سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
الأحزاب السياسية لها تعريفات عدة، إذ تُعرّف بأنها منظمة اجتماعية لها جهاز إداري وهيئة موظفين دائمين، ولها أنصار من أفراد الشعب من بيئات متعددة لهم عادات مختلفة، بينما تُعرّف في قاموس “لو روبير” الفرنسي بأنها تنظيم سياسي يقوم أعضاؤه بعمل مشترك لإيصال شخص واحد، أو مجموعة أشخاص إلى السلطة وإبقائهم فيها بهدف نصرة عقيدة معينة.
بيد أن تلك الأحزاب لها وظائف عدة يجب أن تضطلع بها في الحياة السياسية، إذ إنها تعمل على تحقيق الوحدة القومية بتقوية الروابط بين الناخبين والجهاز السياسي، وتحريك وتفعيل المواطنين للمشاركة في القرارات السياسية، فضلاً عن القيام بنشاطات اجتماعية وتثقيف الناخبين والمواطنين بشكل عام حول النظام السياسي والانتخابي.(1)
ولا شك أن الحياة الحزبية في تركيا من الموضوعات التي جرى الحديث عنها بشكل لافت في الأعوام القليلة الماضية، إذ إن تنافسًا شديدًا يجري بين الأحزاب ضمن التحالفات القائمة، وأبرز تلك الأحزاب هو حزب “العدالة والتنمية”، وهو الحزب الحاكم في تركيا الذي تلقى ضربات قاصمة في الأيام الماضية باستقالة كوادر كبرى من داخله مثل: “سعدالله أرغين” وزير العدل السابق، و”بشير أطالاي” الذي كان يتولى حقيبة الداخلية، فيما تمثلت أبرز تلك الاستقالات في استقالة “علي باباجان”، نائب رئيس الوزراء، ووزير المالية السابق، الذي يوصف بأنه “العقل الرئيسي” الذي وقف خلف الطفرة الاقتصادية التي حققها “العدالة والتنمية” وساهمت في ارتفاع شعبية الحزب وبزوغ نجم أردوغان السياسي، واستمرار الحزب في الحكم أكثر من 16 عامًا.
وجاءت الضربة الأخرى باستقالة “أحمد داود أوغلو”، رئيس الحزب، ورئيس الوزراء السابق، وصاحب نظرية “صفر مشكلات” مع دول الجوار، ومهندس “العثمانية الجديدة”.(2)
ويبدو أن “داود أوغلو” سيكون جزءًا من كيان سياسي جديد في تركيا، وهو ما نستدل عليه من حديثه الذي جاء من باب المسؤولية التاريخية، وأنه ينبغي “السير في طريق إنشاء حركة سياسية جديدة”، يمكن لجميع التيارات الالتفاف حول فكرها المشترك من أجل مستقبل البلاد.
استقالة “علي باباجان”.. ضربة قاصمة
“خلافات عميقة وقعت على مستوى الإجراءات، سواء على الصعيد المحلي أو العالمي خلال الأعوام الأخيرة، بالإضافة إلى المبادئ والأفكار والمعايير التي أدافع عنها”، و”نحتاج إلى رؤية مستقبلية جديدة كليًا لتركيا. يجب وضع استراتيجيات وخطط في جميع المجالات. لا بدَّ من بدء جهود جديدة من أجل حاضر ومستقبل أفضل لتركيا”… تلك الكلمات التي برر بها “باباجان” استقالته من حزب العدالة والتنمية، مشيرًا إلى أنه قد شعر بـ”الانفصال العقلي والوجداني” مع الممارسات التي تتم في حزب العدالة والتنمية.(3)
وما يجعل الاستقالة مدوية، هو أن “باباجان” قد شغل مناصب حكومية عدة، إذ شغل منصب وزير الاقتصاد، ووزير الخارجية، ورئيس الوزراء، ووزير الدولة لشؤون الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن كونه من مؤسسي الحزب، بيد أنه قد حمل أيضًا لقب “مهندس المعجزة الاقتصادية” التركية، إضافة إلى أن له باعًا طويلاً في السياستين الداخلية والخارجية لتركيا زمن العدالة والتنمية؛ وما يعزز من الضربة التي تلقاها أردوغان وحزبه هو أن “باباجان” سيؤسس حزبًا جديدًا برفقة عدد من الساسة الأتراك يُتوقع أن يكون منافسًا قويًا لحزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يرأسه الرئيس رجب طيب أردوغان.
استقالة “أوغلو”.. وضربة ثانية
استقالة “باباجان” لم تكن الضربة الوحيدة التي تلقاها حزب أردوغان، بل جاءت استقالة “أحمد داود أوغلو” رئيس الوزراء السابق، لتكون بمثابة زلزال جديد يضرب أركان الحزب، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ أعلن “أوغلو” تأسيس حزب سياسي جديد.
فـ”أوغلو” – الذي شغل منصب رئيس الوزراء في عهد أردوغان بين عامي 2014 و2016-قد أعلن عقب استقالته عن تأسيس حزب جديد، وهو ما ظهر بقوله: “إنها مسؤوليتنا التاريخية وواجبنا تجاه الأمة إنشاء حزب سياسي جديد”.(4)
أسباب ودوافع
– أسباب ودوافع عدة وراء الاستقالات التي عصفت بحزب أردوغان، والتي من المحتمل أن تؤثر بشكل لافت وملحوظ على مستقبل الحزب، ويمكننا إجمالها في النقاط الآتية:
-يبدو أن حزب “العدالة والتنمية” لم يعد كما كان عند تأسيسه، فالحزب الذي وصف قادته أنفسهم بأنهم المدافعون عن “الديمقراطية” قد تحول إلى إحدى أدوات ترسيخ الممارسات السلطوية لأردوغان.
-تراجع زخم الاقتصاد: لا شك أن تركيا تعاني في هذه الأيام من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، حيث فقدت الليرة أكثر من ثلث قيمتها أمام الدولار منذ أغسطس 2018، وبلغ معدل التضخم نحو 19.5%. بيد أن رصيد الديون الخارجية التركية أصبح من بين أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد.
-منذ الانقلاب – الفاشل – في صيف 2016، من الواضح أن أردوغان يسعى إلى إجراء عملية تطهير داخل الحزب لاجتثاث الأعضاء المشتبه بصلاتهم بـ”فتح الله غولن”.
-عمل أردوغان منذ عام 2014 على استنزاف الإصلاحيين داخل الحزب، ونستدل على ذلك من محاولة اتهام “علي باباجان” – شريكه السابق- بالانتماء إلى جماعة “غولن”.
-تصدع البناء المؤسسي للعدالة والتنمية، أحد الأسباب وراء تلك الاستقالات أيضًا، إذ أدت سياسات أردوغان إلى تصدع الحزب من الداخل، ما أدى إلى حدوث انشقاقات متتالية داخل الحزب.(5)
أحزاب جديدة من رحم العدالة والتنمية
من الواضح أن الخريطة الحزبية في تركيا ستشهد تغييرات عدة في الأيام المقبلة، فاستقالة “أوغلو” و”باباجان”، وعقبها تصريحات ببناء كيانات سياسية جديدة، من المحتمل أن تنافي حزب أردوغان وتأكل من شرعيته، وهو ما نستدل عليه مما كشفه وزير الاقتصاد السابق “علي باباجان” -المستقيل من حزب العدالة والتنمية – أنه وفريقه يخططون للانتهاء من تشكيل الكيان القانوني لحزبهم المرتقب قبلنهاية ديسمبر المقبل، فـ”باباجان” قد أعلن عن تأسيس حزب يقترب من هموم الشارع التركي ومواطنيه، بالإضافة إلى إعلانه أن الحزب الجديد سيعمل على وضع خطط لإنقاذ المؤسسات – التي باتت فاشلة – والاقتصاد التركي، وخاصة في ظل ما يمر به من أزمات وقبل أن تصبح أي محاولة للحيلولة دون تدهوره متأخرة و”غير مجدية”.
بيد أن فريق “باباجان” للحزب الجديد قد بدأ بالفعل نشاط استكمال هيكل الحزب قبل نهاية سبتمبر وأوائل أكتوبر، فضلاً عن وضع برنامج للحزب والعمل على اجتذاب أسماء كبيرة من حزب العدالة والتنميةوحزب الشعب الجمهوري، فالحزب ماضٍ في عمله، وهو ما نستدل عليه مما قاله “باباجان”: إنه من المتوقع أن تتم مناقشة عدة أمور بعد تأسيس هيكل الحزب وتشمل مسألة الفصل بين السلطات وعودة النظام البرلماني؟
وهذا ما تؤكده صحف تركية أيضًا عن “أوغلو” الذي أعلن هو الآخر عن تشكيل حزب جديد بمشاركة عدد من نواب حزب العدالة والتنمية وذلك قبل نهاية نوفمبر المقبل، وهو ما أثار تساؤلات حول فرص نجاح هذه الشخصيات أمام الرئيس رجب طيب أردوغان. واللافت في الأمر أن عدد المؤيدين لتحركات رئيس الوزراء السابق “أحمد داود أوغلو” لتأسيس حزب جديد ارتفع إلى أكثر من 100 برلماني سابق، وأكثر من 10 نواب حاليين داخل البرلمان.(6)
ويبدوأن “أوغلو” قد قطع شوطًا كبيرًا فيما يتعلق بتأسيس حزبه؛ إذ تعاقد على منزل مكون من ثلاثة طوابق في العاصمة أنقرة ليكون مقرًا للحزب.
ليس هذا وحسب، فـ”أوغلو” قد بدأ في جهود الترويج لحزبه في مناطق مختلفة من البلاد، بيد أنه قد بدأ في اختيار الاسم والشعار، كما تمَّ الإعلان عن أن الحزب سيضم نحو 80 شخصًا من النساء وقادة الرأي من الأكراد والعلويين.
كيف ستؤثر على حزب أردوغان؟ (توقعات مستقبلية)
لا شك أن الأحزاب الجديدة التي ستنشأ في تركيا والأحزاب التي نشأت بالفعل مثل حزب الشعب الجمهوري – وهو حزب المعارضة الرئيسي في البلاد – ستؤثر بدرجة كبيرة على فرص وشعبية حزب العدالة والتنمية وستعمل على تآكل شعبيته، خاصة أن الأتراك يريدون وجوهًا جديدة، وأحزابًا جديدة، وخطابًا جديدًا، بعد أن ملّوا خطابات زعيمهم. فمن المعروف أن التغيير “سنّة الحياة الديمقراطية”، ووحدها الدول الشمولية ودول الحزب الواحد والديمقراطيات الشكلية الزائفة، هي من تجيز التمديد والتوريث.
ومن هنا نستطيع التأكيد على أن تركيا بحاجة للتغيير الذي بات يطرق أبوابها بقوة، بدءًا بالحزب الذي حمل لواءها لعقدين من الزمان، والمؤكد أن رياح التغيير لن تظل بالداخل فقط، بل ستمتد تأثيراتها إلى سياسة أنقرة الخارجية، وتحديدًا مواقفها من جماعة الإسلام السياسي والمسلح، والأزمة السورية، وربَّما المسألة الكردية في الداخل والخارج.(7)
وإجمالاً، فإن الأحزاب الجديدة التي ستولد من رحم العدالة والتنمية سوف تؤثر على أردوغان وحزبه، ويمكننا بيان ذلك في نقاط عدة:
-الأحزاب الجديدة بالطبع ستؤدي إلى” تآكل شرعية أردوغان”، فاستقالة قيادات تاريخية من حزب العدالة والتنمية، وذهابها إلى تشكيل بدائل سياسية منافسة، سحبت من شرعية وجود أردوغان، وفرص بقائه.
-“زيادة شعبية الخصوم”: فممارسات أردوغان السلطوية والقمعية من الوارد أن تؤدي إلى زيادة رصيد خصومه في الشارع التركي. وإذا كان أردوغان قد نجح طوال السنوات الماضية في حجب نفوذ الجناح الإصلاحي داخل الحزب، فإنه لم يتمكن من إحداث تآكل في رصيده في الشارع.
-“تكريس الانقسامات الاجتماعية والسياسية”: قد يكون أيضًا إحدى نتائج وجود تلك الأحزاب على الخريطة السياسية التركية. فتلك الاستقالات المتزايدة إذا ما استمرت فمن الممكن أن تؤدي إلى تصاعد الانقسامات الاجتماعية والسياسية، خاصة أن أردوغان يصر على توصيف المنشقين وأتباعهم عن الحزب بالخونة والمارقين.
-ليس من المستبعد أن تؤدي الاستقالات والأحزاب الناشئة إلى “تفكك حزب العدالة والتنمية”: إذ تنذر الاستقالات بمخاطر عدة على موقع الحزب ومستقبله، وبات متوقعًا أن يؤدي تصاعد الانشقاقات داخل الحزب إلى تفككه، لا سيَّما أن الكيانات الحزبية المنافسة المنتظر قدومها على الساحة التركية قد تستقطب عددًا من النواب المحسوبين على العدالة والتنمية في الوقت الراهن.(8)
وحدة الدراسات التركية*
المراجع
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر