سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
جهاد حسين
أيديولوجيا الوعد الإلهي متخيل تؤمن به الحركات الإسلامية المعاصرة، ويتحقق عندها على الأرض باشتراطات الإيمان وضرورة تحققه كعقيدة لا تقبل الجدل، ويتم ذلك عبر استدعاء التراثيات التبشيرية كافة التي تؤسس للإيمان بمقولات هذا الوعد من التمكين والسلطان على الأرض بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، وتعتقد هذه الحركات أنّ هذا التمكين هي المقصودة به أولاً؛ كونها الجماعة الأقرب إلى مراد الله، فيحدث التطابق بين فكرها وأيديولوجيتها التي قوامها السلطة السياسية كأداة للتنفيذ وبين مراد الله الذي يصبح أمراً واجب التحقق، لتختزله بذلك في سياقها الزمني والثقافي والسياسي.
هنالك نواة تعتبر المنتج النهائي لجميع المقولات التي يتم حشدها من قبل الحركات الاسلامية، وهي المهمة التاريخية للمؤمنين بأيديولوجيا الوعد الإلهي اللاتاريخي في بناء مجتمع خال من مظاهر الدهرانية المنبوذة في مقولاتها الأساسية، وهنا يتماهى المؤمن مع قدسية هدفه ودعوته، وهذا واضح في شعارات الإخوان المسلمين التي تقر بقدسية دعوتهم ومبادئهم كون الحقيقة متموضعة فيها بجانب مراد الله.
إن هذه النواة مفخخة بطابع التعالي والإيمان واللاتاريخية في المقولات والأفكار، انطلاقاً من تأويلات تتم عبر تعقيد مستتر للنواة الكبرى وهي الإسلام، وهي نواة ذات طابع توليدي تتحقق بصورة مباشرة وكلية في إيمان الطبقة الإسلامية المؤمنة.
وبهذا تصبح الحركات الإسلامية كأي أيديولوجيا؛ بمجرد تجاوزها للنسق الفقهي والكلامي والفلسفي للثقافة الإسلامية تتحول إلى مذهب تفسيري وتأويلي مبسَّط يضمر المقدس، وتدعي بذلك امتلاك مطلق الحقيقة الإيمانية التي تريد تغيير الواقع لمصلحتها، وهي حقيقة تستمد قوتها من استبطان ذلك المقدس لا من اختبارها في الواقع، وإن حدث خطأ فيتم تبريره بأنّه تشكل كلياً خارج تصوراتها الأساسية، فهو عندها واقع لقيط والعيب فيه لا فيها، وهذا يقودنا للحديث حول علاقة الفكر بالواقع في متخيل الحركات الاسلامية.
إنّ هذه الحركات ذات طابع اختزالي للواقع البشري؛ فهي تريد تغييره بوضعه في طابع إيماني تأويلي واحد، يحمل الخلاص الدنيوي والأخروي للبشرية وفق معتقدها، بعد أن تحتكر لنفسها حق الهداية الإلهية للبشرية بالاستيلاء على السلطة في النسق البيئي السياسي الذي تنشط فيه، وهكذا تتحد أساطير الخلاص والعلم والسياسة والاقتصاد في نسق واحد.
إنّ الصدمة التي حدثت عبر اكتشاف حجم التأخر عن الآخرين جعلت الحركات الإسلامية تتبنى مواقف نفسية من المنجز الإنساني، قوامها العلاقة الملتبسة والمشوشة بين الأنا والآخر، فأرادت البحث عن بديل تستند إليه يعطي نتائج مغايرة للرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة بحجة أنها منجز للآخر أي الغرب؛ فالذات هنا لا يساهم فيها الآخرون خصوصاً في بنيتها الأساسية، مع أن هذا منافٍ للتطور التاريخي للثقافة الإسلامية التي تشكلت هويتها بطريقة سردية تواصلية مع الآخر منذ وقت مبكر.
تستخدم الحركات الاسلامية المنجز العلمي بوصفه أداة لتحليل الواقع، وفي الوقت نفسه لتحمي نفسها ومتخيلها منه، إنها منخرطة كأي أيديولوجيا أرضية في عملية النظر إلى الواقع بوصفه منجزاً غير شرعي بالنسبة لمرجعيتها؛ فنجد حسن البنا في “رسالة التعاليم” يقول إنّ على المسلم مقاطعة كل ما هو غير إسلامي، وكل ما يناهض فكرته الإسلامية، فتضرب هذه الحركات على وتر التطلعات والأحلام والرغبات والتخوفات التي تنبع باستمرار داخل المجتمعات الإنسانية، خصوصاً تلك التي لم تنهض سياسياً وثقافياً بعد، وتشحن هذه التطلعات والأحلام برؤيتها ومتخيلها، ولكن اللاشرعية في وعي الحركات الإسلامية مصدرها متعالٍ يمنحها حلة مقدسة بعكس اللاشرعية في الأيديولوجيات الأخرى.
إنّ الواقع في بنية وعي الحركات الإسلامية منتج يُنظر إليه كلياً من خلال مرجعيتها وفكرها، لتصفيته من الشوائب الزمانية والدهرية، فتهيمن الفكرة في متخيلها على الواقع، وتسعى لتطبيق ذلك ولو بعد حين، إلا أنّ بعضها قد يستعجل في ركوب الواقع وامتطائه بجموح، الأمر الذي يعطي نتائج عكسية صادمة بالنسبة لما تتوقعه، فتكون الصدمة قوية بحجم الثقة القبلية المفرطة في نظام الأفكار والمسلَّم البديهي الذي تتغذى منه؛ فالخسارة أمر غير متوقع وغير قابل للاستيعاب، وهنا يجد العنف والتطرف الديني أرضية خصبة قوامها الإيمان الديني والمطلقية الإلهية التي يكتسب منها النسق المتطرف مشروعيته منفصلاً عن الواقع.
المصدر: حفريات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر