سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ريم عبد المجيد
في السنوات الأخيرة حققت القارة تقدمًا اقتصاديًا كبيرًا وأصبحت بلدانها من بين أكبر المنتجين والمصدرين للمواد الأولية، ورغم ذلك لم تتمكن من التخلص من عدم الاستقرار السياسي والتوترات الاجتماعية التي تعاني منها لعقود طويلة. فقد شهدت أميركا الجنوبية في الأشهر الأخيرة من عام 2019، من بوليفيا إلى الإكوادور وهايتي إلى هندوراس، مظاهرات هائلة وأحيانًا عنيفة ناجمة عن مجموعة هائلة من المظالم، بما في ذلك تزوير الانتخابات والفساد وارتفاع أسعار الوقود والنقل العام. أدت هذه الانفجارات الاجتماعية الدراماتيكية -وغير المتوقعة في العديد من الحالات- إلى اندماج المنطقة في الوعي العالمي وإثارة تساؤل عما إذا كان ربيع العربي قد انتقل إلى أميركا اللاتينية.
موجة من الاحتجاجات
تسببت الأزمات السياسية والاقتصادية التي تشهدها القارة في اندلاع الاضطرابات والاحتجاجات في عدة دول بها. ففي حالة هايتي؛ أثار التضخم وخطط الحكومة لزيادة ضرائب الوقود احتجاجات تحولت سريعًا إلى مزاعم أوسع نطاقًا بأن قادة الحكومة -بمن فيهم الرئيس- اختلسوا ما يقدر بنحو 2.3 مليار دولار من برنامج النفط الفنزويلي بتروكاريب. في حين أشار اتفاق رعاية النفط إلى أن عائدات إعادة بيع النفط الفنزويلي كانت تهدف إلى تمويل البنية التحتية والبرامج الاجتماعية التي تمس الحاجة إليها في أشد البلدان فقراً في نصف الكرة الأرضية ، لم يتم حساب غالبية العائدات.
وقد انتفضت باراجواي ضد الرئيس ماريو عبده على إثر توقيه اتفاقية مع البرازيل بشأن محطة توليد الطاقة الكهرومائية في إيتايبو والتي ستسبب أضرارًا لها. وفي بيرو قام الرئيس مارتن فيزكارا بحل الكونغرس لإجراء انتخابات برلمانية جديدة بما أدى إلى خروج مظاهرات في جميع أنحاء البلاد وقيام المواطنين بإغلاق الطريق المؤدي إلى منجم النحاس وتعطيل الإنتاج به.
وشهدت بوليفيا موجة هائلة من المظاهرات الرافضة لنتائج الانتخابات الأخيرة التي مكنت إيفو موراليس من الفوز لفترة ولاية رابعة في الجولة الأولى من التصويت رغم وجود حظر دستوري على ترشحه لولاية رابعة. فأصبحت أعمال الشغب اليومية شائعة في جميع أنحاء البلاد منذ إعلان النتيجة. وفي إكوادور، قام الرئيس لينين مورينو بسحب دعم الوقود المعمول به منذ السبعينيات، كجزء من اتفاق مع صندوق النقد الدولي (IMF ) منذ ذلك الحين، ارتفع سعر الوقود، مما تسبب في احتجاجات ضخمة شلت أجزاء من البلاد في أكتوبر. واتهم مورينو سلفه، رافائيل كوريا، والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بالوقوف وراء الاحتجاجات، والتي استمرت حتى بعد عودة دعم الوقود. وأدى اندلاع المظاهرات إلى قيام مورينو بإعلان حالة الطوارئ ونقل العاصمة من كيتو إلى غواياكيل.
ورغم أن تشيلي على أعلى مؤشر التنمية البشرية وأعلى معدل نتاج محلي إجمالي للفرد في القارة إلا أنها تواجه الآن أكبر موجة من الاحتجاجات منذ بدء التحول الديمقراطي بها عام 1990 على إثر زيادة أسعار الكهرباء في أكتوبر الماضي. وقد أدت المظاهرات الضخمة، التي تتخللها أحداث العنف، إلى إعلان الرئيس سيباستيان بينيرا حالة الطوارئ واستدعاء القوات المسلحة إلى الشوارع في استعراض للقوة كما كان يفعل الدكتاتور أوغستو بينوشيه.
وقد اندلعت أعمال عنف ضد المخدرات في المكسيك، والتي أبرزها تبادل لإطلاق النار في الآونة الأخيرة، حيث سُمح لنجل زعيم تجارة المخدرات المحتجز جواكين إل تشابو جوزمان بالهرب. وما زالت فنزويلاتتأجج، فهي منقسمة بين الرئيس اليساري نيكولاس مادورو، وريث هوجو شافيز وبدعم من كوبا وروسيا ، وزعيم المعارضة الديمقراطية خوان غايدو. وترتفع التوترات السياسية بالمثل في كل من البرازيل، في ظل الزعيم الشعبي المحافظ يائير بولسونارو، والأرجنتين، حيث ينوي الزعيم الشعبوي المنتخب حديثًا ألبرتو فرنانديز إعادة البلاد إلى اليسار.
السياق والأسباب
العوامل المشتركة بين الدول
إن تجدد الاضطرابات في أميركا الجنوبية له بعض أوجه التشابه من بلد إلى آخر، فمعظمهم بدأ لأسباب بسيطة، مثل الزيادة في أسعار تذاكر الحافلات أو المترو، ولكن في جوهرها تتعلق بقضايا السياسة العامة الأوسع مثل الفساد، التعليم، والرعاية الصحية، معاشات التقاعد، بجانب القضايا الاقتصادية خاصة في ظل ضعف المؤشرات الاقتصادية في عديد من دول القارة في السنوات الأخيرة بما صاحبه من انخفاض معدل النمو وارتفاع نسب البطالة، حتى تشيلي التي تعتبر أكثر الدول نموًا في أميركا الجنوبية، تعاني من تدهور اقتصادي.
فمنذ عام 2010، بدأت تشهد القارة حالة من التباطؤ الاقتصادي الدائم. لقد أدت هذه الأزمة الاقتصادية إلى ظواهر مماثلة في أغلب دول القارة من تدهور الظروف المعيشية، خاصة بالنسبة للطبقات الدنيا، وكذلك بالنسبة لبعض الطبقات الوسطى التي بدأت في التآكل والسقوط إلى الطبقات الدنيا. فالطبقة الوسطى كانت قد تكونت من أشخاص خرجوا من الفقر في الألفية الثانية، لكنهم -تحت وطأة الأزمة الاقتصادية- يجدون أنفسهم مرة أخرى على مستوى الفقر. يضاف إلى ذلك السكان الفقراء بالفعل، الذين بدأوا في الزيادة في أميركا الجنوبية منذ 2015-2016. بالإضافة إلى تفاقم مشكلة واللامساواة الاجتماعية في الوصول إلى الخدمات العامة للفقراء.
وفي هذا الصدد يجب التأكيد على أن التحول نحو تطبيق النموذج الرأسمالي النيوليبرالي في دول أميركا الجنوبية بعد أن كان أغلبها نظم اشتراكية عسكرية. فقام الليبراليون الجدد بتفكيك الاقتصادات القومية وشجعوا التجارة الحرة في جميع أنحاء المنطقة. هذا بدوره قلل من الإنفاق الحكومي على حساب البرامج الاجتماعية، وأدى إلى انتشار الخصخصة على نطاق واسع في جميع المجالات وبخاصة المجال الاجتماعي (التعليم، الصحة، المعاشات، النقل..الخ). فرغم نجاح هذا النموذج في خفض الفقر في بعض دول القارة مثل تشيلي، إلا أن التفاوتات الاجتماعية بين الطبقات استمرت في الاتساع بشكل مطرد، بما جعل اقتصاد هذه الدول يخضع لسيطرة عدد محدود من النخبة السياسية. هذا أدى إلى حد كبير، إلى تحفيز الفئات العمالية والفقيرة والشباب.
وبجانب العوامل الاقتصادية السابق ذكرها، حفزت عوامل سياسية شعوب أميركا الجنوبية للاحتجاج ضد حكامهم. فكان الغضب الشعبي من القيادات السياسية بعد موجة من فضائح الفساد التي طالت النخب السياسية التقليدية وبخاصة في بيرو وهايتي وكذلك في البرازيل والمكسيك. هذا بالإضافة إلى رفض النظام الديمقراطي كونه غير ملائم لهم بجانب خرقه وتجاوزه من قبل الحكام كما فعل رئيس بوليفيا، وفي هذا الصدد جاءت نتائج استطلاع رأي حول رضا المواطنين عن الديمقراطية منخفضة، وأُشير أنه أدنى مستوى على الإطلاق.
العوامل الفردية
وبخلاف العوامل المتشابه في جميع الحالات يوجد اختلافات في كل حالة. ففي حين أن الاحتجاجات في هايتي نشأت عن التضخم والغضب الشعبي من الفساد الحكومي، فإن الاحتجاجات الإكوادورية قد شددت على كونفدرالية القوميات الأصلية في الإكوادور، ورفضت سياسات التهميش والتمييز. أدت المخالفة للدستور في الانتخابات في بوليفيا إلى دعوات لتعزيز المؤسسات الديمقراطية، وما زالت الاحتجاجات في تشيلي تنبع من الغضب بسبب الطبقة السياسية غير القابلة للمساءلة وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
العواقب المحتملة
تشير الاحتجاجات ليس فقط إلى غضب الشعوب من الحكام بل أيضًا من الأنظمة النيوليبرالية التي فرتضها إلى حد كبير القوى الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة، والمؤسسات الدولية المالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فيما يعرف بالمشروطية السياسية والاقتصادية لتلقي المساعدات والقروض. فبدأ المواطنون ينادون بالتغيير ويتصوتون لصالح قادة ذوي شعارات قومية مثل هوجو شافيز في فنزويلا الذي يروج للسياسات الاشتراكية وقدم اقتراح تضامن أميركا الجنوبية ضد النفوذ الأميركي. من هذا المنطلق؛ يرى البعض أن الاحتجاجات قد تساهم في سقوط الأنظمة النيوليبرالية وفي عودة الأنظمة الاشتراكية مرة أخرى وبخاصة أنها تروج لفكرة إيلاء الاهتمام بالفقراء بجانب وعود الحكومات الاشتراكية بالتركيز على السياسات القومية.
ويرى البعض أن هذه الاحتجاجات لا يبدو أنها تقود في أي مكان، وأنه من المحتمل جدًا أنها لن تحقق نوع التغيير المقصود منها. فباستثناء بوليفيا التي تم بها إجبار إيفو موراليس على الاستقالة وسجن أعضاء المحكمة الانتخابية بتهمة تنظيم عملية انتخابية مزيفة، لا يبدو أن باقي الدول ستتمكن من تحقيق تحول، أي ستظل تعاني من عدم الاستقرار السياسي والأزمات الاقتصادية دون تغيير جوهري في أنظمتها.
المصدر: المركز العربي للبحوث والدراسات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر