سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
في تصعيد جديد يفرض الكثير من التحديات، ويفاقم من معدلات التوتر بالمنطقة التي لا زالت تتجمع منذ العمليات الإيرانية المتوالية التي هدفت لتهديد أمن الملاحة البحرية في الخليج العربي، وخليج عمان، والبحر الأحمر، استهدفت الولايات المتحدة يوم 3 يناير 2020م بتوقيت الواحدة والنصف فجرًا الجنرال قاسم سليماني، وبرفقته قادة وعناصر من الحشد الشعبي، في مقدمتهم أحد أبرز الموالين لطهران في العراق نائب رئيس الحشد أبو مهدي المهندس، وذلك بقصف من طائرة مسيرة أمريكية بصواريخ من طراز نار جهنم (Hellfire R9X) لموكب سليماني، والمهندس، والذي كان ينتظر الأول قادمًا من مطار دمشق الدولي، وذلك بعد مغادرة مطار بغداد الدولي بدقائق قليلة، أسفر عن حرق المركبتين بشكل كامل.
أولاً: الدوافع المباشرة للضربة الأمريكية
جاءت الضربة الأمريكية ردًا على تصعيد الأذرع الإيرانية في العراق، ممثلةً في ميليشيات الحشد الشعبي المسلحة، بما فيها كتائب حزب الله العراقي ضد القوات الأمريكية ذاتها في العراق، حيث قصفت الميليشيات الشيعية المسلحة بتاريخ 27 ديسمبر 2019م القاعدة العسكرية العراقية-الأمريكية K-1 ، التي تستضيف جنودًا أمريكيين شمالي كركوك بدعوة رسمية عراقية ضمن قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، بنحو 30 صاروخًا، ما أسفر عن مقتل متعاقد مدني أمريكي، وإصابة 4 أفراد من الخدمة الأمريكية، و2 من قوات الأمن العراقية، وكان مقتل أمريكي محركًا لردود الفعل الأمريكية المزلّـزلة، وخطأ استراتيجيًا إيرانيًا في التوقيت بالنسبة لترامب خاصة، وهو على أعتاب انتخابات رئاسية.
فبعد يومين فقط من هجوم الميليشيات العراقية على القاعدة الأمريكية -تحديدًا في 29 ديسمبر 2019م-ردَّ الجيش الأمريكي بتوجيهات من ترامب بهجمات انتقامية قُصفت خلالها 5 كتائب -قواعد ومخازن أسلحة-تابعة لحزب الله العراقي، أحد فصائل الحشد الشعبي الموالي لإيران، بواسطة طائرات من طراز «إف 15». 3 كتائب في العراق بمدينة القائم بمحافظة الأنبار قرب الحدود العراقية-السورية، و2 في سوريا في المثلث الحدودي مع العراق، ما أسفر عن مقتل نحو 28 مقاتلًا بينهم القيادي في كتائب حزب الله آمر الفوج الأول في اللواء 45 بالقائم أبو علي الخزعلي، أحد أهم المقربين من قاسم سليماني، وإصابة 48 آخرين من مقاتلي الحشد الشعبي العراقي.
ثم قامت إيران بتحريك أذرعها يتقدمهم أبو مهدي المهندس لمحاصرة السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء ببغداد يوم 31 ديسمبر 2019م، ما أسفر عن تحطيم سور السفارة، وإضرام النيران في بواباتها الرئيسية وأبراجها وكاميراتها الأمنية، وتحطيم نوافذها، وقرر المتظاهرون الاعتصام، مطالبين برحيل القوات الأمريكية من العراق، قبل انسحابهم السريع من محيط السفارة الأمريكية استجابةً لدعوات من قادة الحشد تنفيذًا لطلب الحكومة العراقية؛ وقد أشارت تقارير استخباراتية أن سرعة فك الحصار عن السفارة جاءت على خلفية اتصال الرئيس ترامب بعبد المهدي، وتهديده بأن اقتحام السفارة سيعقبه تداعيات وخيمة، وبعدها اتهم ترامب إيران بتدبير الهجوم على السفارة الأمريكية، محملاً إياها المسؤولية الكاملة عن هذه الهجمات، مؤكدًا بأن الولايات المتحدة ستتبنى استراتيجية الضربات الاستباقية، لدرء المخططات الإيرانية لقتل الأمريكيين في العراق.
ما راهنت عليه إيران بأن ضرب القواعد الأمريكية بغيةَ إحراج الرئيس ترامب في هذا التوقيت الانتخابي الأمريكي، الذي يفرض على الإدارة الامريكية عدم التسرع في اتخاذ قرارات تصعيدية، سيُحرجه وينال من حظوظه الانتخابية، وهنا ستكون إيران المستفيدة، أو في حالة أن الرد سيكون غير قاسي، ستوظفه إيران لصالح القضاء على الاحتجاجات العراقية المناهضة للنفوذ الإيراني؛ يُعد سوء تقدير إيراني أنَّ سقوط ضحية أمريكية يحولُ مجرى الصراع إلى رأي عام أميركي يدعو لضربها، تستغله إدارة ترامب في رفع مستوى التصعيد، خاصة وأن الرئيس الأمريكي لم يكن لدية رفاهية الوقت للتقاعس، وهو يواجه اهتزازات داخلية بعد تصويت الديموقراطيين على قرار عزله، فكان الرد الأمريكي قاسيًا للمرة الثانية باغتيال العقل المدبر للمشروع الإيراني الإقليمي على هذا النحو (طالع الجدول رقم-1).
جدول رقم-1: التسلسل الزمني لعملية اغتيال سليماني
ثانيًا: دلالات توقيت الاغتيال الأمريكي لقاسم سليماني:
أسباب اغتيال سليماني عديدة لكونه رأس حربة إيران والعقل المدبر للمشروع التوسعي الإيراني، والمخطط للعديد من العمليات الإرهابية، ورمز التمدد الإيراني العابر للحدود، وراعي الميليشيات المسلحة الإرهابية في الدول العربية، ومؤجج الصراعات الإقليمية لتحقيق الهيمنة الإيرانية… إلخ، لكن توقيت اغتياله هو الأهم، لكون الإدارة الأمريكية أعلنت استراتيجية الضغوط القصوى لتعديل سلوك النظام الإيراني منذ أكثر من عام ونصف العام، دون أن تحرك ساكنًا لكثير من الأفعال الاستفزازية الإيرانية المهددة لدول المنطقة وأمن الملاحة البحرية وممرات تصدير النفط، ولم ترد كذلك حينما أسقطت إيران طائرة مسيرة أمريكية، فلماذا إذًا التحول المفاجئ في الموقف الأمريكي، ولماذا قرر ترامب اغتيال سليماني في هذا التوقيت وهو يُعد لحملته الانتخابية؟ يبدو أن هناك عدة احتمالات للفعل الأمريكي، قد يكون بسبب أحدها أو جميعها، وهي:
1-إحباط مخطط إيران بتوجيه ضربة قاضية لترامب:
يبدو أن الاستخبارات الأمريكية قد حصلت على معلومات أحالتها إلى البيت الأبيض، مفادها تجهيز سليماني لمخطط خطير لضرب الدبلوماسيين والجنود الأمريكيين بالعراق، وذلك لتوريط ترامب أمام الرأي العام أمريكي بما ينال من حظوظه الانتخابية، ويفقده شعبيته في انتخابات الرئاسة 2020.
تُفهم رواية الاستخبارات الأمريكية من واقع تصريحات ترامب يوم 3 يناير 2020م بعد اغتيال سليماني بقوله «واشنطن اتخذت قرار قتل سليماني لإيقاف الحرب لا لبدء الحرب»، وتوضيح وزير خارجيته مايك بومبيو تصريح ترامب جزئيًا يوم 3 يناير 2020م بقوله «بقتل سليماني أحبطنا هجومًا إيرانيًا وشيكًا»، مضيفًا «سليماني كان يخطط لعمل كبير يهدد أرواح مئات الأمريكيين»، وجاء التفسير على لسان المبعوث الأمريكي الخاص بإيران براين هوك بقوله إن المخابرات الأمريكية رصدت في الأيام القليلة الماضية مكالمات تفيد بتخطيط سليماني لتنفيذ هجمات وشيكة ضد الجنود والمصالح والدبلوماسيين الأمريكيين، ومقتل المزيد من الأمريكيين.
وعلى هذا النحو، لربما أدركت الإدارة الأمريكية أن تخطيط سليماني كان يستهدف إخراج ترامب من المشهد السياسي الأمريكي عن طريق خلق رأي عام أمريكي قوي ضد ترامب، ينال من حظوظه الانتخابية إذا ما قامت إيران مثلاً بأفعال تجاه السفير الأمريكي والدبلوماسيين الأمريكيين بالعراق تُعيد لأذهان الأمريكيين حادثة اغتيال وتشريح السفير الأمريكي بليبيا قبل سنوات، وشخصية ترامب لن تسمح بمثل هذه الأفعال، وهو مقبل على الانتخابات، ولذلك، للحيلولة دون تنفيذ المخطط الإيراني الذي لو كُتب له النجاح لغيَّر السياسات الأمريكية برمتها تجاه إيران بمجيء رئيس أمريكي جديد قد يلغي العقوبات ويعيد رسم خريطة السياسة الأمريكية تجاه إيران؛ فضَّل ترامب سيناريو اغتيال سليماني من بين عدة خيارات عرضتها عليه الدوائر الضيقة في أجهزة صنع القرار الأمريكي.
2-عملية دعائية لتحقيق مكاسب انتخابية للرئيس ترامب:
يرتبط بالعامل السابق، فقد يرتبط توقيت اغتياله برغبة ترامب في تعزيز حظوظه الانتخابية، باستغلال سوء التقدير الإيراني خاصة بعد أن تعرضت شعبية ترامب لاهتزازات على خلفية تصويت مجلس النواب الأمريكي، وغالبيته من الديموقراطيين، قبل نهاية العام 2019م بأيام قليلة، على قرار عزله، فسوء التقدير الإيراني وفَّر لترامب فرصةً تاريخية ومرحلية يستطيع من خلالها تحقيق عدة أهداف، يأتي في مقدمتها استغلال موقف الرأي العام الأمريكي من مقتل المتعاقد الأمريكي في تصفية سليماني، ليؤكد حرصه على أرواح المواطنين الأمريكيين أينما كانوا بما يجعلهم يقدرون فيه ذلك، لا سيما وأن سياساته حسنت المؤشرات الاقتصادية داخليًا، ما يسهم في تعزيز حظوظه الانتخابية بانتخابات الرئاسة 2020، فضلاً عن تحقيق هدف إلجام إيران ومنعها من تكرار سيناريو الاعتداء على مزيد من الأمريكيين في المستقبل، وبث رسالة لإيران بأن الاعتداء على القواعد والمصالح والأهداف الأمريكية في العراق، وعموم المنطقة تجاوزًا للخطوط الحمراء الأمريكية، ما يجعل ايران تُعيد حساباتها حال التفكير في ضرب أهداف أمريكية.
3-إدراك أمريكي بعجز العراق عن توفير الحماية اللازمة للأهداف الأمريكية:
يمر العراق بمرحلة عدم استقرار سياسي وأمني واقتصادي على خلفية اندلاع الاحتجاجات الحاشدة ضد النظام العراقي، والمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، ومعالجة أزمات البطالة والفساد المستشريَّة في مؤسسات الدولة العراقية، والأهم مطلب خروج إيران وميليشياتها من العراق، وعدم القدرة على تسمية رئيس حكومة عراقية جديد خلفًا لعبدالمهدي المستقيل من رئاسة الحكومة، وذلك نتيجة تمسك إيران بتسمية رئيس حكومة على الطراز والهوى الإيراني، يدور في فلكها ويأتمر بأمرها، وتقديم الرئيس العراقي برهم صالح استقالته إلى البرلمان تضامنًا مع موقف المحتجين الرافضين لتسمية مرشح كتلة البناء الموالية لإيران محافظ البصرة أسعد العيداني لرئاسة الحكومة الجديدة، ولذلك، وحسب الإدراك الأمريكي، لم يكن العراق قادرًا في مثل هذه الظروف على توفير الحماية اللازمة للقواعد والمصالح والقوات الأمريكية.
4-إمكانية التحول في الاستراتيجية الأمريكية:
قد يكون الدافع في هذا التوقيت أيضًا وصول الإدارة الأمريكية إلى قناعة استراتيجية، نتيجة الاستفزازات الإيرانية المتكررة للولايات المتحدة، واستهدافها للمصالح والأهداف الأمريكية بشكل مباشر، بضرورة إعادة التعريف بالدور والقوة الأمريكيين، كقوة مهيمنة على النظام الدولي الأحادي القطبية، بالتحول من استراتيجية الردع بالتفاوض إلى استراتيجية الردع بالقوة المسلحة والانتقام المكثف المباشر، بدليل استخدامها للطائرات المسيرة في اغتيال الشخصيات والأرقام المؤثرة في مد نطاق النفوذ الإيراني في دول عربية عديدة، في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وإرسال وزارة الدفاع الأمريكية في 1 يناير 2019م نحو 750 جنديًا من قوات المارينز لحماية السفارة الأمريكية ببغداد، ونحو 500 جندي إضافي إلى الكويت لردع ضربات الميليشيات المتوقعة للسفارة الأمريكية بالكويت، وموافقة البنتاجون يوم 4 يناير 2020م على إرسال 3 آلاف جندي أمريكي إضافي إلى منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي تمتلك فيه الولايات المتحدة أكثر من 50 قاعدة عسكرية تحاصر إيران في كافة نقاط التماس، وحاملات الطائرات والقواعد العسكرية والعتاد النوعي الأمريكي في الخليج العربي، فضلًا عن تأكيد تهديد ترامب بأن واشنطن ستضرب 52 هدفًا داخل إيران إذا تعرَّضت قواته لهجمات.
الخلاصة
بقدر ما تكشف عنه عملية اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس من حجم القدرات العسكرية الأمريكية، وقدرتها على الرد، وجهوزيتها العالية لدرء المخططات الإيرانية الخطرة، وأن مرحلة ما بعد سليماني ليست كما قبلها، بالقدر ذاته تُهدد أمن المنطقة وتجعله على شفير الحرب، وهو أمر سعى كثيرون من عقلاء المنطقة لعدم الوصول إليه، مهما كان حجم الاستفزازات الإيرانية واعتداءات الميليشيات العميّلة لها. إن جوهر استراتيجية الضغوط القصوى هو إجبار إيران على تغيير سلوكها، وليس الدفع لإشعال المنطقة والدخول في حروب تدمِّر مقدرات الشعوب، ولا زلنا نعتقد بأن الخيار المتمثل في استمرار المعاملة بالمثل، والتصعيد، ليس من صالح العالم بأكمله، وعلى رأس ذلك إيران ودول المنطقة؛ وعلى الجميع الالتزام بضبط النفس وعدم الانسياق وراء تصور إنهاء المشكلات عن طريق إطلاق النيران أو التخفي خلف الميليشيات، فلا زال الشرق الأوسط حتى الآن يعاني من آثار الحروب التي دخلها في عقد التسعينات من القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة، وليس مستعدًا لمزيد من الزيت على النيران الملتهبة حاليًا.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر