تساؤل دفعت إليه الأحداث التي جرت في الأيام القليلة الماضية، سيما بعد التصريح الذي أطلقه الرئيس الإيراني حسن روحاني، والذي أشار فيه إلى أن بلاده مستعدة للدخول في مفاوضات “عادلة”، ما لم تكن هذه المفاوضات تعني الاستسلام.

كعادته وديدن كافة الإيرانيين من المسؤولين، يجيد روحاني اللعب على المتناقضات، وفكرة تسويف الوقت، إذ لم يشر إلى أي محادثات يقصد، ومع من، ومن أجل أي غرض، وهو ما يتضح من العبارات الغامضة والملتوية التي تبعت الجزء الأول من كلامه، وذلك حين أضاف وفقا لموقعه الرسمي: “ما دمت مسؤولا عن الواجبات التنفيذية للبلاد، فنحن مستعدون تماما لإجراء مفاوضات عادلة وقانونية وصادقة  لحل المشكلات”، ومكملا  “لكن في الوقت نفسه لسنا مستعدين للجلوس إلى طاولة الاستسلام تحت مسمى المفاوضات”.

يدرك القاصي والداني أن روحاني لم ولن يكن صاحب قرار في الداخل الإيراني، وأن الأمر برمته في يد مرشد الثورة خامنئى الذي كرر بصيغة عصرانية مقولة سلفه الخوميني، بأن الجلوس على مائدة المفاوضات مع الجانب الأميركي، أمر معناه أن يتجرع الإيرانيون كأس السم، وهذا ما لن تقبله إيران.

هل روحاني صادق في دعوته للحوار، حتى وإن لم يكن صانع قرار بالفعل في الداخل الإيراني؟

لنؤجل الجواب إلى أن نستعرض مشهدا إيرانيا جديدا جادت به وسائل الإعلام الغربية نهار الخميس الماضي، حين أشارت إلى أن إيران اختبرت صاروخا باليستيا يبلغ مداه ألف كيلومتر، الأمر الذي أكدته وزارة الدفاع الأميركية، وذلك في محاولة منها لتحسين “مدى ودقة” منظومة الأسلحة الصاروخية التي تمتلكها.

هل تريد إيران تفاوضا حقيقيا مع الجانب الأميركي الذي وضع البرنامج الصاروخي ضمن قائمة الإثنى عشر شرطا المطلوب من إيران تنفيذها للمضي قدما لاحقا في طريق اتفاق تفاوضي جديد، أم أن إيران تريد المزيد من الصواريخ على النسق النازي الألماني، ذاك الذي هدد أوروبا والأوروبيين طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، ولو طال أمد الحرب قبل أن تتدخل الولايات المتحدة لصالح دول الحلفاء، لربما ما استطاع أحد أن يوقف برنامج هتلر الصاروخي وضحاياه حول العالم؟.

ترفض إيران شكلا وموضوعا أن يوضع برنامجها الصاروخي على مائدة النقاشات والتفاوض، ومن المثير للتأمل الرد الإيراني على وزير الخارجية الفرنسي “جان إيف لودريان”، والذي خرج به من زيارته في ربيع عام 2018، حين ذهب إلى هناك مطالبا الإيرانيين بوقف البرنامج الصاروخي الخاص بهم، وقد جاء على النحو التالي: “يمكننا أن نوقف البرنامج في حالة واحدة فقط وهي أن تتخلى أميركا وأوروبا معا عن أسلحتهما الصاروخية، في هذه الحالة فقط يمكننا أن نترك برنامجنا الصاروخي وراء ظهرنا”.

يكشف الرد التعجيزي إن جاز التعبير الذي حصل عليه “لودريان” عن النوايا  الإيرانية المعروفة منذ زمان وزمانيين، أي امتلاك أسلحة  مهددة للأمن والأمان الإقليمي من جهة، والدولي من جهة أخرى، سيما وأن إيران لديها أسلحة صاروخية تتجاوز الألفي كيلومتر، وبعضها يمكنه أن يطال دول جنوب أوربا بشكل خطير.

أغلب الظن أن دعوات روحاني للحوار المشروط بعدم الاستسلام من وجهة نظره، ليست إلا تلاعبا جديدا على المتناقضات الإيرانية الداخلية، في سياق تسويف الوقت، والإيرانيون بالتجربة بارعون في هذا السياق، وجل هدفهم أو ما يسيطر على عقولهم من أفكار، هو أن تنقضي الفترة المتبقية من ولاية الرئيس دونالد ترامب، ليجد نفسه لاحقا خارج البيت الأبيض، وليحل من بعده رئيس ديمقراطي لين العريكة، يمكن تطويعه لصالح الجمهورية الإيرانية، وتوجهاتها الثورية، رئيس من نوعية باراك أوباما، ذاك الذي سيحاسبه التاريخ على الاتفاق سيئ السمعة الذي أبرمه مع الإيرانيين، ناهيك عن الدور المشبوه الذي قام به في دعمه وزخمه لتيارات الإسلام السياسي، تلك التي عاثت فسادا ولا تزال في العالم العربي منذ العام 2011 وحتى الساعة.

ولعل ما يثبت زيف أحاديث خامنئ عن المفاوضات، ما صرح به المستشار العسكري لمرشد الثورة الإيرانية على خامنئ يوم الأربعاء الماضي من أن طهران لن تتفاوض مع واشنطن تحت أي ظرف، في تشديد على ما يبدو لموقف طهران في ظل الأزمة.

هل عدنا مرة ثانية إلى التقسيم الإيراني الممجوج بين الحمائم والصقور؟

مخطئ من يظن أن لدى الإيرانيين معسكرين على هذه الشاكلة، فكلاهما من عتاة الصقور الخاطفة والتي تتحين الوقت للانقضاض على فريستها، وعلى غير المصدق أن يتأمل مشهد تعاطيها مع السفن البريطانية بنوع خاص، وكيف أنها تمضي في اتباع سياسة العين بالعين والناقلة بالناقلة، ما ينفي وجود أي إرادة حقيقية لتفاوض إيراني جدي وجديد، ينهي الإشكالية الإيرانية ومواجهاتها مع الولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص.

وصلت الرسالة الإيرانية التفاوضية المزيفة إلى الجانب الأميركي بسرعة كبيرة، ولهذا كان الرد الأميركي حاسما وحازما مرة واحدة، وربما حمل صدمة ما للجانب الإيراني، فقد أكد وزير الخارجية  “مايك بومبيو”، بأنه مستعد للذهاب إلى إيران والظهور على التلفزيون الوطني للبلاد والتحدث إلى الإيرانيين مباشرة.

بومبيو أشار إلى أن وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف”، يأتي إلى نيويورك، ويتنقل بالسيارة، ويتحدث إلى وسائل الإعلام وإلى الراي العام الأميركي، ويقوم ببث الدعاية الإيرانية على الموجات الأميركية.

هل يملك روحاني أو خامنئ أي جرأة ليوجها لبومبيو مثل هذه الدعوة؟ أم أن مخاوفهم من الحقائق التي سيذكرها وزير الخارجية الأميركية للشعب الإيراني، تجعل من شبه المستحيل الموافقة على مثل هذه الزيارة الفاضحة والكاشفة؟

أقل ما يمكن أن يقوم بومبيو بسرده وعرضه على الشعب الإيراني، أرقام الأموال الإيرانية المنهوبة منهم، والكائنة في بنوك أوربا وأميركا، تلك التي تمت سرقتها تحت شعارات كاذبة ووهمية تدعي تصدير الثورة إلى الخارج، ولعل المرشد العام سيكون المثال السيئ الأكبر في هذا الإطار، فالرجل الذي وضعته أميركا تحت بند العقوبات،  تتراوح ثروته ما بين مائتي وأربعمائة مليار دولار، ما يعني أن بومبيو كفيل بأن يلهب مشاعر الجماهير الإيرانية، ويكشف لها كيف أنهم ضحايا للملالي، وأن الخلاص منهم هو الحل الوحيد لعودة إيران دولة طبيعية في نطاقها وسياقها الجغرافي والديموغرافي.

لن تكون هناك مفاوضات طالما بقي خامنئى في السلطة قابضا على الحرس الثوري الموصوم والموسوم بالارهاب، سيما وأن الرجل يرى من الأصل وفي المنبع والأساس أن التوصل إلى اتفاق نووي كان خطأ، وأنه يتوجب تجاهل الاتفاق النووي والإقدام على خطوات عسكرية تمثل تهديدا لجميع دول المنطقة المتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية.

الخلاصة.. قالوا وخير القول قول العارفينا… مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا.