سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
صلاح خليل إبراهيم
في الوقت الذي تركز فيه انتباه العالم حول الانتخابات الأمريكية، تحول الجزء الشمالي من إثيوبيا إلى مركز لحرب أهلية بعدما أعلن رئيس الوزراء “آبي أحمد”، في 4 نوفمبر 2020، البدء في شن عمليات عسكرية شمال إثيوبيا في إقليم تيجراي، ردًّا على ما وصفه بهجوم الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي على قوات جيش الدفاع الإثيوبي. وقبل بدء تنفيذ هذه العمليات تواردت تقارير عن تجمع لحشود عسكرية للقوات المسلحة الإثيوبية وللقوات الخاصة التابعة لإقليم أمهرة على تخوم إقليم تيجراي، بالإضافة إلى حشود عسكرية إريترية أخرى على طول الحدود الفاصلة بين إريتريا والإقليم الواقع شمال إثيوبيا. وتأتي هذه العملية العسكرية بعد شهور من تصاعد التوتر بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم تيجراي التي هيمنت على الائتلاف الحاكم في إثيوبيا لسنوات طويلة منذ عام 1991 وحتى وصول “آبي أحمد” للسلطة عام 2018.
أولًا- عوامل التمرد في إقليم تيجراي:
ثمة عدد من الأسباب جعلت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي تتمرد على حكومة “آبي أحمد”، بداية من فقدانهم للسلطة، مرورًا بسياسات حكومة “آبي أحمد” التي دفعتهم إلى الاتجاه لحمل السلاح والتلويح بالانفصال. فمنذ تولي “آبي أحمد” السلطة، تعرضت جبهة تحرير تيجراي للتهميش وأصبحت كبش فداء لمشاكل البلاد، مما أدى لانسحاب وزرائها من الحكومة الفيدرالية عام 2019 بعدما تم حل الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي وخلفها “حزب الازدهار”. من ناحية أخرى، أعلنت الحكومة المركزية في إثيوبيا تأجيل الانتخابات في البلاد بسبب تفشي فيروس كورونا (كوفيد-19)، وعلى الفور اتهمت جبهة تحرير تيجراي حكومة “آبي أحمد” بالتهرب من الاستحقاق الانتخابي للبقاء فترة أطول في السلطة.
وفي سبتمبر 2020، تحدت حكومة إقليم تيجراي الحكومة المركزية، وسارعت بإجراء الانتخابات في الإقليم من جانب واحد. وفي الوقت نفسه، رأت الحكومة الإثيوبية أن تلك الانتخابات غير شرعية، وبناءً على ذلك اتخذت حكومة رئيس الوزراء “آبي أحمد” قرارًا بعدم الاعتراف بهذه الانتخابات. في الوقت ذاته، اعتبرت حكومة إقليم تيجراي أن حكومة “آبي أحمد” فاقدة للشرعية منذ 5 من أكتوبر 2020، ودعت “آبي أحمد” إلى التنحي وتشكيل حكومة انتقالية حتى موعد الانتخابات القادمة.
ثانيًا- تمرد التيجراي ورد فعل الحكومة:
وفي الواقع، اتّخذت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي عاصمة الإقليم (ميكيلي) كخطوة أولى استباقية لمعارضة أكثر شراسة ضد سياسة حكومة “آبي أحمد” بإثيوبيا، واعتمدت الجبهة على ما تمتلكه من خبرات سياسية وتنفيذية في إدارة مؤسسات الدولة، لا سيما في تقارب رؤاها مع العديد من المعارضين لمشروع “آبي أحمد”، مثل دكتور “بكيلي جيربا”، والناشط السياسي وأيقونة ثورة الأورومو “جوهر محمد”، والدكتور “مرارا جودينا” وبعض القيادات الشابة في حزب مؤتمر الأورومو الفيدرالي الذين لا يزالون قيد الاعتقال والمحاكمة حاليًا، بالإضافة إلى عدد آخر من السياسيين المعارضين مثل الصحفي “إسكندرنيجا” مؤسس الحزب الديمقراطي الإثيوبي. ومن جهة أخرى، تتمتع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي بمقومات دولة في شمال إثيوبيا، وتحمل إرثًا طويلًا على المستوى الحرب أو الحكم والإدارة، فضلًا عن سيطرتها بقوة على الأراضي الممتدة من تخوم إقليم أمهرة، والحدود مع السودان، والحدود مع إريتريا، ولديها إمكانيات كبيرة في الحشد والتعبئة مستفيدة من النضال الطويل الذي بدأته منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
ومما يعقد من المواجهة العسكرية حقيقة امتلاك الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي القدرة الهائلة من حيث الإمكانيات العسكرية المتطورة للصمود في القتال، بالإضافة إلى موارد مالية مقدرة، وشبكة علاقات خارجية قوية، لا سيّما في عملية التواصل القوي مع القوى الإقليمية والدولية. وتمتلك الجبهة الشعبية أكثر من نصف القوات المسلحة الإثيوبية، ونحو 70% من الصواريخ والمعدات المضادة للطائرات تحت سيطرة الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي.
وقد اختارت الحكومة الفيدرالية سلاح المواجهة ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي في 31 من أكتوبر 2020، عندما أصدر الجيش الإثيوبي بيانًا شديد اللهجة إلى حكومة إقليم تيجراي نتيجة احتجاز نائب قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإثيوبي الجنرال “جمال محمد” المعين حديثًا بعد وصوله مطار مكيلي عاصمة إقليم تيجراي، ثم تم إعادته مباشرة إلى أديس أبابا. كان واضحًا من البيان أن الجيش يريد أن يفرض هيبته على القواعد العسكرية في شمال إثيوبيا، خوفًا من أن يتم استخدامها ضده من قبل الجبهة الشعبية، فكان الأمر أشبه بانشقاق داخل القاعدة الشمالية، وهو الأمر الذي ظهر بعدم وجود مقاومة داخل القاعدة قبل بداية العمليات العسكرية، وهي دلالة واضحة على أن المنتمين للجبهة الشعبية داخل القاعدة هم الأكثر نفوذًا.
في الواقع، ترى الحكومة الإثيوبية أن لا سبيل لحل الإشكاليات مع إقليم تيجراي إلا بالحرب من خلال العمليات العسكرية والقصف، ولا مجال للحوار والحل السلمي نسبة لهيمنة جبهة تحرير تيجراي على الاقتصاد الإثيوبي زهاء العقود الثلاثة الماضية. وأيضًا تمثل الحرب فرصة كبيرة لحزب حزب الازدهار الذي يقوده “آبي أحمد”، لتنفيذ مشروعه الخاص بالوحدة الوطنية، كما يروج لها الحزب في خططه لتقويض النظام الفيدرالي، الذي يوفر ويضمن حكمًا ذاتيًّا لجميع الإثنيات الإثيوبية، وهو الأمر الذي فشلت فيه حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي وحلفائه من قومية الأمهرة على مدى سنتين من العمل المتواصل.
وفي الوقت نفسه، طالب رئيس الوزراء “آبي أحمد” الإثيوبيين العاملين في الخارج بالمساهمة في تمويل الحرب من خلال تحويل أموالهم عبر البنوك الوطنية بدلًا من تحويلها عبر الشركات الخاصة لتحويل الأموال، وهي محاولة منه لاتهام جبهة تحرير تيجراي باستغلال تحويلات الإثيوبيين من الخارج عن طريق الشركات الخاصة وتهريب الأموال إلى خارج البلاد. ومحاولة من جانب “آبي أحمد” لكسب ثقة الإثيوبيين، وتأكيدًا لثبوت اتهامه لقومية تيجراي، بشن الهجوم على القاعدة العسكرية في شمال إثيوبيا؛ قامت حكومته بحملة اعتقالات واسعة في وسط جبهة تحرير تيجراي، وأغلقت مكتب قناة (يمتي وويان) التابعة للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، ومنعت مغادرة أي شخص ينتمي لقومية تيجراي وفقًا للبطاقة الشخصية عبر المطارات والمنافذ البرية، وهي إجراءات عقابية جماعية اتخذتها الحكومة الإثيوبية تجاه قومية تيجراي.
ثالثًا- تداعيات الحرب:
تعكس الحرب الدائرة حاليًّا بين رئيس الوزراء وبعض القوميين الأمهرة مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي صراعًا على السلطة بين كل من الحكومة الإثيوبية الحالية وحكومة الإقليم التي قادت قبل سنوات الائتلاف الحاكم في إثيوبيا. وإلى جوار ذلك سوف تكون تكلفة الحرب الدائرة الآن في إثيوبيا عالية، حيث ستربك الاقتصاد الكلي للدولة، خاصة في ظل الموجة الثانية المتوقّعة من جائحة كورونا. ولا شك أن الحرب سوف تؤثر على مستقبل كل الجماعات الإثنية الإثيوبية بعد ارتفاع الصراعات المتعلقة بحدود الأقاليم، وربما ذلك يقود الأقاليم الإثيوبية إلى تكوين دويلات مستقلة مستفيدة من حالة الفوضى التي تضرب إثيوبيا، باعتبار الانفصال خيارًا بات مطروحًا من قبل بعض الدوائر السياسية في عدد من الأقاليم الإثيوبية.
ووفق تقرير نشرته مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية، فإن الصراع القائم حاليًّا بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي يُعتبر كارثة حقيقية يهدد بقاء إثيوبيا، باعتبار أن إقليم تيجراي هو الإقليم الوحيد الذي به القاعدة الرئيسية لأقوى وحدات الجيش الإثيوبي في المنطقة الشمالية، فضلًا عن أن عدد الجنود يمثلون 50% من تعداد الجيش الإثيوبي، ويضم عتادًا حربيًّا وآليات عسكرية ضخمة وكبيرة. بالإضافة إلى أن نسبة كبيرة من العسكريين الذين أُقيلوا أو فصلوا من جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية في سلسلة الإقالات التي نفذها “آبي أحمد” منذ وصوله للسلطة، رجعوا إلى إقليمهم وقاموا بتدريب جيل جديد من المجندين للدفاع عن قومية تيجراي والإقليم. إضافة إلى أن الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي هي الأفضل تسليحًا، والأشد قوة من باقي القوى السياسية الإثيوبية المعارضة، لا سيما أن قوتها تكمن في المحاربين القدامى الذين شاركوا في العديد من الحروب، بداية من الحرب ضد نظام منجستو، مرورًا بالمعارك بين إثيوبيا وإريتريا في مثلث بادمي بين عامي 1998-2000.
وبعيدًا عن التداعيات العسكرية والاقتصادية للحرب، بدأت التداعيات السياسية في الظهور مبكرًا، حيث أجرى رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” في 8 من نوفمبر، تعديلات كبيرة في قيادات الدولة العليا، شملت الخارجية ورئاسة الأركان وجهاز الأمن الوطني والشرطة الفيدرالية. وقرر تعيين “ديميكي مكونين” وزيرًا للخارجية، بالإضافة إلى احتفاظه بمنصبه كنائب لرئيس الوزراء، وعين “تمسجن تيرونه” الذي كان يشغل منصب حاكم إقليم أمهرة مديرًا عامًا لجهاز المخابرات والأمن الوطني، والجنرال “برهانو جولا” رئيسًا لهيئة الأركان، والجنرال “أببا تاديسي” نائبًا لرئيس هيئة الأركان، فيما أصبح “جيدو أندرجاتشيو” وزير الخارجية السابق مستشارًا للأمن القومي لرئيس الوزراء.
ومن الملاحظ أن معظم التعديلات الوزارية جاءت لصالح قومية أمهرة، لتؤكد استمرار التحالف القوي بين “آبي أحمد” وقومية أمهرة، لكن هذا الوضع قد يشير أيضًا إلى مآرب أخرى تتعلق بسعي “آبي أحمد” لاحتواء أي تهديد محتمل له قد تفرضه قيادات أمهرة المحيطة به في ظل ارتفاع المخاطر في الوضع السياسي والأمني المعقد. ويبقى رئيس مدير جهاز المخابرات الجديد “تمسغنتيرونه” الحاكم السابق لإقليم أمهرة، من أهم الشخصيات التي تولت مناصب حساسة في التغييرات الأخيرة، حيث سبق أن عمل مع “آبي أحمد” في وكالة أمن المعلومات، وأيضًا كان من المقربين والملمين بالتفاصيل الدقيقة لتكوين ونفوذ جبهة تحرير تيجراي وقت سيطرتها على الحكم في البلاد.
رابعًا- مستقبل الأزمة:
خلاصة القول، يبدو أن الحرب الحالية التي تخوضها الحكومة الإثيوبية في إقليم تيجراي سوف تزيد الأوضاع في إثيوبيا تعقيدًا، ولن تسفر عن نصر حاسم لأيٍّ من طرفيها، وهو ما يرجع إلى عدد من الأسباب تتضمن حقيقة أن العملية العسكرية في إقليم تيجراي وبهذه الطريقة تُعطي انطباعًا وشعورًا لدى قومية تيجراي بأن الحرب التي تشنها الحكومة الإثيوبية تستهدفهم في المقام الأول، مما سيعزز من تضامنهم وتماسكهم على أرض المعركة. هذا بجانب ما يؤدي إليه دخول الحكومة الفيدرالية في حرب مع تيجراي من تعميق الكراهية، وزيادة من خطاب الصراعات ذات الطابع الإثني في عموم البلاد، وهو الأمر الذي ظهرت نتائجه في توظيف بعض القوميات لشبكة التواصل الاجتماعي في بث الكراهية على نطاق واسع. كما يأتي قرار إعلان العملية العسكرية من حكومة “آبي أحمد” في إقليم تيجراي ليجعل الإثيوبيين يفقدون الثقة في جميع مؤسسات الدولة، ويغذي النزاعات الانفصالية التي قد تضرب أقاليم أخرى غير إقليم تيجراي.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر