ألمانيا ومنطقة المحيط الهادئ والهندي | مركز سمت للدراسات

استراتيجية ألمانيا تجاه منطقة المحيط الهادئ والهندي: هل تستطيع “برلين” المساهمة؟

التاريخ والوقت : الجمعة, 9 أكتوبر 2020

فريدريك كليم

 

انضمت ألمانيا، مؤخرًا، إلى نادٍ محدد جدًا يضم عددًا قليلاً فقط من الدول التي لديها استراتيجية رسمية تجاه منطقة المحيط الهادئ والهندي، والتي يطلق عليها اسم Leitlinien  باللغة الألمانية. وتشير الورقة التي انطوت عليها هذه الاستراتيجية إلى تغيير جذري في السياسة الخارجية الألمانية التقليدية وسط إدراك متزايد بأن “برلين” لم تعد قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة وحدها لتوفير ما تريده من المنتجات العالمية.

ويطالب الكثيرون من الحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم، منذ فترة طويلة، بمزيد من المسؤولية العالمية، بما في ذلك عمليات الانتشار العسكرية. وتنطوي الوثيقة الاستراتيجية على توجيه نحو خطٍ أكثر قوة في مواجهة النفوذ الصيني العالمي، وإن كان ذلك مع بعض المحاذير.

النهج الشامل لألمانيا

تعدُّ ألمانيا القوة الأقل انخراطًا فيما يتعلق بوضع استراتيجية تجاه منطقة المحيط الهادئوالهندي. ومع ذلك، فإن وثيقة “برلين” المكونة من 68 صفحة هي الأكثر شمولاً وتفصيلاً بين جميع الحكومات التي أعلنت عن هذا المفهوم، وهو ما يرمز لنهج ألمانيا الشامل للعلاقات الدولية، الذي يتكون من مزيج سياسي مُعَقَّد من المساعدات التنموية، والدبلوماسية والتعددية، والانتشار العسكري، على نفس الترتيب.

بالإضافة إلى ذلك، تُدرِك “برلين” الحساسيات الأوروبية فيما يتعلق بالقوة الألمانية، إذ تحرص دائمًا على تضمين سياستها الخارجية والأمنية في إطار الاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك، فإن الاستراتيجية الألمانية تجاه منطقة المحيط الهادئ والهندي تَعِد بشكلٍ واضحٍ بمزيد من المسؤولية والمشاركة في آسيا، بما في ذلك الانتشار العسكري والتعاون المكثف، وزيادة في وتيرة أعمال دبلوماسية الدفاع والمشاركة الإقليمية المتعددة، وتحديدًا المنتديات التي تقودها مجموعة الآسيان.

كما تنطوي على إدانة، وإن كانت من قبيل التمويه، للإصرار الصيني المتواصل على ما يسمى بالنظام القائم على القواعد، والتشكيك الصريح في التزام “بكين” بالوضع القائم.

وفي الوقت نفسه، تنتقد الورقة الاستراتيجية بشكل غير مباشر النهج الأميركي القوي، إذ تؤكد أن زيادة المنافسة الاستراتيجية بين القوى العظمى ليست في مصلحة ألمانيا. فبدلاً من دعم الحليف عبر الأطلسي بشكل لا لبس فيه، تركز “برلين” على الحاجة للتنوع بين الشراكات في تلك المنطقة.

القواعد الجديدة لألمانيا

كدولة صناعية وتجارية، فإن مصالح ألمانيا تبدو واضحة. فالصين هي أكبر شريك تجاري في مجال السلع، وآسيا هي أكبر منطقة للتصدير خارج الاتحاد الأوروبي، كما يعتمد الاقتصاد الألماني على سلاسل التوريد الموثوقة والممرات البحرية المفتوحة.

وقد شجع ذلك المعلقين الصينيين المؤيدين للدولة على القول بأن الاستراتيجية الألمانية تجاه منطقة المحيط الهادئ والهندي تأخذ في الاعتبار الأعمال التجارية وليس الأمن الاستراتيجي، وقد لا تُعنى “برلين” إلا بالجهود التي تقودها الولايات المتحدة للتحقق من الطموحات الصينية.

وتعدُّ هذه الملاحظة صحيحة جزئيًا. فعلى العكس من فرنسا، فإن النهج الألماني تجاه الصين وروسيا تقليديًا يركز على جني الفوائد الاقتصادية مع التزام الصمت بشأن القضايا الحساسة. وقد جلب هذا النهج مكاسب اقتصادية لكنه كان أكثر عرضة للنقد.

لكن الأمور تبدو مختلفة حاليًا. وقد يقلل المعلقون الصينيون من أهمية التحول الملحوظ في السياسة الخارجية الألمانية الراهنة، وكذلك التصميم المعياري الجديد لألمانيا.

النظر لما وراء أوروبا

تبدو ألمانيا مستعدة الآن للاعتراف بأن لديها مصالح وطنية استراتيجية خارج أوروبا. ويبدو أن “برلين” مستعدة لمتابعة هذه المصالح بقوة أكبر من أي وقت مضى. وفي الواقع، كانت جائحة “كوفيد ــ 19” فقط هي التي حالت دون نشر فرقاطة ألمانية في المحيطين الهندي والهادئ هذا العام.

كما رفض وزير الخارجية “هيكو ماس”، بشكل علني، التقدم الذي أحرزه نظيره الصيني في زيارة “برلين” الأخيرة، وأكد أن ألمانيا غير مستعدة لقبول الإصرار الصيني الحالي.

ومن الواضح أن بعض الساسة في روسيا والصين يثيرون حاليًا مخاوف “برلين” لأسباب مرتبطة بالقواعد وليس التجارة. فعلى سبيل المثال، تخوض ألمانيا حاليًا خلافًا دبلوماسيًا مع روسيا، متهمة إياها علانية بتسميم السياسي المعارض “أليكسي نافالني”، الذي نُقل منذ ذلك الحين إلى ألمانيا لتلقي العلاج.

وسيترتب على هذه الحالة عدة قرارات من بينها إلغاء خط أنابيب الغاز الروسي الألماني Nord Stream-2 على خلفية “نافالني”؛ لذا يجب على الصين التنبه لهذا.

من القول إلى الفعل

بينما يشير كل هذا إلى ألمانيا باعتبارها ستكون أكثر حزمًا وثقة بالنفس في المستقبل، يجب إضافة بعض المحاذير.

لذا، يجب أن تتضمن الاستراتيجية الألمانية مكونات أساسية هي: الغايات والوسائل والموارد. ففي حين أن الغايات والوسائل قد وُصِفَت بشكل جيد إلى حد ما في الاستراتيجية الألمانية تجاه منطقة المحيط الهادئ والهندي، إلا أن الموارد لا تعتبر متوفرة بشكل واضح وخاصة تلك المادية والأيديولوجية.

ففي المقام الأول، هناك فجوة كبيرة بين الخطاب الأمني​​ في “برلين”. فقد تمَّ توثيق المشكلات التي يعاني منها الجيش الألماني بشكل جيد. وقد أدى نقصُ التمويل الجاد والإدارة السياسية السيئة لسلاح الجو الألماني (البوندسفير) إلى وجود فجوة خطيرة في القدرات؛ ذلك أن الثقة المفرطة في القوة الناعمة قد أعاقت استعراض القوة.

علاوة على ذلك، فإن ثمة فجوةً عميقةً بين الجمهور الألماني المتشكك والمناهض للمؤسسة العسكرية بشكل عام، وتطلعات النخب المعنية بالسياسة الخارجية، وهم أكثر ميلًا للاستمرار في النهج القائم. لذلك، فقد فشلت “برلين” في أن تفسر لمواطنيها مبررات وأبعاد وجود مصالح أمنية لها في المناطق النائية.

أخيرًا، تعتمد استراتيجية برلين في منطقة المحيط الهادئ والهندي جزئيًا على التعددية، وزيادة الترابط التجاري والمشاركة في المنتديات التي تقودها رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان). فبينما يبدو أن هناك إمكانية للمزيد من اتفاقيات التجارة الحرة، نجد أن زيادة تمثيل ألمانيا والاتحاد الأوروبي في المنتديات التي تقودها الآسيان أمر غير مرجح في المرحلة الراهنة.

هل تستطيع ألمانيا المساهمة؟

وبناء على ما سبق، يبقى السؤال قائمًا بشأن قدرة ألمانيا على المساهمة بحكم الواقع على الأرض. ففي كلتا الحالتين، يمكن أن تكون مساهمة “برلين” وحدها مجرد قطرة في المحيط، في أحسن الأحوال. وهو ما يفسر أهمية التعاون الأوروبي الأكبر. لكن الحل الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي يتطلب إجماعًا حقيقيًا بشأن الصين، في حين أن عمليات الاتحاد الأوروبي للتعاون العسكري تبدو معقدة ومحدودة.

وفي حين أن الاستراتيجية الألمانية لمنطقة المحيط الهادئ والهندي قد تمهد الطريق لاستراتيجية مشتركة نهائية بين الاتحاد الأوروبي وتلك المنطقة في الوقت الراهن؛ ربَّما تكون النزعة الأحادية الداخلية أفضل السبل للمضي قدمًا. فالمصالح الفرنسية والبريطانية في المنطقة تتوافق إلى حد بعيد مع مصالح ألمانيا. لذلك تتوفر لدى الدول الثلاثة الكبرى القدرة على أن تكون أكثر قوة في المنطقة.

نعم، هناك البريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، وكذلك توجد علاقة صعبة بين ماكرون وميركل. لكن العلاقة بين فرنسا وألمانيا بعد عام 1945 أظهرت شراكة دائمة، كما كان الحال مع وجود حزمة من الحوافز الأوروبية الأخيرة بشأن تبعات جائحة “كوفيد ــ 19”. فالانخراط البريطاني الحالي في منطقة المحيط الهادئ والهندي يُظهر أنه رغم الأصول الكبيرة، فإن السياسة الخارجية والأمنية تعتبر أقل فعالية في ظل غياب استراتيجية محددة جيدًا.

إن استراتيجية ألمانيا الواضحة والمُفَصلة تجاه منطقة المحيط الهادئ والهندي تعتبر بداية رائعة، وإن كانت بلا أسنان في الوقت الحالي. لكنها تمهد لجهود الحكومة للمساهمة في استقرار تلك المنطقة، كما يمكن أن تكون مخططًا لنهج أوروبي تعاوني مُصَغَّر في بدايته وقد يصبح على مستوى الاتحاد الأوروبي فيما بعد.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: مدرسة راجاراتنام للدراسات الدولية S. Rajatratnam School of international Studies

 

 

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر