وأخيرا رؤيتها لطبيعة النزاع أو الصراع أو الأزمة أو الموضوع المطروح للنقاش من حيث أطرافه وأسبابه وسبل حله أو إنهائه.
هذه القواعد الثلاث هي التي حكمت اتجاهات تصويت كل أعضاء مجلس الأمن الدولي، الجمعة، على مشروع قرار حول أوكرانيا اقترحته الولايات المتحدة وألبانيا، وهو المشروع الذي صوتت لصالحه 11 عضوا بمجلس الأمن، واستخدمت روسيا حق النقض “الفيتو” بصفتها عضو دائم وهو ما أجهض القرار، فيما امتنعت الصين والهند والإمارات عن التصويت على نص المشروع الذي صاغته الولايات المتحدة.
الدول المؤيدة للقرار والدولة الرافضة له والدول الثلاث الممتنعة عن التصويت حكمت في مواقفها بالقواعد الثلاث السابقة، وإذا كانت الدول المؤيدة والدولة الرافضة لا يحتاج موقفها إلى تبرير أو شرح باعتبارها أطرافا أصيلة في الأزمة محل النقاش أو ذات صلة وثيقة بأطرافه أو ترى في تأييد مشروع القرار ما يتفق مع رؤيتها ومصالحها الوطنية، فإن ما يحتاج إلى تسليط الضوء عليه هو مواقف الدول الثلاث الممتنعة عن التصويت ودوافعها، لا سيما العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن، دولة الإمارات العربية المتحدة، خاصة أن الامتناع عن التصويت لا يعد قبولا للقرار ولا رفضا له، وإلا كان تم التصويت بأحد هذين الخيارين.
بداية، فإن من نافل القول إن الامتناع عن التصويت يعد أحد الحقوق القانونية التي يملكها كل أعضاء مجلس الأمن، مثله مثل حق الموافقة أو حق الرفض، وهو أحد القرارات السيادية لكل دولة عضو بالمجلس لا ينازعها فيه أحد، خاصة أنه لا يقف عقبة في سبيل اعتماد أي مشروع قرار طالما حاز على الأغلبية المطلوبة ولم يكن هناك اعتراض عليه من أحد الأعضاء الدائمين بالمجلس.
وبالنظر إلى دوافع الدول الثلاث الممتنعة عن التصويت على مشروع القرار حول الأزمة في أوكرانيا، فتكفي الإشارة إلى أن امتناع الصين عن التصويت جاء بعد أسابيع قليلة من اتفاق موسكو وبكين على شراكة “بلا حدود”، مما يتضمن دعم الدولتين لمواقفهما حيال أوكرانيا وتايوان مع وعود قطعتها كل منهما للأخرى بالتعاون في مواجهة الغرب.
وفيما يتعلق بالهند التي أعربت السفارة الروسية بنيودلهي، عن تقديرها لموقفها “لمتوازن” أثناء التصويت بشأن الأزمة الأوكرانية، فتكفي الإشارة إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لم يقم بزيارات خارجية خلال العامين الماضيين سوى لجنيف ونيودلهي التي زارها في ديسمبر الماضي للمشاركة في القمة الهندية الروسية، وهي الزيارة التي وصف فيها الرئيس الروسي الهند بـ”الصديق القديم”، مشيرا إلى أن علاقاتهما العسكرية “لا نظير لها”.
لذا لم يكن غريبا أن تشهد زيارة بوتن توقيع اتفاقية تعاون في مجال الدفاع لمدة 10 سنوات تغطي مجالات التعاون الحالي والمستقبلي، إذ تعتمد نيودلهي على موسكو في كل إمداداتها العسكرية، كما تعهد البلدان برفع حجم التجارة السنوية بينهما إلى 30 مليار دولار بحلول 2025 بدلا من مستواها الحالي المتوقف عند 10 مليارات دولار.
أما عن العضو العربي في مجلس الأمن، دولة الإمارات العربية المتحدة، فإن دوافعها عن الامتناع عن التصويت قد تكون أكثر اتساعا، فبالإضافة إلى احتفاظها بعلاقات جيدة مع كافة أطراف النزاع ورغبتها في حماية وتعزيز مصالحها الوطنية، ووقوفها في نفس الوقت على مسافة واحدة من الجميع، فإنه يمكن فهم دوافع الموقف الإمارات انطلاقا من حرصها على الوصول لحل سياسي للأزمة وحث كافة الأطراف والقوى الدولية المعنية بالبحث في الخيارات السلمية التي تنهي الأزمة وتحقق مصالح أطراف الأزمة وتراعي مخاوفها.
مع التأكيد في الوقت نفسه على ضرورة احترام كل الأطراف وتطبيق القوانين الدولية، فضلا عن حق كل دولة بالأمم المتحدة في الأمن والسيادة والاستقلال، لذا فضلت الإمارات عدم الانحياز لصالح قرار بعينه وفضلت التمسك بالطرق الدبلوماسية وإبقاء كافة قنوات الاتصال والحوار مفتوحة مع الجميع بما يؤهلها أكثر من غيرها للعب دور، وربما التوسط في إنهاء هذه الأزمة والحيلولة دون تفاقمها وتصاعدها بشكل يهدد الأمن والسلم الدوليين من خلال مفاوضات مباشرة بين روسيا وأوكرانيا، وهذا ما بدا جليا في كلمة المندوبة الدائمة لدولة الإمارات لدى الأمم المتحدة السفيرة لانا نسيبة خلال جلسة مجلس الأمن، التي شددت فيها على ضرورة الامتثال للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة كأساس للحوار.
وطالبت نسيبة بالتهدئة في أوكرانيا ووقف الأعمال العدائية وأن تظل القنوات الدبلوماسية مفتوحة، دون إهمال الجانب الإنساني الذي يرتكز على توفير الحماية القصوى للمدنيين في مناطق النزاع، وعدم التأخر في توفير وإيصال المساعدات الإنسانية، وضرورة مراعاة مصلحة وأمن المدنيين في الجانبين الروسي والأوكراني، وهذا ما تجلى في بيان وزارة الخارجية الإماراتية الذي دعا إلى وقف “الأعمال العدائية” في أوكرانيا، والذي حذرت من خلاله من أن هذه التطورات الخطيرة قد تقوض الأمن والسلم الدوليين.
كما أكدت ضرورة وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين، داعية كافة الأطراف إلى احترام القانون الإنساني الدولي، وإعطاء الأولوية لحماية المدنيين، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.
لذا يمكن القول إن موقف الإمارات في مجلس الأمن، بالإضافة إلى علاقتها الجيدة مع طرفي الأزمة وثقلها على الساحتين الإقليمية والدولية، ومنهج الدبلوماسية الإنسانية الشاملة الذي تتبعه، قد يجعلها مهيأة أكثر من غيرها للعب دور بارز في نزع فتيل هذا النزاع قبل تفاقمه عبر حلول سياسية وسط تراعي المخاوف المشروعة لطرفي الأزمة وتحفظ استقلالها، وهذا ما يفسر الدبلوماسية الإماراتية النشطة منذ بداية النزاع، والتي تجلت في المباحثات الهاتفية بين وزير الخارجية الإماراتي ونظيره الأميركي قبل أيام.
ومن قبلها كانت المباحثات الهاتفية أيضا مع نظيره الروسي قبل أيام التي بحثت علاقات الصداقة والشراكة الاستراتيجية بين البلدين وتناولت بالتأكيد الأزمة الأوكرانية والتي ستكون محور زيارة الشيخ عبدالله بن زايد إلى موسكو الاثنين.
وهنا تنطلق الإمارات من تجارب ناجحة في الوساطة في مناطق نزاع كثيرة، نجحت فيها في نزع فتيل بعض الصراعات التي كان يبدوا أن لا أمل في حلها، وكان من أهمها الدور المحوري الذي لعبته الإمارات لفض النزاع التاريخي بين إريتريا وإثيوبيا الذي دام نحو عقدين من الزمان وخلّف عددا من القتلى يتجاوز 15 ألف قتيل.