سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
في وقتٍ أضحت فيه الأمةُ الإسلاميةُ مُطالبةً بإنتاج خطابٍ دينيٍ قادرٍ على مواجهةِ التحديات التي يفرضها الواقع وما به من مستجدات ناتجة عن تطور الحضارة الإنسانية، وتعقيدات في القضايا التي يعالجها ذلك الخطاب نظرًا لمستحدثاتِ العلوم المختلفة، وبروز أشكالٍ جديدةٍ من القضايا المجتمعية بفضل تطور المشكلات الإنسانية وتعقيداتها، يأتي كتاب (الألغاز: في مسائل العبادات والمعاملات والمواريث للتدريب على الفقه المقارن والتعددية الفقهية)للدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بجامعة الأزهر.
يقدِّم الكتاب رؤيةً فقهيةً مقارنةً في استعراضٍ غير تقليديٍ في صورةِ “ألغاز” تستهدف تقديم المادة الفقهية عبر تساؤلات، والإجابة عنها بطريقة تشحذ القدرات الذهنية للقارئ بما يسهم في تطوير قدراته الفكرية.
وفي سياق التطور الإنساني والمعرفي في ميدان الدراسات الفقهية التي ابتكرها السابقون والتي عُرف بعلم “الألغاز الفقهية” الذي يتطلب استيعابًا لدقائق المسائل الفقهية الخلافية، وذكاء خاصًا، وسرعة بديهة للفصل بين المتشابهات الفقهية مع سعة الصدر للتعددية الفقهية، فإن من يضيق صدره لتلك التعددية لا يستطيع أن يخوضفيها. فالتعددية الفقهية التي تُمَكِّن صاحبها من المهارة في حل الألغاز الفقهية، هي تلك التي ترتقي بصاحبها ليعيش في حالة من التسامح والإعذار للجميع في دينهم وفقههم. وليست التعددية الفقهية شعارًا أجوف من المضمون، وأنها لا تقبل التجزئة، بل لأن الذي يجب أن يحترم الناس عقله ويعذرونه في سلامة ضميره وقلبه، عليه أن يبدأ أولاً باحترام عقول الآخرين وإعذارهم في سلامة ضمائرهم وقلوبهم، ولأن هذا التسامح الفقهي ليس هينًا، بل هو شاق على النفس جدًا، خاصة عند من لا يرى إلا نفسه، فيذكر المؤلف مثالاً في قضية الخطاب الديني الوصائي داعياً إلى تجاهله، إذ يعد ذلك الخطاب اختبارًا لتمييز من يعيش حالة التسامح من أصحاب شعارات تلك الحالة. وهي الإشكالية التي يعرضها المؤلف في صورة سؤال فيما يتفق مع منهج الألغاز الفقهية، وهو: “من هو الإنسان المعاصر الذي يوصف بأنه من المسلمين بالمعنى العام ولم يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته الخاتمة؟”.
إن الإجابة عن هذا السؤال تستوجب معرفة أقوال أهل العلم في حكم وصف أتباع أصحاب الملل السماوية السابقة بأنهم مسلمون بدون عصبية، وإنما بتجرد وسلامة سريرة.
تهدف الألغاز، كما يرى المؤلف، إلى عودة التسامح بقبول التعددية. واللغز يجمع على ألغاز، وهو ما يُعمَّى به من الكلام تقول: ألغز في الكلام، بمعنى عمَّى مقصوده، أو أضمر مراده عن الكلام الظاهر. والمعنى الأصلي للغز هو الحفر الملتوي. يقول الأزهري في “تهذيب اللغة”: يقول أبو الهيثم: اللغز (بضم اللام مشددة، أو بفتح اللام مشددة)، والألغاز حفرة يحفرها اليربوع في جحره تحت الأرض. يقال: ألغز اليربوع إلغازًا، فيحفر في جانب منه طريقًا، ويحفر في الجانب الآخر طريقًا، وكذلك في الجانب الثالث والرابع.
يؤصل الفقهاء علم الألغاز الفقهية بما أخرج الشيخان عن عبدالله بن عمر، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ قال عبدالله بن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “هي النخلة”. قال عبدالله بن عمر: فحدثت أبي بما وقع في نفسي. فقال: “لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا”.
التزم المؤلف في عرض المسائل منهج الاستقراء الفقهي المقارن على ضوء المذاهب السنية الخمسة غالبًا (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية)، وذلك لتحقيق المقصود من التدريب العملي على الفقه المقارن والتعددية الفقهية، إذ سلك المؤلف في عرض الألغاز المسلسلة، من الرقم الأول إلى الرقم الثلاثين، طريقة واحدة في ستة عناصر، كما يلي:
1- وضع عنوان للغز يهدف إلى رسالته الفقهية.
2- وضع مقدمة للغز تفسر العنوان الفقهي، وتصرح بهدفه التعليمي.
3- وضع نص للغز وتذييله بثلاث إجابات متشابهة، لاستدعاء المزيد من التفكير والتركيز.
4- وضع الأصول الشرعية للإجابة على اللغز من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
5- وضع العناصر الفقهية اللازمة لمعرفة الإجابة الصحيحة على ضوء الاختيارات الثلاثة للغز.
6- تناول كل عنصر فقهي بالبيان والتفصيل على منهج الفقه المقارن لإظهار التعددية الفقهية، باعتبار أن تلك المعرفة هي الفوائد الحقيقية المقصودة من فكرة الألغاز الفقهية.
الكتاب يعالج مئات المسائل المهمة في العبادات والمعاملات بطريقة الألغاز المشوقة والداعية إلى تنشيط الذاكرة بمنهج الفقه المقارن الذي يحترم الرأي والرأي الآخر، ويسمو بصاحبه إلى حالة التسامح مع الغير بالتعددية الفقهية التي يجب أن يعيشها المسلمون واقعًا وليس مجرد شعار؛ حتى ينطلقوا إلى آفاق التجديد والانفتاح على الناس، خاصة أن كل رأي فقهي مهما بلغت منزلة قائله لا يعدو أنه “صواب يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب”؛ ولذلك قالوا: “لا إنكار في المختلف فيه”. وأخرج مسلم عن بُريدة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يوصي أميره بقوله: “وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟”. المعصوم الوحيد من الخطأ هو كلام الله، ورسوله لاتصافه بجوامع الكلم (يعني المعاني الكثيرة التي تحتمل اجتهادات الفقهاء، قديمًا وحديثًا ومستقبلاً).
بجانب التعريف بالمذاهب الفقهية السنية والشيعية، وحكم التمذهب أو الانتقاء منها، يقدِّم الكتاب بيانًا بالنساء المحرمات، وحقوق الزوجين، وتعليق صحة الطلاق على التوثيق الرسمي، وأحكام النسب وتنسيب ابن الزنا واللعان. ويقدِّم الكتاب – أيضًا – تذكيرًا بآداب الطعام، وأحكام رفيق السفر، والطهارة بالماء والتراب، وكيفية دفن ميت البر والبحر والجو، وحكم الدفن في المساجد.
ويعرض الكتاب شرحًا للمصالح الشرعية وتدرجها من الضروريات إلى الحاجيات إلى التحسينيات، وحكم المال الفاسد كالرشوة، وهدايا السلطان والموظف العام، وحقوقهما. ويقدِّم – أيضًا – تلخيصًا لأحكام اللقطة، والتفليس والصلب والصائل، والدعاء على الظالم أو مصاحبته، وأحكام التجسس، إضافة إلى توضيح للحكم القضائي والتحكيم الديني كصيد الحرم، والتحكيم العرفي كنزاع الزوجين، وأحكام القسامة والشهادة وأخذ الأجر عليها. ثم يقدِّم عرضًا لأحكام القتل الخطأ والعمد، وقطع الطريق، والبغي، والسرقة، والزنا ومسقطات حدوده.
بجانب ذلك يعرض الكتاب تفصيلاً لسلطان الإرادة في إنشاء العقود وصورة القسمة العادلة والإجارة من الباطن، أو الطاعة كإمامة الصلاة والمواعظ الدينية، أو حمل الخمر لمن يشربها، وبيع حلي المرأة بمثله، والخلاف في ربا البيع (الفضل)، وبيع المصحف وكتب العلم الشرعي، وتطوير عقد الوكالة بحيث لا يقبل الفسخ، وقيود الملكية للمنفعة العامة، وأحكام امتلاك البهائم وجنياتها وزكاتها، وشروط صحة ذبحها، وأحكام البحيرة والسائبة والحام.
الكتاب في مجمله يمثل محاولة من المؤلف لتقديم رؤية عصرية للتعامل مع القضايا الفقهية التي تحاول معالجة المشكلات الفقهية، سواء كانت تقليدية أو قضايا فرضتها تطور الحياة الإنسانية ومستجداتها، لكن في إطار رؤية عصرية تواكب المرحلة التي تمر بها الإنسانية. لذا، يمثل هذ الكتاب إضافة إلى المساعي الفكرية في ميدان الخطاب الديني، وهو ما يجعل اقتناءه في المكتبات العامة، بل والخاصة، ضرورة لتوسيع آفاق الأجيال الجديدة وتمكينها من مواجهة الأفكار العنصرية والتعصب بشكل يجعل من التسامح والمحبة سبيلاً لدحر التطرف.
معلومات الكتاب
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر