علاقة إيران بجماعات العنف والتطرف ليست مجرد علاقة تقليدية، ولم تقتصر هذه العلاقة على مجرد استخدام هذه التنظيمات أو استثمار وجودها في منطقة الشرق الأوسط، بل تعدّتهما إلى صناعة هذه التنظيمات ومن ثم فن صناعة الإرهاب، وهنا نتحدث عن الإرهاب بشقيه السنّي والشيعي، فإيران شاركت في صناعة كل الجماعات المتطرفة ذات المرجعية الشيعية مثل “حزب الله” اللبناني والعراقي والحشد الشعبي في العراق والحركة الحوثية في اليمن، كما شاركت في صناعة التنظيمات ذات الامتداد السنّي مثل تنظيمي “قاعدة الجهاد” و”داعش” وغيرهما.
تجاوزنا في حواراتنا الحديث عن العلاقة التي تجمع طهران وتنظيم “القاعدة”، إلى فكرة أن إيران كانت حاضرة في صناعة التنظيم نفسه، وأن ثمة روابط وجسوراً كانت تربط التنظيم منذ نشأته بإيران في كل المحطات، وهو ما دفع أبو محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم “داعش”، والذي قُتل في غارة أميركية في وقت سابق، الى كشف هذه الحقيقة في أحد التسجيلات الصوتية الموجهة الى أيمن الظواهري زعيم تنظيم “القاعدة”.
وصف العدناني في التسجيل الصوتي (أمير القاعدة) الظواهري فبل سنوات بالشيخ الخرف والسّفيه بسبب طلب الأخير من “داعش” عدم مهاجمة إيران، حتى لا تتأثر الإمدادات التي تتلقاها “القاعدة” منها، وللمناسبة استجاب “داعش” لهذه الرغبة القاعدية الملحّة، وهو ما يضع كلا التنظيمين موضوع الاتهام في علاقتهما بإيران، فكما نتّهم إيران بعلاقتها بـ”القاعدة” نتّهم “داعش” أيضاً، فهو إحدى نبتات “القاعدة” التي جنتها منطقتنا العربية، وقد أوضح العدناني ذلك في الملاسنة الشهيرة بقوله “إننا كنا متهمين بالعمالة والخيانة لإيران”.
نجحت إيران في عقد تحالف استراتيجي مع تنظيم “القاعدة” الذي قام بتنفيذ أجندتها التخريبية. لم يقتصر الأمر على تراجع “القاعدة” عن تنفيذ عمليات مسلحة ضد طهران، بل تحول التنظيم أداة لتنفيذ المشروع الإيراني، وليس أدل على ذلك من إنشاء “القاعدة” ما سُمّي بـ”الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين”، وكانت مهمتها بعد تدشينها عام 1998 مهاجمة القوات الأميركية والإسرائيلية أو اليهود في أي مكان.
التحوّل الإستراتيجي في توجّه “القاعدة” لم يكن عفو الخاطر، ولكن تم ذلك باتفاق وتنسيق مع إيران التي أمدّت “القاعدة” بكل ما أراد، وهو ما مثّل استثماراً إيرانياً للتنظيمات المتطرّفة السنّية، ما حدا بأحد قيادات “داعش” في ما بعد الى كشف هذه العلاقة.
استضافت إيران قيادات “القاعدة” ووفرت لهم حماية عندما اشتد القتال فوق رؤوسهم أثناء الحرب الأميركية في أفغانستان بعد ضرب برجي مركز التجارة العالمي. وكانت استقبلت من قبل هذه القيادات عندما فرّت هاربة من السودان على وقع الاستهداف الأميركي في التسعينات من القرن الماضي، حتى إن زوجات أسامة بن لادن، زعيم “القاعدة”، ما زلن يقمن في إيران أو ما زالت طهران ترحب بوجودهن.
وربما كشف مقتل أبو محمد المصري، الرجل الثاني في التنظيم في إيران في آب (أغسطس) من العام 2019 اللثام عن استضافة طهران الإرهاب على أراضيها، ومحاولة استثمار هذه البيادق لمصالحها أو ضد خصومها، وهو ما يكشف العلاقة بين إيران وكل تنظيمات العنف والتطرف، سواء السنّية أم الشيعية والتي تمثّل أذرعها العسكرية لردع خصومها في المنطقة، أو من خلالها تحاول تنفيذ مشروعها التوسعي في المنطقة العربية.
استضافت إيران قيادات “الجماعة الإسلامية” الذين فرّوا من مصر في التسعينات من القرن الماضي قاصدين الأراضي الإيرانية، هؤلاء الذين خاضوا حرباً ضد الدولة وخصومهم؛ حرباً دموية قائمة على القتل والتمثيل بجثث مخالفيهم. ومن الذين استضافتهم على سبيل المثال، محمد الإسلامبولي، شقيق خالد الإسلامبولي، قاتل الرئيس المصري محمد أنور السادات، حتى عاد الى القاهرة عام 2011 عن طريق تركيا، وحكى لي شخصياً تجربة استضافته في إيران مع غيره من قيادات الجناح العسكري للجماعة والدعم الذي كانت تقدمه لهم إيران.
إيران تمسك بعصا الإرهاب منذ قيام ثورتها عام 1979 وتلوّح بها لجيرانها، ليس هذا فحسب، بل تستخدم هذه التنظيمات في تنفيذ أي ضربة لأي دولة بهدف الردع والتخريب وبث الفوضى ومحاولة تنفيذ مشروعها التوسعي، مستخدمة كل الأسلحة، المشروع منها وغير المشروع.
الخطوة الأميركية في كشف العلاقة التي بدت عند البعض ملتبسة في علاقة إيران بـ”القاعدة” متأخرة، وإن كانت مهمة، بخاصة أن الولايات المتحدة اطّلعت على الحاسوب الشخصي لزعيم “القاعدة” أسامة بن لادن بعد اغتياله عام 2011، وهو ما أكد هذه العلاقة عبر مراسلات تؤكد التبعية والاحتضان. على كل الأحوال، وبرغم موثوقية المعلومات التي تؤكد العلاقة بين إيران و”القاعدة”، إلا أن المجتمع الدولي لم يتعامل بجدية مع تهديدات طهران أولاً ولا تهديدها للأمن والسلم الدوليين ودعمها للإرهاب ثانياً، كما لم تكن هناك إجراءات رادعة لها على هذا السلوك المتماهي مع الإرهاب وتنظيماته.
السلوك الدولي في عدم معاقبة إيران برغم دعمها جماعات العنف والتطرف هو ما أدى الى انتشار الإرهاب بصورة كبيرة في كل دول العالم، بما فيها القارة الأوروبية التي تُعاني عجزاً أمام مواجهة التنظيمات المتطرفة العابره للحدود والقارات، وإذا أراد المجتمع الدولي التخلص من الإرهاب أو التخفف من فاتورته فعليه مواجهة إيران وتهذيب سلوكها وقطع خطوط الإمداد بينها وبين كل جماعات العنف والتطرف.
على المجتمع الدولي أن يواجه الدول الداعمه للإرهاب، كما يواجه الجماعات والتنظيمات المتطرفة، فلا فائدة من مواجهة التنظيمات المتطرفة، بينما نترك الدول الحاضنة لهذه التنظيمات والتي تمثل لها إكسير الحياة وتمدّها بالأوكسجين عبر رئتين، تتنفس منهما هذه التنظيمات، فالقضاء عليها يتطلب إيقاف عمل هاتين الرئتين اللتين وفرتهما إيران مع دول أخرى استفادت من العنف والإرهاب، سوف يأتي الحديث على هذه الدول في مناقشة أخرى.
دعم إيران للإرهاب وتنظيماته لا يُهدد الأمن القومي العربي أو الخليجي فقط، بل يُهدد الأمن العالمي أو الإنساني إن جاز التعبير، وهو ما يتطلب تحركاً دولياً لمواجهة إيران، كما أن هذا التحرك أخذ مثاراً جدياً في مواجهة تنظيمات العنف والتطرف، هذا إن أردنا أن نواجه الإرهاب لا أن نواجه بعض تبعاته. بخلاف ذلك سوف يظل الإرهاب يُهدد الجميع كما سوف ينتقل تهديد إيران لجيرانها إلى تهديد العالم، وهنا لا بدّ من استحضار الخطر الإيراني ووضعه في منزلته من دون تهويل أو تهوين، كما لا بدّ من أن ندرك أن إيران انتقلت من مجرد دعم تنظيمات العنف والتطرف إلى أن أصبحت بارعة في صناعة الإرهاب عبر تنظيماته المنتشرة في الشرق والغرب.