سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
جون سي هولسمان
شهدت الفترة من 1947- 1953 حدوث معجزة، فعلى الرغم من انتقال السلطة من حزب سياسي لآخر، وعلى الرغم من الغضب المناهض للشيوعية التي أثارتها حالة الذعر من جانب السيناتور جوزيف مكارثي، وعلى الرغم من شعور الدولة بعدم اليقين في مسيرتها نحو وضع القوة العظمى، إلا أن الولايات المتحدة تمكَّنت من الوصول لحالة من الإجماع السياسي والجيوستراتيجي الواسع بشأن أهم قضية في العصر، وهي كيفية التعامل مع الاتحاد السوفيتي القوة العظمى المنافسة له في النظام العالمي الجديد.
منذ قُدماء الإغريق، هناك حالة من التشويه المستمر التي تتعرض لها الأنظمة الديمقراطية باعتبارها غير قادرة على التمسك باستراتيجية جيوستراتيجية للسياسة الخارجية المشتركة لفترة طويلة، وذلك نظرًا لتقلبات الانتخابات المستمرة والعجز البنيوي للأحزاب الرئيسية عن ترك السياسة على حافة الماء، ومع ذلك فمن اللافت للنظر أنه خلال الحرب الباردة 1947- 1991، تَمَكّنت الولايات المتحدة من الحفاظ على استراتيجية الاحتواء المهيمنة التي تمت صياغتها في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك على الرغم من الارتفاعات والانخفاضات الحتمية في الحياة الأميركية، واختلاف الرجال الذين شغلوا منصب الرئيس على مدى هذه العقود العديدة.
لقد كان هذا الإجماع مهمًا جدًا من أجل إقامة نظامٍ عالميٍ مستوحى من الويات المتحدة، حتى أن “دين أتشيسون” وزير خارجية “ترومان” وأحد أنجح الأشخاص الذين شغلوا هذا المنصب على الإطلاق، أطلق ببساطة على مذكراته ، “حاضر عند الخلق” (Present At The Creation.). والتي تحدث فيها عن كونه وسيطًا ديمقراطيًا، حيث تخلص الرئيس “هاري ترومان” من الخيار الاستراتيجي اليساري الذي جسَّده نائب الرئيس السابق “هنري والاس”، الذي دعا إلى استرضاء جوزيف ستالين وعدم القيام بأي شيء لتأمين أوروبا الغربية -وكذلك بقية العالم- من الهيمنة الشيوعية، وفي الوقت نفسه رفض “أيزنهاور” من يمين الوسط وجهات النظر اليمينية المتطرفة للجنرال “دوغلاس ماك آرثر”، الذي دعا إلى التراجع العسكري عن المكاسب الشيوعية في جميع أنحاء العالم، حتى لو كانت هناك حوجة إلى نشر أسلحة نووية تكتيكية.
وبدلًا عن ذلك وعلى الرغم من العداء الشخصي، إلا أن “ترومان” و” أيزنهاور” دافعا بشكل مشترك عن عقيدة الاحتواء التي دعت الغرب إلى الانخراط في صراع سياسي مع الشيوعية، بينما رسم خطوطًا حمراء في مناطق واضحة حول العالم مثل “برلين” التي ستدافع عنها الولايات المتحدة ضد السوفييت، مع تجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع الاتحاد السوفيتي والذي أثار استياء اليمين المتطرف، كما ألزمت الولايات المتحدة نفسها في الوقت نفسه بمنافسة جيوسياسية مع الاتحاد السوفيتي، مما أدى إلى إحباط اليسار المتطرف، وفي النهاية، تمخضت العلاقة بين “ترومان” و”أيزنهاور” السياسية والجيواستراتيجية عن انتصار مذهل، فقد تم حل الاتحاد السوفيتي تمامًا كما تنبأ مبدأ الاحتواء، بينما تمكن العالم من تجنب مواجهة مباشرة بين القوى العظمى مما يعني الحرب العالمية الثالثة.
من اللافت للنظر أن ثمة إجماعًا استراتيجيًا محليًا مُشابهًا بدأ يتشكل في الولايات المتحدة فيما يتعلق بكيفية التعامل مع “الصين” القوة العظمى الجديدة المنافسة للولايات المتحدة، فقد قدم الرئيس المنتهية ولايته دونالد “ترمب” الجزء الأول من الإجماع، في حين أن الرئيس المنتخب حديثًا “جو بايدن” في طريقه لتقديم الجزء الثاني.
ولكونه أول شخصية سياسية أميركية رئيسية تعتبر الصين منافسًا خطيرًا وصاعدًا للولايات المتحدة، فمن المؤكد أن دونالد ترمب سيشهد له التاريخ، من المرجح أن يُنظر إلى الأمر على أنه أهم إنجاز تاريخي له، فقد كانت تعليقات السياسة الخارجية الأمريكية المكونة من الحزبين قد استقرت قبل ترمب حول الفكرة الخاطئة تمامًا والتي كانت شائعة عالميًا بأن صعود الصين من المرجح أن يكون حميدًا ويجب تشجيعه، حيث كان من المؤكد أن بكين التي تزداد قوة تزداد أيضًا دعمًا لأميركا لأنها أصبحت أكثر ثراءً.
لقد كان “ترمب” أحد الأصوات القليلة التي حذرت من مخالفة ذلك، فصعود الصين لن يكون مبنيًا على ركائز النظام الحالي، لكن وبحكم كونها قوة عالمية صاعدة، ستسعى إلى إعادة صنع العالم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، ويعد ذلك مقياسًا لنجاح “ترمب” في هذه الرؤية الجيوستراتيجية المركزية التي ترى صعود الصين كتحدٍ مباشرٍ لكل من الولايات المتحدة والعالم.
ومن المفارقات حاليًا أن “بايدن” يجد نفسه يعزز سياسة ترمب تجاه الصين، مع الابتكار التكتيكي الإضافي النقدي المتمثل في رؤية هذه المنافسة الجيوستراتيجية الأولية من حيث تطور الحلفاء، كوسيلة لتحقيق النصر الجغرافي الاستراتيجي، ولكون “ترمب” كان في كثير من الأحيان يتعامل بفظاظة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، أدّى ذلك إلى نفور الحلفاء الذين يزودون الولايات المتحدة بميزة استراتيجية لا تُقدّر بثمن على الصين غير الصديقة إلى حد كبير، فقد بذل “بايدن” قصارى جهده لتنمية قوى عظمى مثل الهند واليابان والأنجلوسفير لتفادي التوسع الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وفي هذا الشهر فقط، وخلال أول قمة للقادة على الإطلاق للحوار الأمني الرباعي، وهو تجمع إستراتيجي ناشئ مناهض للصين في آسيا يضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان، كما قام “بايدن” بتوسيع جدول أعماله ليشمل إنتاج اللقاحات فضلًا عن الدعوات الاستراتيجية المُعتادة لحرية البحار، ومن خلال ذلك يعمل بايدن على ترسيخ أجندة المجموعة الرباعية بينما تتطور لتصبح حلف شمال أطلسي ناشئ.
كان الاجتماع الأول بين الصين والولايات المتحدة في ألاسكا حيث ظهر إجماع السياسة الخارجية الجديد بشكل تام، فقد هاجم كبار الدبلوماسيين في أميركا والصين بعضهم البعض لفظيًا بعبارات فظة غير معتادة، وانتقد وزير الخارجية “توني بلينكين” بكين بسبب معاملتها اللاإنسانية للإيغور غرب الصين؛ وواجهت نقدًا شديدًا بسبب الحملة القمعية المُناهضة للديمقراطية في هونغ كونغ، حيث تأكدت ضغوطه المتزايدة على تايوان، وحذَّر “بلينكن” من أي هجمات إلكترونية أخرى على الولايات المتحدة تنطلق من الصين، حيث أشار الممارسات الاقتصادية الإكراهية التي تمارسها بكين تجاه حليفتها أستراليا، ويعود كل ذلك بسبب الجرأة في اقتراح عقد مؤتمر دولي للنظر في أسباب اندلاع أزمة فيروس “كوفيد- 19” في ووهان.
قام يانغ جيتشي مدير اللجنة المركزية للشؤون الخارجية في الصين بانتقاد الولايات المتحدة بسبب معاملتها للأقليات واستهزأ بهياكلها الديمقراطية الضعيفة، وفي بيان لن يؤدي إلا إلى تقوية الدعم السياسي من الحزبين لخط “بايدن” المتشدد بشكل متزايد، سخر يانغ من قوة بقاء أميركا قائلًا: “الولايات المتحدة ليس لديها المؤهل لتقول إنها تريد التحدث إلى الصين من موقع قوة”، وقد رد “بلينكين” على ذلك بشكلٍ قاتمٍ حيث أشار إلى أنه لا ينبغي للصين أن تراهن ضد الولايات المتحدة.
وبالفعل فإن تاريخ القرن العشرين مليء بمقابر الأنظمة الاستبدادية التي استخفت بأميركا مثل ألمانيا في عهد القيصر، واليابان في عهد توجو، ورايخ هتلر، وروسيا في عهد ستالين وفي كل الحالات كان يُعتقد أن أميركا ضعيفة، ومتدهورة وغير قادرة على الاستمرار في مسارها، وفي كلتا الحالتين فقد انهار الصرح الاستبدادي قبل الإجماع المحلي والجيواستراتيجي الدائم بشكل مفاجئ.
ويحدث ذلك مرة أخرى الآن فكما تحقق مع “ترومان” و”أيزنهاور”، فإن رئيسي الولايات المتحدة “دونالد ترمب” و”جو بايدن”، لا يتوافقان بشكل واضح فيما بينهما كما أنهما يعملان بشكلٍ متناقض فيما يخص صياغة الأساس السياسي لاتفاق جيوسياسي، حول كيفية التعامل مع القوة العظمى الرئيسية المنافسة لأمريكا والتي تبدو ملتزمة بالوقوف أمام اختبار الزمن.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر