ورغم أن ذلك يتكرر مع كل انتخابات في أغلب بلدان العالم، إلا أن بريطانيا ما زالت توصف بأنها “الديموقراطية العريقة” بينما أميركا التي ورثت امبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فتصف نفسها ويقبلها العالم بأنها “الديموقراطية الحديثة”. وبالتالي فما يجري فيهما يعد نموذجا للكثيرين حول العالم، ويا له من نموذج.
تلك السياسات الانتخابية قد تكون في أغلبها وعودا يصعب تنفيذها بعد أن يفوز من وعد بها في الانتخابات ويتولى السلطة. ولم تعد هنالك فوارق واضحة بين سياسات الأحزاب المتنافسة، ولا حتى بين ما يسمى يمينا أو يسارا في الطيف السياسي الغربي الذي يتغير منذ ثمانينيات القرن الماضي. فقبل عقود بدأت الساحة السياسية في الديموقراطيات الغربية تتكدس في الوسط، يمين وسط ويسار وسط، حتى أصبح السائد سياسيا كله وسط. وأدى ذلك إلى بروز يمين متطرف ويسار نيوليبرالي، وكانت تلك بداية صعود التشدد والفوضى.
لكن الأهم في هذا “النموذج” هو سؤال ربما يخص بقية دول العالم، وليس الدول فحسب بل حتى كيانات أصغر كالمؤسسات والشركات. ذلك السؤال هو أيهما أفضل للجماهير (أو حتى للأعمال)، هل إعادة انتخاب الحالي لضمان الاستمرار والاستقرار أم انتخاب منافسه بغرض التغيير؟
في الدول التي تحكمها المؤسسات أكثر من السياسيين الذين يأتون ويذهبون، كما في المؤسسات والشركات التي تقوم على قواعد ونموذج عمل واضح ومحدد، قد يكون التغيير غير ضار بالاستقرار بل ربما يكون ضمانا له أحيانا. أما حين تضعف “المؤسسية” وتميع القواعد والنظم فربما يكون الاستقرار على ذلك الحال هو الضرر ويتطلب الأمر تغييرا قد يأتي بما هو أفضل أو على الأقل يوقف التدهور.
أتذكر مثلا قديما من قريتي يعكس المزاج الشعبي العام، الذي ليس بالضرورة صحيحا أو سليما في كل حالة لكنه مؤشر على رغبات الجمهور:
{أيام زمان، كان العمدة هو الرمز المطلق للسلطة التي لا يستمدها فقط من المنصب شبه الحكومي ولكن ايضا من “عزوته” العائلية وربما ثروته من أراضي وبهائم وأموال. ويلتصق بالعمدة دائما واحد من دواب الريف الشهيرة هو الحمار. كان حمار العمدة مختلفا عن بقية حمير القرية، فهو لا يعمل في الحقل ونقل الحمولات كغيره من حمير الفلاحين. إنما هو بالأساس “ركوبة”، أي وسيلة لتنقلات العمدة الأساسية التي يدور بها في القرية وعلى أملاكه وينتقل بها بين القرى مؤديا الواجبات الاجتماعية التي يفرضها عليه موقعه. وهكذا كان حمار العمدة مميزا عن بقية حمير القرية من حيث مأكله ومشربه وكسائه.
كان الناس يقولون إنهم جميعا مثل حمار العمدة في أنهم المستفيد الأول من أي تغيير، حتى لو كان للأسوأ. فإذا مات العمدة القديم استفاد حمار العمدة من الفترة الانتقالية حتى يأتيه العمدة الجديد. فيستغل ذلك الوقت في “التمرغ” ليحك جسمه، والأكل والمرعى بلا صنعة إلى أن يعتليه العمدة الجديد. كما أن حمار العمدة سيحصل على كسوة (بردعة جديدة) أكثر رفقا بجسمه من تلك التي اهترأت تحت ثقل العمدة القديم. وبعد فترة الراحة الانتقالية، سيستفيد حمار العمدة من خفة وزن العمدة الجديد، الذي لم يأكل كثيرا بعد ليمتد كرشه ويثقل على ظهر حماره. أضف إلى ذلك أن العمدة الجديد لن يضرب الحمار كثيرا في البداية، فما زال لم يعاني بعد من السمنة وضغط الدم نتيجة التخمة التي تجعله يفرغ عصبيته على جسم حماره. ولفترة من الوقت، لن يسير الحمار حاملا العمدة لمسافات طويلة، فالعمدة الجديد لم يوسع أملاكه بعد ولم تصل أراضيه إلى زمام القرى المجاورة كما كان العمدة القديم}
لا تفكير هنا في استمرار أو استقرار، ولا في أيهما أفضل في موقع السلطة. إنما هو منطق الاستفادة المؤقتة من التغيير. ذلك ما فعله مثلا حزب المحافظين في بريطانيا حين غير قيادته ثلاث مرات في ثلاثة أشهر العام الماضي (بوريس جونسون وليز تراس وريشي سوناك من يوليو إلى أكتوبر). والنتيجة أن ذلك لم يضمن استمرارا ولا استقرارا ولا استفاد الناس من التغيير.
مع ذلك، يرجح أن نرى ذلك في العام القادم، فالناخبون في بريطانيا سيختارون المعارضة وإذا تمكن الجمهوريون من الاتفاق على مرشح قوي لن ينتخب الرئيس جو بايدن لفترة رئاسة ثانية. مع أن ذلك لن يعني بالضرورة أن التغيير هو الأفضل، لكن الناس ستميل إلى التغيير على طريقة “حمار العمدة” دون اهتمام بمسألة الاستمرارية والاستقرار. وذلك بالضبط هو أهم أعراض ضعف المؤسسة وتدهور النظم.
ربما، كما في كل ما يتعلق بسلوك البشر ولآليات عمل تجمعاتهم الكبيرة والصغيرة، لا يصح تطبيق قواعد سيناريوهات صارمة للتوقعات. فتلك الأمور لا تسير غالبا “كما الكتاب”، لكن علينا أيضا الاستفادة من الدروس حتى لا نفقد بوصلة المستقبل.