فإن الاقتصاد الإبداعي في بلدان الاتحاد الأوروبي كان مسؤولا عن توفير 12 مليون وظيفة ما يجعله ثالث أكبر قطاع لأصحاب العمل، ويولد نحو 550 مليار دولار ما يعادل 5.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد.
من هذا المنطلق يشير الخبير الاستثماري آر.دي لورنس إلى أن الاقتصاد الإبداعي بات ركيزة أساسية في الكثير من دول العالم لتوليد فرص العمل والنمو، ولتحفيز الابتكار ودعم الثقافة.
ويعتبر آر.دي لورنس أن جميع البلدان في أنحاء العالم تسهم في الفنون والثقافة في مدنها سواء على المستويين العام والخاص، لكن ما يميز الولايات المتحدة هو مستويات التمويل الخاص المرتفعة في هذا القطاع مقارنة بمستويات التمويل العام.
ويقول لـ”الاقتصادية” إن “نحو 60 في المائة من العاملين في هذا القطاع في الولايات المتحدة يعملون في القطاع الخاص، ويعد القطاع الخاص القاطرة الرئيسة التي تقود الاقتصاد الإبداعي في الولايات المتحدة، وفي عام 2019 أضافت شركات الفنون المسرحية والفنانين والكتاب وفناني الأداء المستقلين نحو 61 مليار دولار للاقتصاد الأمريكي وفقا للبيانات الرسمية”.
الأهمية المتزايدة للاقتصاد الإبداعي ودوره الحاسم في تعزيز التنمية المستدامة ولاسيما في عالم ما بعد فيروس كورونا دفع بالأمم المتحدة لتخصيص 2021 عاما للاقتصاد الإبداعي وذلك وفقا لمبادرة إندونيسية وافقت عليها 81 دولة، ما يمثل تأييدا صارخا لهذا الاقتصاد.
في هذا السياق يعلق لـ”الاقتصادية” روني هاريس الباحث في برنامج الاقتصاد الإبداعي في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) قائلا، “لقد وجه وباء كورونا ضربة مروعة للصناعات الإبداعية، وتشير تقديراتنا إلى أن إلغاء العروض العامة كلف خسائر تقدر بـ30 في المائة من إجمالي العوائد المالية المعتادة، بينما خسرت صناعة السينما سبعة مليارات دولار من العائدات”.
ويضيف “لا توجد لدينا تقديرات دقيقة متاحة عن إجمالي خسائر الاقتصاد الإبداعي في العالم العام الماضي، لكن من المتوقع أن يستعيد القطاع المهم حيويته خاصة مع لعب الصناعات الإبداعية والثقافية دورا رئيسا في التحول الرقمي الذي يحدث على المستوى العالمي، وتزايد قناعات المسؤولين في البلدان النامية والاقتصادات الناشئة بأن الاقتصاد الإبداعي لديه القدرة على دعم التنمية الاقتصادية خاصة البلدان التي تمر اقتصاداتها بمرحلة انتقالية لتنويع الإنتاج والصادرات.
ولكن ماذا عن الدور الذي يمكن أن يقوم به هذا الاقتصاد الإبداعي في اقتصادات الدول الخليجية مستقبلا؟
الباحث الاقتصادي ماثيو سميث الخبير في اقتصادات الشرق الأوسط يرى أن بعض الدول الخليجية باستضافاتها الدائمة لفعاليات الاقتصاد الإبداعي عبر أعوام طويلة كانت لديها لبنات أساسية في هذا القطاع، لكن الأعوام القليلة الماضية شهدت ما يصفه بطفرة حقيقية للاقتصاد البرتقالي في دول الخليج العربي.
ويؤكد لـ”الاقتصادية” أن بعض الدول الخليجية تعمل على تفعيل هذا القطاع بشكل ملموس، فعلى سبيل المثال افتتاح متحف اللوفر في الإمارات، والمساهمة الحكومية بمبلغ 330 مليون دولار لتشييد دار أوبرا دبي الجديدة التي تفتخر بمبيعات تذاكر تفوق مبيعات أوبرا متروبوليتان في نيويورك، يكشف عن تنامي مساهمة الاقتصاد الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي للإمارات.
ويقول “لكن القفزة الحقيقية التي نالها الاقتصاد الإبداعي في منطقة الخليج في الأعوام الأخيرة، كانت أكثر وضوحا وأقوى باعا في السعودية، فرغبة القيادة السعودية في تحقيق التنوع الاقتصادي ترافقت مع تركيز كبير على تعزيز القدرة الابتكارية والإبداعية في المجتمع، مع الحرص على دمجها بالعديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى بما فيها مجالات الترفيه والرفاهية المجتمعية بشكل خاص”.
ويضيف “وفي الحقيقة فإن الرياض لديها تاريخيا ما يمكن وصفه بوعي خاص بأهمية الاقتصاد الإبداعي، حيث أسهمت بتمويله في العديد من الأقطار العربية، لكن في المرحلة الأخيرة ومع رؤية المملكة 2030 بات المفهوم أكثر تبلورا بضرورة أن يكون الاقتصاد الإبداعي السعودي ضمن آليات العمل الوطني، سواء كجزء من آليات القوة الناعمة للمملكة، أو كمساهم اقتصادي مميز في مجال التوظيف والنمو. وهناك جهود سعودية حثيثة لتعزيز البنية التحتية للاقتصاد الإبداعي في المملكة، خاصة مع تمتع المجتمع السعودي بقاعدة عريضة من الفئات الشابة بمستويات تعليمية تؤهلها لأن تضيف من خلال الاقتصاد الإبداعي إلى الاقتصاد الكلي”.
ويعتقد ماثيو سميث أن التجربة السعودية في مجال الاقتصاد الإبداعي ستعمل في الأعوام القليلة المقبلة على تعزيز الخطط المطبقة حاليا لإيجاد نوع من الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتحفيز المبادرات الفردية والشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم، التي يمكن أن ترفع نسب التوظيف العام في القطاع، وتزيد مساهمته الإجمالية مع تمتعه بدرجة أعلى من المرونة القادرة على التأقلم مع المعطيات والتداعيات الاقتصادية المفاجئة مثل وباء كورونا.
المصدر: صحيفة الاقتصادية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر